تازة بريس

وأعاد عليه دماغه صور معد الشاي وهو يكسر قوالب السكر ..

-

تازة بريس

كان فقيرا معدما لا يملك شرو نقير إلى أن وهبته الفقيرة الصافية جحشا دخل به نادي الملاك، جاء ذلك بعدما نال إعجابها وسكن خواطرها إثر ترملها. لم يبق لها، لعقرها، من المرحوم اليزيد ما يؤنس وحدتها، فساق الله لها برحمته الفتى، وبث في قلبه واجب رعايتها، أو هكذا اعتقدت، لبضع سنين. وهي تؤانس في الخدمات التي قدمها لها عطفه وحنانه، كان في ريق شبابه، إلا أنه لم يبد لها غير الاحترام والتقدير، عكس الذئاب البشرية المحدقة بها الراصدة لحركاتها، ما جعل العلاقة التي جمعتهما ترقى لتصبح في النهاية كالعملة بوجهين، انفرد كل واحد منهما بالقراءة التي تخدم رغباته وأحلامه، فبدا له من جهته الأجر، وهو يناله كاملا، قبل جفاف عرقه كرما ولطفا، ووجدت هي عنده التضحية والنبل والأمانة، معادن انعدمت في رجال زمن، لم تتحقق فيه سوى أشراط الساعة…

 وأنى لغيره ذاك الحظ ؟ بدوار انعدمت فيه فرص الشغل، المقايضة بالزبيب والتين المجفف عماد تجارته، وأرملة لا زال شبابها محافظا على رونقه، ثم عاقر، لن تؤثر على أي توازن، يجعل مرورها في العائلات الإرث مستقرا لا يخل بالأسهم، وهذا من فيض كنوزها مجرد غيض. وكان يذكي انتشاءه شيء خفي، كلما تسلم المال من يدها، لم يدر ما هو، ولا كيف شعشع، و لا كيف تفجر شعورا جارفا، فقط أحس به ينساب بينهما كطاقة ملائكية تسعى بين روحين متآلفتين، حمى فارق السن بينهما تلك العاطفة الأفلاطونية من أي رجس أو جنس، فمزج الإخلاص فيها بين الشهامة والمروءة، ورأت فيه العوض، فاعتبرته كابنها، و إن لم يتم التبني بوثيقة شرعية، وكان سائدا في ذلك العهد أن الأرملة الثرية، على خلاف المطلقة، تصبح حطب ونار حروب يشنها الرجال، طمعا في رزقها، و بتواجده في مزرعتها باستمرار ، كفاها شر المتربصين بها.. فاكتفت به قريبا خدوما أمينا، واكتفى بها سيدة كريمة دافئة القلب …

 ولما وضعت أتانها عشارها أهدته الجحش، فراعاه كما تراعى أية هدية عزيزة غالية، و اختار له من العلف ما قوى بينهما الروابط، و حفز عند الدابة نشوة الخضوع، فصار ـ الجحش ـ يتبعه، كما يتبع الخشف أمه، و يسمع كلامه، فأعفاه بحسن السلوك من القيود و الشكائم، كان يستجيب لصفيره من بعيد، تحركه غرائزه للاستفادة من الحركة، فانتفخ  و علاّ حتى صار كالبغل طولا و عرضا، وتكور جذعه آخذا شكل برميل خمار، لكن ضيوفا باغتوه، كان يعلم أن الدور واقف عليه في الاحتفاء بشرفاء الزاوية، يعلمه علم اليقين، وتاريخ الحفل الديني المهم، كم ليلة ارقه ؟ وحتمية التضحية بالجحش، الذي صار يركض أمامه كالحصان، مالكا بجماله شغاف قلبه، امتحان ما أعسره، وقد جاء بعد الأنبياء والرسل، بفارق في الزمن كبير، فلا هو إسماعيل عليه السلام ستفديه السماء بالذبح العظيم، ولا هو سيدنا إبراهيم عليه السلام له القدرة على تقديم العجل الحنيذ، وهؤلاء الزوار لا يغلق في وجوههم باب.

