تازة بريس
عبد الإله بسكًمار
إذا افترضنا جدلا وجود شيء إسمه الثقافة بتازة، فإنه لا يختلف في شيء عن وضعية الجمود بل والموات التي تعيشها مختلف القطاعات في هذه المدينة المنكوبة، فهذا الوضع لا يمكن فصله عن الحالة العامة التي تنيخ بكلكلها على تازة، لا نحصر حديثنا المتشعب دون شك قبل أو خلال أو بعد الجائحة، فالواقع أن أزمة الثقافة بتازة تتعدى هذا الإطار الزمني أو الظرفي بكثير، وهي محكومة بميكانيزمات مركبة ولكنها معروفة معلومة لدى الرأي العام ككل، يأتي على رأسها الريع والارتزاق من المال العام وإجهاض كل المشاريع البناءة ثم خدمة هذا ” الشاف ” أو ذاك، في صراع المواقع من أجل المصالح الخاصة، فالوضع أشبه ما يكون بسوق أسبوعي تتحلق عبره هذه الشلة أو تلك، ولا يجمع القوم في أغلب الحالات سوى صراعات المواقع والاعتبارات المصلحية الضيقة، من أساليب ارتزاقية أو تعويضات أو سفريات أوتشغيل أوترقٍّ وظيفي أو مواقع معلومة، وحينما نتحدث عن الثقافة فنحن لا نقصد فقط هذا المهرجان أو ذاك، ولا نروم هذه الندوة أو ذاك اللقاء، وإنما نحاول أن نرى إلى عمق البنية ما أمكن، والعوامل المتحكمة فيما يسمى بالممارسة الثقافية وهي تشمل علاوة على ما ذكرنا أي المهرجانات واللقاءات والمتابعات والتظاهرات، تشمل مختلف أوجه الظاهرة الثقافية في شموليتها، بدءا من البنية التحتية مرورا بالؤسسات والإطارت المعنية وانتهاء ببعض تجليات السياسة الثقافية الحالية، من خلال نماذج معينة ودائما ضمن افتراض وجود ظاهرة تسمى الثقافة بتازة تجاوزا.
من المخجل حاليا الحديث عن وجود بنية تحتية ثقافية بمعنى الكلمة، فحتى ما هو كائن منها يظل بئيسا ومتواضع العطاء، يمكن إيراد مسرح تازة العليا كنموذج وهو المؤسسة الخاضعة عموما لمنطق الزبونية و”باك صاحبي” علاوة على موقعه غير المناسب أصلا، فهو يوجد في أقصى جنوب المدينة العتيقة، عبر حيز منعزل نوعا ما عن الساكنة وحركية المجال، مما جعل إشعاعه محدودا للغاية، وكان من اللازم اعتباره مكسبا حقيقيا للمدينة لولا تسلط البعض على الميدان، دون كفاءة أو مصداقية على أرض الواقع، فاستغلال هذا الفضاء موكول إلى اعتبارات معينة لا داعي للتفصيل فيها .
ومن باب الخجل أيضا الحديث عن المركب الثقافي مولاي يوسف والذي أصبح كأساطير الأولين، فلا المشروع اكتمل وبات جاهزا بعد ثماني سنوات من المصادقة عليه من طرف العمالة، ولا تم الاستغناء عنه رسميا، وإن كان وضعه الحالي كبناية غير مكتملة يشير بوضوح إلى تناسٍ كامل ونقولها : هو تناس متعمد ومقصود لحاجة في نفس يعقوب، علما بأنه يقع في شارع مولاي يوسف أي قلب المدينة الجديدة، مما يؤذن بإمكانية السطو عليه كغنيمة حرب وتحويله في أي فرصة جاهزة وفي غفلة عن الجميع إلى عمارة سكنية ومقهى، صدق أو لا تصدق !!وكما هي مسلكيات مافيا العقار التي لا يهمها الثقافة ولا المركب الثقافي، بقدر ما يهمها الإسمنت المسلح والياجور ومراكمة “البينغا ” دون وجه حق، وحينئذ يصبح ذلك المشروع الذي نص عليه دفتر التحملات بين الجهات المعنية والبعثة الكنسية الكاثوليكية في خبر كان وهو شيء ممكن وليس بمستبعد في أي لحظة، وبالنظر لاستئساد قوى الفساد ومافيا العقار اللهم إذا تحرك المجتمع المدني الشريف قبل فوات الأوان، نذكر وبكل مرارة أن الاعتماد الإجمالي الذي تطلبه إنجاز هذا المشروع يتمثل في 16.669.028.00 درهما، منها 1.471.320.00 د للدراسات والباقي للأشغال ما يطرح سؤالا كبيرا حول المصير الذي آل إليه، وللعلم فقد وقع عامل الإقليم على بداية الأشغال يوم 06 يناير 2016 ليتمدد الأجل إلى عام الفيل ربما، أما المعهد الموسيقي في حلته الجديدة، فلم يسجل أي حضور نوعي لحد الآن، صحيح أن البناية من الفخامة والأناقة بمكان، لكن الرأي العام لم يلمس أي إقبال للشباب أو إنتاج فعلي في المجال الموسيقي والفني بشكل عام على مستوى المدينة، لا بل إن عطاء المعهد في أزمنة سابقة ظل مشهودا ومنتجا وغزيرا بشهادة كثير من الرواد مقارنة بالفترة الحالية.
