تازة بريس

من عبق تراث تازة الصوفي الرمزي المحلي .. الطائفة العيساوية التازية ..  

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

بمكانة خاصة جاذبة ظلت “زاوية الهادي بن عيسى” (عيساوة) منذ بداية مغرب العصر الحديث، لمِا كانت عليه هذه الزاوية من نفوذ روحي وأتباع. وغير خاف عن مهتمين بالموضوع أن مؤسسها 872 – 933ه هو بغموض في كثير من جوانبه وكذا بروايات عدة لِما طبع حياته وزمنه من وقائع هنا وهناك، وما ورد على عهد حفدته حول صراع بين زاويته والسلطان مولاي إسماعيل، لمَا تكاثر مريدوها وألزم شيخها على مغادرة مكناس. وقيل أنه لما كان هذا الأخير في طريقه الى منفاه، كانت معه قربة كلما نفخ فيها وهو يسير كلما كان سلطان البلاد ينتفخ، وهو ما اضطره لطلب عودته فكان كلما اقترب عائداً تحسنت صحته. ومعروف أن العيساوية متفرعة عن الشاذلية والجزولية كغيرها من الصوفية المغربية، وأنها تقوم على وصية وأوراد وأحزاب وحضرة وليلة ثم موسم يبدأ إعداده إربعين يوماً قبل عيد المولد النبوي، ولعله يوم تجمع بمكناس حجاً لقبر الشيخ، وكثيراً ما يقوم”المقدمين” بالمدن ذات الطوائف بجمع تبرعات لهذا الغرض استعداداً لسفرهم. وعند تجمعهم يوماً قبل المولد النبوي تنصب خيامهم غير بعيد عن الضريح بمكناس، لتبدأ تجليات تراث وأهازيج وغيرها…، قبل انطلاق حجهم وموكبهم بمختلف أعلام طوائفهم، مع ما يتقاسم حفلهم واحتفاءهم من عروض ومشاهد وتمثيل، قبل تقديم الهدايا لشيخهم بعد صلاة العصر، وقبل إعلان بداية الموسم من قِبل أحد حفدة شيخهم.

وتعد قبيلة “مختار” بغرب المغرب التي يعود أصل تسميتها لرواية ذات صلة بالهادي بن عيسى، الأكثر اعتناقاً وممارسة للطريقة العيساوية والتي بغرائبيتها هي بحاجة لمزيد من البحث والتحليل بعيداً عن كل حكي ورواية وارث شعبي.، كثيراً ما يزيد من تسطيح الظاهرة والتباسها بجعل ما فيها يتداخل بين ما هو دين وخرافة وذهنيات وتصوف وتراث وكائِن عادات وتقاليد. وتذكر المصادر التاريخية أن لأهل مكناس عناية خاصة بالشيخ الكامل باعتباره اعتقاد لا يبلى قشيبه مع الزمن، وأنهم جعلوه بموسم يعقد كل عيد مولد نبوي تحضره طوائف سائر مناطق البلاد، دون الاشارة لِما بات مخالفاً للطريقة لدى من يقول بالتبعية كسلوكات. طبعها ما طبعها من تجاوزات أثارت اهتمام السلطان مولاى سليمان من خلال رسالة شهيرة له حول المواسم والبدع، وقد ورد فيها ما يتعلق بعيساوة وما كانوا عليه من حماقة وجهالة ولهو بتعبير الرسالة محذراً من الاقبال عليها. وقد تميز عيساوة في موسمهم بمحاكاتهم لحيوانات مفترسة، حيث يجعل العيساوي من نفسه ذئباً يعوي مع لباس يحاكي به حلية ذئب بذنب ملتوي، ثم يدور على الناس طلباً للزيارة ومنهم من يجعل نفسه جملاً فيرغو كرغاء الجمال ويجعل شيئاً بفمه يلوكه وريقه ينزل على صدره وعلى الأرض، ومنهم من يجعل نفسه سبعاً وغيره. والى جانب ما يسجل من سلوك غير منسجم هناك طوائف عيساوية يشهد لها بسلامة نهجها أينما كانت، بل فيها من الفقهاء والعلماء والأتقياء والزهاد وأهل خير وورع. ولعل من المفاهيم والتسميات التي تحكم الطريقة والتي لا تزال جارية، هناك الشيخ والمقدم والقطب والسر، أضف الى ذلك ما يعرف به الهادي بن عيسى من “أحمر العين” و”شائب الدراع” و”فحل الفحول” و”ابن عيسى العربي”.

