تازة بريس
سعيد عبد النابي
أبت جدتي إلا أن تحلس لي بغلا تمنيت لو أنه اكتفى بميراث خاله ليكون وديعا في مشيه أو خببه، يقينا عمه الحمار لن يورثه سوى خفض الرأس ، بطريقة مبالغ فيها أثناء الركض، كي يطرح صاحبه أرضا ويفر، الفرس يقمص كأنه يفرح براكبه، أما الحمار…ألا يقولون أن وقعته أشد إيلاما وأكثر ضررا؟ لذلك لم تطمئن نفسي للبغل، ولم تجد الراحة إليها سبيلا، رغم ما و ضعت على متنه جدتي، من حلس على برذع وثره لحاف مزركش تفننت في حشوه حتى صار في ليونته كنمرقة . بدوت كأمير مملكة أدغال لا يستحق التقدير سوى لكونه ابن الشيخ، أو ابن الزعيم الحاكم، ملك الأدغال يبقى ملكا ما لم تسلط عليه أضواء الإعلام، وما لم يقف بجانبك بعد النفخ في الصور عند الحساب أمام رب عظيم، إذا وضع الله كل الحكام على منصة واحدة، قل كثيرون منهم تواروا عن الأنظار كي لا يظهروا أمام شعوبهم أقزاما، شتان بين من تربى في قصر على خلق و من عاش كالسفينة المهددة بالغرق، شتان بين من أتعبت سواعده السيوف والرماح، ومن أضناه السهر وسط الأقداح أمام الوجوه الملاح، حظي كان من هذا الخضم نبش الحروف وركوب موج الأحلام حتى الصباح، كل مسير لما خلق له، فلا ضير إن بدوت رخو العظم بض البشرة.
رأيت اغتناء مهاجرين، رعاة كانوا قبل وصولهم ميلانو كما قال الحداد رحمه الله وغفر له، فأصبحت حدود الوطن في عيني أسوار سجن رهيب، تنطعت في محاولات ميؤوسة للهروب، وعاهدت نفسي وقتها على تبني فلسفة الشاعر شارل بودلير أو امرؤ القيس عند تذكر الأهل، اغرق في الدوارق واحتسي عكارتها حتى الثمالة كي انسي معالم الطريق التي أوصلتني باريز، لكن رياح قدري كانت هوجاء حمقاء رمتني إلى الشعاب و الحفر. أو ربما العكس .. ربما لأمور معينة صبرت.. و لأجل الورد سقيت الشوك والعليق بدوت على متن الدابة صورة شاذة، كشوال مملوء لا يستقيم له وقوف، لم ادخل من قبل حربا ضروسا مع الطبيعة أبقتني النهار كله تحت القر أو الحر. لم تجعلني ثالث البهائم أيام الحرث، أو خامسها في البيادر بعد موسم الحصاد، كنت أداري على طول الطريق بابتسامتي خوفي، أهمل سير الصريمة لأتشبث بقربوسي الإكاف ( البرذع) خوف السقوط، أقاوم كي لا تصبح سقطتي قصة، تجلب المتعة لأناس على أهبة، كي يختموا بتنمرهم قرار إقصائي، طريقة تعبيرهم عن رغبتهم يشع منها الغرور والازدراء لتأكيد تفوقهم على الأرض، ودوا لو صرخوا ملء الفم: نحن هنا، وانت’،يا ابن المدينة، ابق حيث كنت، فأر الأزقة المفروشة بالاسمنت والزفت.. دجاج ابيض .. بسيقان واهنة لا تتحمل ثقل أوزانها، فضلت المشي عند اقترابي من السوق، كان الركوب متعبا ، شعرت بعضلات أفخاذي تمددت أكثر من اللازم، خيل إلي أن التجربة ستؤثر في طريقة مشيي، وأني بذلك الوضع واقع لا ريب في محظور ستستغله بعض الألسنة للاستهزاء بي وهي تقول : ايمشي مفركك دقول انتين ….
وعند مدخل السوق عشت أجواء أخرى، لو كانت هوليود على اطلاع بالأمر لانتدبتني خليفة لجون اوين أو شارل برونسون, كان على يميني أربعة دكاكين متراصة، كأنها بيت طويل قسم نصفه إلى أكشاك، واحتفظوا بالنصف الآخر كواق شمسي طويل تسنده أربع دعامات إسمنتية، يربط بها المتسوق عادة دابته حين دخوله الدكان للتبضع، كان البؤس يشع من الدكان الأول، ركن صاحبه في زاوية على يسار بابه برميلا اسود من حديد لم ينل منه الصدأ لكثرة ما استعمل في بيع الغاز السائل، و يبدو أن تلك التجارة كانت مزدهرة أيام القناديل كما بدا أنها بدأت تخبو، لذلك وضع إلى جانبها صناديق خضر متنوعة. أما الثاني فكان للمواد الغذائية والسجائر بأنواع محدودة، بدت علب التبغ الرديئة متراصة كآجر البناء على الرفوف اليسرى، فأضفت على واجهة المحل جمالا، وخص الجهات الأخرى على يمين و في أفق المحل لمواد غذائية مختلفة لا تتجاوز احتياجات ساكنة الدوار، أما الثالث فكان عجيبا، لا تجد فيه غير الشموع بكل أحجامها، وأعواد الثقاب أيضا بأنواعها، الطويلة و القصيرة، الدزينة، نصفها، ربعها، والشموع المنفردة، صورة أثارت عندي تساؤلات لم أجد لها أجوبة إلا بعد بحث عميق، أما الكشك الرابع فكان للإدارة، المكان الوحيد الذي يذكر الزائر بالدولة، إذ كان يقدم خدمات البريد وإذا أردت الاستراحة، ولانتفاء تواجد مقهى بالمكان، من حقك طلب ما شئت من منتوجات الحليب في أكياس بلاستيكية، او المشروب الغازي بألوانه الزاهية. فتجلس على سور قصير .. إن أردت تأمل الفضاء ، أو على متن الدابة التي جاءت بك، لان الليل يسدل سواده بعد الغروب مباشرة.