تازة بريس

آفاق الوضع الثقافي والفني بتازة : من آمال وانتظارات المجتمع المدني ..

-

تازة بريس

عبد الاله بسكًمار

ربما من سوء حظ هذه المدينة وإقليمها، تعيين مسؤولين في المصالح الخارجية عليهم أكثر من علامات استفهام، وهذا على كل حال يعد جزءا من عشوائية  التدبير على وجه العموم، تضاف  ذات الأعطاب إلى كارثة أخرى أكثر وقعا وألما وهي تقاعس أغلب ” الأعيان ” ونواب ومنتخبي الإقليم ونقصد نخب المدينة، لاسيما نخبها الاقتصادية عن تنميتها وتحريك عجلة اقتصادها بما يقتضيه ذلك من مشاركة فعلية في ترسيخ البنية التحتية لتلك التنمية، ومن ثمة خلق فرص الشغل وإنعاش الاقتصاد المحلي والإقليمي. لاشيء يذكر يمكن أن تضيفه هذه النخب للأسف الشديد، سوى ما كان من التهافت على العقار وتوزيع التجزئات وثقافة الإسمنت المسلح، إذ يمكن القول ودون لف أو دوران أن العمل الثقافي التنويري والوظيفي يعد آخر هَمِّ لهذه النخب، وزاد في الطين بلة تعيين مسؤولين على المقاس كما سبق الذكر، مقاس الريع والصفقات تحت الطاولة والتآمر على المدينة ولا نعمم طبعا، الشيء الذي نجم عنه هذا الجمود الشامل وقد طال الميدان الثقافي ومعه الاجتماعي أيضا طيلة أزيد من عقد زمني، ولا نتحدث بداهة عن الدينامية الجديدة التي دشنها المسؤول المعين حديثا بمديرية الثقافة في تازة، فهذا سياق آخر، لكن مع ذلك فالمديرية إياها في عهدها الجديد الحالي هي أيضا معنية بهذا الخطاب، كما لا نتطرق لتداعيات كورونا لأنه موضوع مختلف عما نحن بصدده.

لن نعيد في الواقع تشخيص الوضع الذي يعيشه الجميع بهذه الدرجة أو تلك، ففي مجال المسرح والذي عُرفت به تازة نسبيا وعلى المستويين الوطني والعربي، توقف النبض تماما وخاصة منذ تعيين المدير السابق للثقافة، ولم تستفد أغلب الفرق المسرحية من الدعم السنوي المعتاد للوزارة المعنية، فاختفت حتى تلك العروض ذات الطابع الاحتفالي على علاتها، وسدت المنافذ تماما برحيل بعض نشطاء المسرح إلى مدن أخرى بحثا عن آفاق واعدة، وساهم التسيير العشوائي في هذا المنعطف المحزن فعلا، إذ غابت الإنتاجات  بالمرة وتوارى جمهور المسرح بقضه وقضيضه، لتصبح قاعات العروض القليلة بنايات شبه مهجورة.

 ولتجاوز الوضع الحالي وإعادة القطار إلى سكته الصحيحة، على المعنيين بالأمر ونقصد المديرية أساسا، ما دامت اللجنة الثقافية والاجتماعية بالمجلس الجماعي قد أبانت عن قصور كبير، وعن غياب شبه كلي لتصور شمولي إزاء ما نريده ونبتغيه من العمل الثقافي ككل، قلت : على مديرية الثقافة بتازة تشجيع المواهب والعطاءات والرفع من مستوى وعي الجمهور والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن بين الاقتراحات التي نثمنها في هذا السياق، تنظيم مهرجان وازن للمسرح الإقليمي، والمساهمة المحترمة والوازنة في الملتقيات أو المهرجانات الجهوية، ثم إعادة النظر في منهجية وأهداف وتصورات المهرجان الدولي لمسرح الطفل. وإذا كان الهدف الأساس للمفصل الأول أي المهرجان الإقليمي للمسرح، هو إفراز عروض ذات مستوى جيد يمكنها المشاركة في التظاهرات الوطنية والعربية والدولية، فإن الهدف الأسمى لمهرجان مسرح الطفل يبقى هو تحفيز الطفولة المغربية وتلقيح مواهبها الفنية، عن طريق الاحتكاك والتفاعل مع فرق الأطفال من مختلف أنحاء العالم، فضلا عن التعريف بالمدينة وترويج منتوجها الثقافي والسياحي والتاريخي. كما يمكن تشجيع تأسيس جمعيات مسرحية جديدة، كفيلة بمواكبة هذا الفن الرفيع وتعزيز صموده أمام مشاكل العولمة ومزالق التواصل الإليكتروني، مع ضرورة فتح مسرح تازة العليا أمام جميع الإطارات، على أساس معايير الجودة والكفاءة لا الاقتصار على الأحبة والمقربين، والتعجيل بإتمام بناية المركب الثقافي” مولاي يوسف ” ومختلف مرافقه، لتعزيز العمل الثقافي الوظيفي، مساهمة في الإقلاع التنموي الشمولي للإقليم، كما أن تحرير المدرسة المرينية بالمشور من الجهة التي تحتلها بات ضرورة ملحة، بعد أن تبين للجميع عدم مشروعية هذا الاحتلال،  في أفق تحويلها إلى متحف للمنتجات التقليدية وبعض الصور والمعالم والمعروضات التي يتميز بها الإقليم، أو إعادة فتحها كقاعة للمحاضرات والأنشطة الثقافية والعروض التشكيلية، مفتوحة لعموم الفنانين وجميع الإطارات المحترمة بدون استثناء. ونفس الوضع يمكن سحبه على مجال السينما، حيث نستثني منه مهرجان سينما الهواء الطلق وعرضين قدم أحدهما الفنان المتألق نور الدين بن كيران والآخر من إخراج الأديب الأستاذ عدادي مدني.