وقد حظي موضوع التصوف وطرقه بعناية مستشرقين فكان ما كان من بحث وتأليف، علماً أن ما جاء به هؤلاء لا يعني أنه كان موضوعياً وسليماً. ولا شك أن الصوفية المغربية وزواياها تشكل حلقة هامة في مسار تاريخ البلاد الثقافي، والتي لا تزال بحاجة لالتفات بحثي أوسع من قِبل باحثين ودارسين، فإليها يعود فضل فقهاء وعلماء وحفظة وأهل ذكر وصلاح. ومن الزوايا الأقوى التي كانت بالمغرب الى غاية بداية القرن الماضي، نذكر التيجانية والدرقاوية والناصرية والقادرية والوزانية والكتانية والعيساوية، وعندما نتحدث عن هذه الأخيرة فإننا نتحدث عن ايقاعٍ وتعبيرٍ وأسلوب حركةٍ إشاراتٍ وقولٍ خاصٍ، حيث كل شيء يبدأ بطيئاً ليختمر ويتصاعد الى غاية حس بغيب روحي وفقدان توازن. وكانت العيساوية بحضن جعلها بما هي عليه من امتداد وتأثير وتجاوب وتأثيث يرتب أهم وأعمق وأجذب لون ايقاعي في المجتمع المغربي بلا منازع، بل كانت العيساوية بامتيازات واحترام بما في ذلك من ظهائر سلطانية تخص توقير شيوخها ومريديها ومقراتها.

إطلالة مختصرة فقط حول زاوية الهادي بن عيسى، دون إثارة ما هو محتوى وتاريخ وتفاعلات وأدوار نفسية واجتماعية وسياسيةوغيرها، ودون تساؤلات تخص حساسية الموضوع اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وأمنياً. اطلالة ارتأينا أنها بأهمية لتسليط بعض الضوء حول واحدة من أعرق طوائف الزاوية العيساوية بالمغرب، ويتعلق الأمر بطائفة تازية باعتبارها جزء من تراث المدينة المحلي الرمزي ومن ذاكرة الذاكرة القرن الماضي حتى الآن، من باب تعريف وتنوير على ما هو متوفر من وثائق ورواية شفوية، بقدر ما هي بغنى واشارات، بقدر ما تثبت ما كان عليه عيساوة تازة من تميز ونشاط وقوة ومريدين، خاصة لدى حرفيي المدينة فضلا عن تهامة ودرقاوة. ويستشف من تقرير “دومنثيري” الفرنسي الذي اتيحت له فرصة رصد تجليات احتفاء الطائفة العيساوية بتازة، من خلال تتبع عن قرب لطوافها السنوي الروحي بالمدينة العتيقة زمن الحماية وما ارتبط بهذا الطواف من تعبير ومشاهد وسلوك وتراث ممتد. وقد كان ذلك بساحة مشور المدينة رفقة الباشا هاشم السملالي والقائد امحمد. مع أهمية الاشارة الى أن الطواف العيساوي التازي لهذه الفترة كان بايقاع خاص مرتبط بصدى طبول وآلات غيطة، إضافة لِما هناك من اثارة تخص فسيفساء أعلام الزاوية بألوانها المتباينة المتمايلة، رفقة جمعٍ واسعٍ من مريدين بأزياء خاصة وترتيب وتصفيف بتأثير روحي ونفسي. ولعل المثير الغرائبي الذي ارتبط بهذا الموعد الروحي السنوي بتازة، هو ما يُعرف ب ”لَفْرِيسَة”، التي أثارت جدلاً واسعاً في صحافة هذه الفترة مما دفع بسلطات الحماية لمنعها نهائياُ بالمغرب عام 1934.