ولقد راج بين الناس في ذاك العهد، خبر تدويد الرائب نتيجة حرمان أحد الشرفاء منه، بعدما بيت صاحب الحقل النية لجعل الرائب وجبة غذاء للعمال، وعلى ذلك الامر عقد العزم، لا شيء سيثنيه ، قال لنفسه: ان الشريف واجد ضالته في أكثر من باب، لا محالة، عكس العمال، وهذه الشمس الغاضبة لشهر غشت التي تحرق أي شيء حي تلسعه أشعتها، كأنها مرسولة الجحيم إلى الكفرة، لا ينفع معها حر آخر ينضاف إلى حرها، لقد قيد في تفكيره الريابة للعمال، و بذلك التقييد استبعد أي تصرف آخر، وإن توفرت البدائل، اليوم  لا طنجرة ولا طجين و لا جمر، والزرع البلدي منهك للقوى، متعب للمعاصم، ووجبة باردة دسمة ستحفزهم أكثر على العمل، لجز سيقان المعزوزية الغليظة، وهكذا صار أمامه … العمال في كفة، ونفس الشريف الزكية في الكفة الأخرى، وهي من العزة درجة ملجمة، تحرم على الواحد تكدير صفوها، لكنه رجح كفة العمال، الرائب من حقهم، وفق النية المبيتة وهم له أحوج، وهو من جهة أصله البوعلايي، رأس كالجلمود وأنف كفنطسية الخنزير، صعب المراس لا يدعن بسهولة، ومن جهة أخرى وهذه هي الحقيقة، لا بد له عنه ولا مفر، وهاته المواقف أوقعته في حيص بيص، كان عليه جبر خاطره، وكسر عينه و لو ببضع ملاعق، لكن الحكمة لا تؤتى لكل الناس، لو كان تفكيره اختار ذاك المنحى  لحلت بركة الشريف على البطون الجائعة، و لأطاحوا دون حاجة إلى طعام أو شراب بالسنابل المثقلة، ولربما زكى الله ببركة الشريف الأجر، فجعل الريابة كافية لجواع القارات الخمس، من يتدخل في حكمة الله ؟

لكن، في الغفلة هلاك الغافلين، لم يخطر بباله تغير حاله و المعجزة تتجلى في حقله، قبح الله الحرص، شيطان لئيم، ومعه الفقر، ربيبه، يطمس في بعض الأحيان البصائر، وعرق العمال ليس هينا، ووجبة باردة تلطف حر الصيف، و تحفز العمال بالتلويح بالمناجل، فيها من الأجر عظيمه، وتقدم بخطى ساحر نحو الطنجرة ، خطى وئيدة متمهلة هادئة، ليوقظ المفاجأة، وعقد العزم على تقديم الوجبة المفضلة، فرفع غطاءها، بعدما كسح مكانا تحت ظل شجرة معمرة، ورج كفيه عاليا في الفضاء مناديا في ترنيم، لكن الدود صدمه، رآه يغلي فغار دمه في شرايينه و أوردته، و خرت قواه بعدما باخ كلامه، وسقطت يمناه التي كانت تلوح، ثم انقطع الصوت، ورشح الجسد عرقه و هو يتجرع غصص الخيبة، و فضيحته أصبحت مجلجلة، يا ويلتاه، ها هي دودت، لا هو أكرم الشريف فنال بركته، و لا هو اطعم العمال فنال الأجر، ولا هو مخض الريابة فربح الزبدة و اللبن ..ها هو يجني  العواقب بالتفكير في المخارج، كما يجني الطفل توت العليق البعيد عنه … بعينيه المنكسرتين، ها هو يتجرع كؤوس الخذلان.. كالقابض كتابه بشماله.