في الميدان الفني أيضا، لابد من التنويه بما تقدمه إطارات معينة من أنشطة وفعاليات ذات طابع وطني ومحلي، كجمعية نادي المسرح والسينما والتي تنشط ومنذ سنوات، بإمكانيات محدودة وتفرز محطات وطنية مشهودة كمهرجان سينما الهواء الطلق على سبيل المثال لا الحصر، الذي وصل إلى حلقته الخامسة، نقترح أن يعد تثمين ودعم عمل هذه الجمعية المحترمة، من صميم برنامج المديرية وبكل موضوعية، دون تهميش لباقي الإطارات المحترمة. وإذا كان ميدان الفن التشكيلي قد عرف بعض الوهج، مع الملتقى الوطني للفنون التشكيلية، الذي كانت تنظمه جمعية فضاء المغارات المأسوف عليها، ووصل إلى حلقته الخامسة في مستهل الألفية الثالثة، وأنشطة أخرى تحسب لجمعية العبور المتوفاة هي بدورها، فإن العقد الأخير من هذا القرن شهد تراجعا بينا في هذا المجال أيضا، باستثناء عرض فني أو عرضين يتيمين، شهدهما رواق” أحمد قريفلة ” بفضاء المركز الثقافي”ابن يجبش”/ باب طيطي في تازة العليا، وهو بالمناسبة يحتل نفس البناية التي كان مقررا لها أن تصبح محطة طرقية في وقت ما، نتيجة سياسة سوء التدبير والتجارب الجماعية المتعثرة. وأمام وضعية الموات شبه التام، يلجأ المعنيون بالأمر ونقصد أساسا من يقيم في تازة من فنانين تشكيليين، إلى فضاءات المدن الأخرى لعرض إنجازاتهم ولوحاتهم، بل وأيضا إلى بلدان مختلفة لمحاولة تحقيق مطامحهم المشروعة، بعد أن انغلقت أمامهم أو كادت أبواب المجال المحلي بكل أسف ومرارة.  

نفس الوضع القاتم ينسحب على مستوى باقي الفنون وخاصة الميدان الموسيقى، فبعد أن عرف المعهد الموسيقي بتازة بعض الفترات الزاهية إلى حدود بداية الألفية، خاصة مع مديره السابق الفنان المقتدر وعازف الكمان المشهود له وطنيا ودوليا الأستاذ عبد اللطيف لمزوري، تراجع كل شيء وحتى الصلة الوثيقة والبناءة التي ظلت مستمرة مع فناني وأساتذة الموسيقى بالعاصمة العلمية فاس، انقطعت تماما، الشيء الذي أضر كثيرا بعطاءات هذا المعهد والذي لا يعدم مع ذلك بعض الطاقات الواعدة، غير أنها ما زالت بحاجة إلى صقل وتوجيه وتعمق في المجال، رغم المكتسبات القليلة وعلى رأسها البناية الجديدة للمعهد إياه.