ومما ميز تقليد طواف عيساوة تازة السنوي، ارتباطه بوقفة مشور المدينة حيث كانت تحضر لحظة ما يُعرف ب”الفريسة”، ففي احدى طوافات السنوات الأولى للحماية على المغرب حضر باشا المدينة وذبح شاة ووضعها رهن اشارة من عُرفوا ب ”الفَرَّاسَة” عن الطائفة، والذين تسارعوا اليها محاولاً كل واحد منهم أخذ نصيبه من لحم وأحشاء وعظام وجلد..، الى جانب ما كان يُقَدَّم لهم من قطع لحم من قِبل متتبعين ومتفرجين من أعلى سطوح بيوت مجاورة كما يتبين من خلال صور الأرشيف.  لحظة كانت تتبع برقصات عيساوية وتعبير يجمع بين حركةٍ وجسدٍ وأنغام واشارة وكلام على امتداد مسار الطواف. كل هذا رفقة عازفين ومجموعات منتظمة في صفوف جنباً لجنب، وهم يرفعون أياديهم وينزلونها مشكلين بذلك هِلالاً ويسيرون مرة الى الأمام ومرة الى الخلف، مع قفز وتفاعل على ايقاع عيساوي تراثي خاص وفق خطوات منتظمة مع سيرهم وسير تغيرات وانتقالات نغمهم.

وفي خضم تفاعلهم الاحتفائي الروحي السنوي كان عيساوة تازة يرفعون أياديهم بحركات مباغثة عنيفة مع تحريك رؤوسهم، وكان موكبهم يضم صفاً ممن يضرب على طبول من وراءه آخر ممن يعزف على غيطة وهم راكبون على فرسان مدربة بسروج لامعة. هكذا كان يتم السير الى غاية بلوغ مقر الزاوية رفقة أعلام بألوان تحمل علامات وكتابات ونقوش ورمز وشعارات ذات تعبير خاص، ومن ألوان أعلام عيساوة تازة هناك الأخضر والأحمر، مع أهمية الاشارة الى أنها كانت مزينة بكرات نحاسية في رؤوسها وهِلالات لامعة من فضة. وكان مسار موكب طواف عيساوة تازة بقدسية خاصة وكل من يمر عبره ينبغي أن يكون حافي القدمين، وكثيراً ما كانت مخالفة التقليد تدفع مريدي الزاوية للتقدم الى مرتكبها ونزعه ما كان يحمل من مواد جلدية تعبيراً عن عدم رضاهم. ومما طبع طواف عيساوة تازة قلة من يتابعن الموعد من النساء، لكنهن غير ممنوعات منه بدليل ما كان يحصل بشكل معزول من قفز لامرأة مسنة نصف محجبة في لحظة من لحظات الحفل، معبرة لدقائق برقص أصيل عن تأثرها بايقاع هذا الموعد الروحي. علماً أن النساء ممن يسهم في تدبير أمور الطائفة من خلال ”مقَدْمَاتْ”، يتكلفن بجمع ما يسمى ب”زْيَاراتْ” عن نساء المدينة لتنظيم الطواف وتوفير كلفة سفر وهدايا رمزية لضريح الشيخ بمكناس، مع ما يميز أنشطة الطائفة العيساوية التازية من عدم اختلاط بين رجال ونساء خلافاً لما كان سائداً بغرب البلاد.