لقد كان صاحب الحمار عليما بهذه القصة، محيطا بجوانبها، فلم يرد تكرارها في بيته، غضبة الشريف إن طالت الرائب، خسارة مقدور على المصاب تعويضها، لكنها في حالته غضبة شرفاء، شرفاء لا شريف واحد، ومحور قصته بيتا قائم الأركان، ماذا لو جعله دعاءهم خاويا على عروشه؟ ماذا لو حولته أنفاسهم المشتعلة إلى رماد وأطلال؟ فتصبح قصته أشهر من نار على علم، وتصبح حكايته على رؤوس ألسنة المغتابين، وهذا الأمر لا يستطيع تحمله، ما اضطره إلى بيع حماره، وبثمنه اشترى سكرا وشايا بزيادة، و شكر الجيران الذين وفدوا عليه مالئين الأحضان و الأكف، محملين بجرار الزبدة و السمن البلدي و العسل المشار حديثا و زيت الزيتون، و كل آمالهم معقودة على الانتفاع بالبركة، و لم تكن الفقيرة الصافية بينهم، و غيابها في مناسبة بتلك القيمة أثارت مخاوفه.

 ولما عتم الليل، تجهم وجهه و ربد، كأنهما تقاسما في نفس الآن هما ثقيلا، واستقرت نظرات على كف القائم بأمور الصينية، معد الشاي، كلما تمادى في كسر قالب السكر، تردد صدى كل ضربة داخل رأسه الأجوف، كرنين الأجراس في الأماكن العالية المهجورة، و أحس بكل ماء ساخن فائر صب في الأباريق، يسلق أمعاءه، كأنه بين يدي الخالق يصلى ما يصلى، يشرب الصديد المغلي، فقد كان الحمار كل ثروته، و بالتفريط فيه لن يقو على التسوق باستمرار، و بتقديمه للشرفاء ضحى بمآرب شتى، فكيف سيواجه الأمواج العاتية للزمن الظالم إذن؟ .. والفقيرة الصافية غابت عن الليلة. لم يكن حماره كأي حمار، تبناه قبل فطامه، فرباه كما يربى اليتيم، كان له الأب و الأخ و الصاحب، لا يفترقان سوى بعد الغروب، واحد إلى السرير و الأخر إلى الإسطبل (المسحم )، نشبت بينهما قصة حب مثيرة، حماره الجميل العينين ذو الرموش الطويلة كأنها مركبة، كان يتبعه، كان يقتفي أثره، دون حاجة إلى حبال، كان يسمعه، كالعبد المطيع، و يحار من يراه يكلمه، لا يستقر له رأي، أيحسبه متمكنا من لغة الحمير؟ أم يحسب حماره المتمكن من لغة البشر؟

 لكن الطقوس لها متطلبات، وهو في قداسه مجبر على الخضوع لرغبات الجماعة، ولولا نسائم فخر هبت على قلبه المكلوم حين اشبع البطون وحمى البيت من بطش اللعنات، كان انتحر يأسا وغما، لكنه اختار أن يستمر في الحياة بجناح مهيض، ولن ينس قصة حبه التي ختمها بالتضحية، أبدا، لن ينسى .. كان يغوص في أحلامه كلما تذكره، وهو ينظر في الأفق ينتظر سحاب بركات الزوار، كيف سيرسل عليه الخير كالماء مدرارا و عند كل خيبة يكرر.. لو كان عند بالي هيت .. كان خليت حماري .. والو.. الشورفا والله ما صدقو، وكلما تذكر زواج الفقيرة الصافية تلك الليلة..التي رحلت مع زوجها الى مكان بعيد ، سب كل الزوايا .. وأعاد عليه دماغه صور معد الشاي، وهو يكسر قوالب السكر… وصدى الضربات يثير كل اوجاعه … وهو يطمئن الى قرار منطقي .. أن حماره لم يكن قربانا..

إلغاء الاشتراك من التحديثات