ولتصحيح هذا الوضع لابد من تجديد الصلات مع الفنانين على الصعيد الوطني والاستفادة من  أنشطتهم وإسهاماتهم، وخاصة الأستاذ لمزوري المقيم الآن بالقنيطرة ورد الاعتبار المعنوي له ولعطاءاته من طرف مدينته مسقط رأسه وحاضنته الأولى، علاوة على باقي المواهب الشابة خاصة التي يمكن استثمارها على الوجه الأفضل، وبالتالي تطوير أداء المعهد ومواكبة مستجدات الفنون الموسيقية المختلفة، والانفتاح على الأساتذة المتخصصين و تشجيع المواهب والطاقات التي تعاني من التهميش والإهمال، وإفساح المجال أمامها للمشاركة في المسابقات الجهوية والوطنية والعربية. على مستوى الكتاب المقروء، انتهت أو كادت مرحلة الفضاءات العمومية للقراءة، وأجهزت التحولات العميقة حتى على المكتبات الخاصة القليلة التي كانت توجد بتازة، لكن مع ذلك فبالمدينة والإقليم طاقات لا يستهان بها في مجالات البحث التاريخي والأدبي والجغرافي والعمراني، وعلى صعيد الأجناس المختلفة كالشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد، غير أن ظاهرة التسيب التي اخترقت الشعر والأدب عموما، ألحقت ضررا كبيرا بالمنتوج الرصين الذي يحترم ذكاء القراء ويروم الرفع من مستواهم الثقافي والمعرفي، هذا من جهة ومن ناحية أخرى فالأعطاب الأصل كارتفاع تكلفة الطباعة والنشر ومحدودية القراءة وهيمنة الهموم المعاشية اليومية وطغيان وسائل التواصل الاجتماعي وآثارها السلبية، كلها عوامل أثرت ولا زالت تؤثر بشكل بليغ على إنتاج الكتاب في شقه الورقي، أما الإليكتروني فتطرح أمامه إشكاليات أخرى مختلفة في طبيعتها ومساراتها.

 تلك جملة خصائص تميز المشهد الثقافي الوطني ككل، غير أن تازة كمدينة متوسطة عرفت سمات أخرى تضاف إلى المذكورة آنفا، أبرزها التراجع الرهيب في الأنشطة المحترمة والوازنة لفائدة” فعاليات ” أقل ما يمكن وصفها ” بأنشطة البندير والزديح والتهريج ” المؤسسة على ثقافة الرداءة التي رسختها جهات رسمية وشبه رسمية وقنوات خاصة، فكان لذلك أبلغ الأثر على مجال الكتاب وتداوله، بنفس مقدار الأثرالرهيب على الوعيين الجماعي والفردي للإنسان المغربي والتازي خصوصا، حيث أصبح القدح المعلى لقيم التسلق والانتهازية والغش والتدليس والربح السريع والتهافت نحو السهل الجاهز، وذلك على حساب قيم الصدق والنزاهة والكفاءة والجودة وأخلاق البحث الحثيث، ومع كل ذلك لا يجب الاستسلام لهذا الواقع المتردي، فالثقافة في أجل معانيها تعني مقاومة المسخ والانحطاط المتعدد الأوجه والأشكال.

في مجال توسيع فضاءات القراءة، نرى أنه لابد من إنعاش المكتبات المدرسية وإحياء ديناميتها عبر أنشطة وفعاليات نوعية، تعد جزءا عضويا من الحياة المدرسية وذلك بتنسيق وتعاون بين المديرية الإقليمية للثقافة ونظريتها لوزارة التربية الوطنية، وبجانب ذلك  ضرورة إنعاش الفضاءات العمومية للقراءة، كالخزانات الوسائطية خاصة ومجالات الحدائق وبعض المقاهي المحترمة، علاوة على المركبات والمؤسسات الاجتماعية المختلفة، كفضاءات الطالب ومجالات الشباب ودور التنمية مثلا وبتنسيق بين كل الجهات المعنية. وفي إطار دعم الكتاب لابد من الالتفات للإصدارات الجديدة وهي متوالية بوتيرة سنوية تقريبا، في مجالات النقد والشعر الرصين والسرد المتوفر على معاييره الجمالية والفكرية، علاوة على البحوث في ميادين التاريخ والمعمار والثقافة الشعبية والأبعاد الاجتماعية المختلفة، ومن ثمة تجاوز النظرة الضيقة وذات الحسابات الآنية، التي تفضل المقربين والريعيين على حساب الأدباء والباحثين والفنانين/ت، الذين يحترمون أنفسهم وقراءهم ومتتبعيهم، وينأون بها لسبب أو لآخر عن المستنقع الآسن، وبمعنى أدق فسح فرص الدعم أمام جميع من يقدم إنتاجا جيدا ومحترما والله الموفق.  

رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث

 

إلغاء الاشتراك من التحديثات