وحول مسار الطواف التازي السنوي يمكن الحديث عن انطلاقتين كانتا معمول بهما منذ زمن، ولعل مسار هذا الطواف كان بعلاقة مع ما هو حرفي تجاري من مواقع في المدينة، وبأهم بيوت الأسر التازية الميسورة لجمع تبرعات وزيارات الزاوية. فطواف الصبيحة كان يبدأ من مقر الزاوية بدرب مولاي عبد السلام والذي لا يزال قائما لحد الآن غير بعيد عن جامع تازة الأعظم وضريح سيدي عزوز، باتجاه زنقة القلوع حيث ضريح سيدي عبد الله الى غاية المكان الشهير ب”صب الماء”، والذي يتم الانتقال منه الى باب الزيتونة ثم عبر زنقة سيدي بلفتوح الى قبة السوق قلب المدينة، وعبر العطارين يتم التوجه من هذا المكان الى زاوية سيدي امحمد بن اسعيد الحلفاوي البرنسي بساحة أحراش، ليتم أداء صلاة الظهر بها والاحتفاء بقرب عيد المولد النبوي، علماً أن طواف عيساوة تازة كان يقام أسبوعاً قبل هذا الموعد الروحي الذي يحظى بمكانة خاصة عند المغاربة.

أما طواف المساء فكان يبدأ من هذه الزاوية ذات الموقع الرمزي بمدخل المدينة، باتجاه باب الشريعة ذات الرمزية الخاصة في تاريخ تازة ومنها عبر مسجد الأندلس الى ساحة المشور قبالة مدرسة بني مرين الحسنية، حيث كانت يجري ما يعرف عند عيساوة ب”الفَرْسَة” التي انتهت عام 1934 بقرار من سلطات الحماية كما سبقت الاشارة لذلك. ومن “الفَرَّاسة” التازيين الذي اشتهروا بالعملية هناك البوذالي العلوي الذهبي الشهير ب”خبو”، وهذا التعبير السلوكي المقزز كان يتم بساحة المشور لاغير والناس هم من كان يقدم الفريسة التي هي إما “عنزي” أو”غنمي”. طقوس سابقاً ووقفة احتفالية روحية رمزية لاحقاً منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، كان يتوجه بعدها طواف عيساوة تازة المسائي الى زنقة سيدي علي الدرار ثم زقاق الحاج ميمون، قبل أن يأخذ طريقه الى درب الزاوية الجبشية ومنها الى زقاق الوالي، بحسب مكان استقبال الطواف وإكرامه والبيت الذي تطوع لهذه المهمة، وهو تقليد كان يختلف من سنة لأخرى بحسب الأسر التازية ورغبتها واستعدادها.

يذكر أنه قبل خمسينات القرن الماضي كان طواف عيساوة تازة المسائي السنوي ينتهي في ضريح باب الريح، المعلمة التي كان يتم إنزال الأعلام على أسوارها وقراءة الفاتحة، قبل شد الرحال مباشرة لمن يكون على استعداد من المريدين باتجاه ضريح الشيخ بمكناس. فمن هذا المكان المطل على ممر تازة كان ينطلق الركب الأول، والذي لما كان يصل الى وادي سبو على مقربة من فاس كان يقوم بنصب الخيام في انتظار ركب ثان قادم من تازة في اليوم الموالي. وعندما كان يلتحق الثاني بالأول كان يتم تنظيم ما يُعرف بخرجة عيساوة تازة الثانية، وعند الاقتراب من باب الفتوح كانت تبدأ دقة عيساوة اعلاناً بدخول موكب تازة لفاس. وعند بلوغ مكناس كان الوفد التازي ينزل ببيت أسرة “الدْريسِيين” التي تنحدر من الشيخ الهادي بن عيسى، وذلك بدرب قرب ضريح سيدي قدور العلمي بالمدينة العتيقة، وقد استمر هذا التقليد والاقامة بهذا البيت لعقود، حيث كانت تقام به ليالي عيساوية تازية على امتداد ثلاثة أيام متتالية، وفي اليوم الثاني لعيد المولد النبوي بعد صلاة العصر وانطلاقاً من هذا البيت، كان يتم التوجه الى قبر الشيخ من أجل الزيارة وقراءة الحزب.