مسخرة أخرى كانت من حظ تازة التعس في هذا المجال، هل تعلمون أن بناية أنشئت أصلا لتشكل مقرا للمحطة الطرقية التي كان من المفترض أن تشرف على الطريق الدائري القادم من فاس والمتوجه نحو وجدة والمارعبر ماجوسة وبوحجار فتازة العتيقة ثم الجديدة، وهوالمشروع الذي كان بإمكانه إنعاش تازة العتيقة ولم يخرج إلى الوجود لعوامل ملتبسة، البناية المعنية سرعان ما تحولت إلى مقر للجماعة الحضرية / تازة العتيقة وقتذاك ونقصد سنة 1993، وفي عهد المجلس السابق وضعت علامة تشويرية تفيد بأن المكان أصبح مركبا ثقافيا، علما بأن البناية أنشئت أصلا وكما سبق الذكر لتكون محطة طرقية، وباستثناء بعض العروض التشكيلية المعدودة، نطرح السؤال : ما هو طعم الثقافة في هذه البناية التي أصبحت شبه مهجورة ولا تتوفر حتى على خزانة متكاملة، فضلا عن انعدام أي نشاط ثقافي يذكر؟.
إذا أضفنا إلى ما سبق، الوضع المزري لدار الثقافة بين الجرادي المغلقة منذ سنوات والتي ظلت تابعة لما كان يسمى”مجلس رعاية العمل الاجتماعي والثقافي لإقليم تازة”، وأصبحت شبه خربة تتألق عبرها ثقافة الجرذان والحشرات والنفايات بمختلف أنواعها، رغم وجود حارس لها، إذا أضفنا الرصيد الضئيل جدا لدور الشباب بالمدينة وأبرزها دار الشباب أنوال، تتضح الصورة القاتمة للمنشآت المفروض فيها أن تؤطر الشباب ثقافيا وفنيا ورياضيا، وتنقذه من مظاهر الانحراف والتطرف بشتى أنواعهما .
هناك مؤسسات أخرى بالمدينة قائمة الذات لكنها لا تقوم بأي دور ثقافي يذكر ونتيجة السياسات العمومية المتبعة في هذا المجال، فإن استمرار مظاهر الريع والارتزاق وهدر المال العام تشكل السمة الأساس للفعل”الثقافي بتازة مع استثناءات قليلة، كأنشطة نادي المسرح والسينما ومركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث وتنسيقية النسيج الجمعوي التازي، وأنشطة بعض المؤسسات التعليمية على صعيد الإقليم في إطار الحياة المدرسية، وفي نفس السياق هناك على الأقل ما يزيد عن مائة جمعية تحمل شعارالثقافة بتازة، ماذا قدمت للمدينة أو للساكنة ؟ لاشيء للأسف الشديد، بل هناك من يتوصل بمنح المال العام ولا يقدم إلا الأصفار، وحتى الوثائق التي يقدمها للجهات المعنية عليها ألف علامات استفهام، وإذا حصرنا القول نتساءل مرة أخرى: ماهي مثلا القيمة المضافة لمهرجانات المسرح المتتالية ؟ وماذا جنت تازة من هكذا تظاهرات؟، نقصد المكتسبات التي تثمن تراث المدينة وتنشر الإشعاع الضروري من أجل المساهمة في إنعاش التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تلقت ضربات موجعة حتى قبل الجائحة، وما دور المديرية الإقليمية لوزارة الثقافة حيث لا نلحظ غير ??? ؟.
المتحف اليتيم بتازة يتمثل في فضاء ذاكرة المقاومة وجيش التحريرالذي يشتغل منذ 2005 وما فتئ القائمون عليه يبذلون جهودا معتبرة في إشعاع المدينة ودورها التاريخي المشهود في مجال مقاومة الاستعمار البغيض، لكنه ما زال يحتاج المزيد من الوثائق والوسائل المناسبة والضرورية . المعارض الجهوية للكتاب بأشكالها الحالية تتطلب تقويما شاملا، وانفتاحا عقلانيا على كل الطاقات والموارد وليس تغليب الحسابات الضيقة التي لا تفيد المدينة في شيء، ويلاحظ أن كثيرا من أنشطتها وفعالياتها تسقط في الرتابة والتكرارفضلا عن التركيز على أسماء معينة لمجرد العلاقات وليس لكفاءتها أو عطاءاتها لصالح الأدب والفكر المغربيين مثلا. لن نتطرق لأوضاع المآثر التاريخية ومسألة تصنيف تازة تراثا وطنيا على أرضية معالم أكثر من نصفها أصبح مهددا بالتلاشي والاختفاء تحت زحف العمران والعشوائيات واكتساحات مافيا العقارهنا وهناك، أي أن التصنيف إياه قام أساسا في الورق وفي الواقع على الخرب والأطلال هههه ومن الهم ما يضحك، ولنا عودة لاحقا للموضوع بإذن الله .
إن دور الفعل الثقافي في التنمية لا ينكره إلا متنطع أو جاهل، أو من له فكر إسمنتي، ولعل وثائق الأمم المتحدة أو المنتظم الدولي وبينها مستندات اليونيسكو شاهدة على دور الرأسمال اللامادي في ترقية الشعوب والدفاع عن خصوصياتها ومساهماتها في الحضارة البشرية، ونفس المسلك نهجه المغرب الرسمي منذ مدة بتثمين الرأسمال الرمزي واللامادي لمختلف المناطق المغربية، وأخيرا نقول بوضوح : إن تازة بماضيها المشرق ورجالاتها ونسائها ومؤهلاتها الطبيعية والرمزية تستحق الأفضل.