وحول التراث العيساوي التازي ورمزية صوفيته وأعلامه بالمدينة، من المفيد الاشارة لإسم “علال الريح” و”المختار بن شلال” رحمهما الله والذين كانا “مقدمين” للطائفة بتازة قبل فرض الحماية على المغرب، والمختار بن شلال هذا هو جد الحاج التهامي النويكًة العيساوي رحمه الله. وحتى تسمح له سلطات الحماية بممارسة نشاطه فرضت عليه عدم تدخله في السياسة،وهو ما تم قبوله حماية لزاوية عيساوة التي كانت مهددة بالزوال. وعلى امتداد سنوات الحماية انتقلت الزاوية الى أسرة شيبوب ولعلها من أسر تازة الأصيلة، فكان ”مقدم” الزاوية منها الى غاية استقلال البلاد. لتنتقل مهمة ”مقدم” الزاوية لأسرة الغوتي التازية الأصيلة أيضاً الى غاية سبعينات القرن الماضي. لتأتي تجربة قدور الشواي ك”مقدم” الى حدود أواسط الثمانينات، ثم الحاج التهامي النويكًة مقدما للزاوية الى حين وفاته 1986، ليتحمل هذه المهمة نجله الأكبر المقدم محمد النويكًة الى غاية اليوم على امتداد حوالي ثلاثة عقود. وحول خصوصية عيساوة تازة داخل خصوصية الزاوية، يمكن الحديث عن ايقاع عيساوي متميز شهير ب ”المجرد”، وهو عبارة عن دقة أو موسيقى بدون تعبير ولا كلام أحياناً في اطار حضرة عيساوية تازية الى حد ما. وفي الطواف العيساوي التازي السنوي من التميز نذكر أن هناك ما فوق خمسة ما يعرف عند أهل الشأن ب ”بوجناجن”(نحاس)، ثم ما بين ثلاثة الى أحد عشرة عازف على آلة “الغيطة” بحيث في الموكب التازي يكون عدد الغياطة نفس عدد الأعلام كتقليد قديم. ومن تميزهم في الموكب ركوبهم على فرسان مدربة منسجة مع الايقاع ويوجدون في العادة خلف موكب الطواف، الذي يرتب وفق تدرج في مقدمته نجد الأعلام ثم ما يعرف ب ”الحَضَّارَة” والطبالة وبوجناجن، ثم الغياطة بصدى تفاعلٍ يجمع الأول بالأخير من الحفل.

ولعل من تجليات تراث الطائفة العيساوية التازية وتفاعلها الروحي المحلي منذ عقود، وهو ما ينبغي استمراره حماية لذاكرة المدينة الثقافية وإرثها الرمزي اللامادي، هناك “الحضرة” التي كانت تقام كل يوم جمعة من خلال ما يُعرف بالذكر والتحير، ثم “الليلة” التي عادة ما تنظم من قِبل أسر مريدين عيساويين أو أحد الذين يعانون من مرض ما أو من الأسر التي رزقت مولوداً جديداً..، وعادة ما تكون الليلة بايقاع روحي خاص بدءاً مما يعرف ب”الدخلة”، ولعله مكان يجتمع فيه مقدم الزاوية مع مريدين حاملين لأعلام غير بعيد عن بيت الحفل وهم يقرأون ”سبحان الدايم”، قبل استقبالهم بثمر وحليب وشموع رغبة من أهل البيت في بركتهم ودعائهم..، لتتم قراءة الحزبين والانتقال للتحير على نغم طبولٍ وغيطةِ دقةٍ عيساويةٍ أصيلةٍ مؤثرة. ومن المفيد الاشارة الى أن عيساوة تازة كانوا يحيون لياليهم مجاناً اللهم ما كان يُقبل من “تبرك” و”زيارة” لأسر ميسورة.

وشأنها شأن باقي طوائف سائر مدن ومناطق البلاد، كانت ولا تزال الطائفة العيساوية التازية تفضل إحياء حفلات بطبيعة روحية ابتهالية صوفية استعراضية انجذابية، الأسلوب الروحي الذي كان يحضر ما هو خاص من ليالي أسرية “الليلة”، ناهيك عن مساهمة عيساوةتازةفيما هو حفلات تراثية ومواسم ذات علاقة بشهر رمضان وعيد المولد النبوي وغيرهما. وكانت ليالي تازة العيساوية بتقاليد وقدسية خاصةنظراً لِما كان يطبع أداءها الروحي ودرجة تأثيرها وقبولها وتفاعلها، كذا ما كان يملأها من خُلقٍ وولعٍ وطهارةٍ وجمْعٍ مبارك. وتذكر رواية أحد المعنيين(إ- ب) أن جده من أصول مراكشية كان ضمن الطائفة التازية عازفاً على “القرقبات”، وفي حفل قبل بداية “ليلة” إلتمس مقدم الزاوية ممن هو غير طاهر بالانسحاب، ولما بلغت الليلة ذروتها خرج رجل ليسقط بباب البيت مغماً عليه، ليظل طريح فراشه لفترة كان فيها مريدو الزاوية يزورونه ويدعون له بالشفاء، ليصارحهم أنه لم يكن على طهارة وأنه خجل من الاستجابة للنداء حتى لا يقال عنه شيئاً فحصل ما حصل.

وبقدر ما كانت تازة بمكانة وتفاعل تراثي عيساوي، بقدر ما كان يتقاسمها عيساوة ودرقاوة وتهامة (أهل وزان)، بحيث الانتماء للزاوية كان أمراً روحياً واجتماعياً، لمِا كان لـ”المقدم” من دور في التعاون والتآزر وحل نزاعات المريدين… ومن مجموع 21591 من المريدين العيساويين بالبلاد الى غاية ثلاثينات القرن الماضي، كان بتازة لوحدها حوالي ألفي مريد أغلبهم من الحرفيين وهو ما يؤكد أن المدينة كانت بدينامية حرفية معبرة، تكفي الاشارة في هذا الاطار الى أن آخر حرفي عيساوي عن الدباغين بتازة هو قدور النويكًة التي توفي في سبعينات القرن الماضي. وحول مسألة خلف الزاوية في لقاء مع “المقدم” الحالي محمد النويكًة أشار الى أنه بالشكل الروحي أمر غير موجود بينما شكلاً فحدث ولا حرج، وأن من لا شيخ له في التراث الصوفي المغربي لا واقع ولا مستقبل له. وعن موارد وقف الطائفة أشار الى أن ما كان منذ مطلع القرن الماضي لم يبق له أثر، وما هو الآن محدود جداً فضلا عما هو عليه من تعثر وتعقد.

ولعل طائفة عيساوة تازة برئاسة ”المقدم” النويكًة باعتبارها مكوناً من مكونات الأثاث التراثي الثقافي الأصيل بالمدينة ل عقود من الزمن، واحدة من مجموع أربعين طائفة عيساوية أصيلة قائمة بالمغرب على ايقاع زمن صوفي ممتد، حافظة لأسس زاوية شيخها ولهوية تعبيرها الخاص ورمزيتها، ضمن واقع وتمثلات وعي وذاكرة وتراث لامادي. وعلى أساس قِدم الزاوية بتازة فإن طائفتها هي بأرشيف وتراكم هام وموقع ورمزية خاصة في ذاكرة المدينة ووجدان أهلها، من خلال إسهامها وتجليات احتفائها وحمايتها لهذا الارث الثقافي اللامادي المغربي، كذا ما تعمل على ترسيخه من قيم تسامح وتآزر وتعاون وصلاح وخير واحسان ومودة وتعايش، هذا فضلا عما تحييه من ليالي بطبع تراثي أصيل خاص وفق ايقاعها الموسيقي المتميز. ولعل ما هي عليه من وقع وعمق في هذا المجال جعلها بورشة خاصة بصناعة واصلاح الآلات الايقاعية العيساوية، وهو ما لا يوجد سوى في ثلاثة مدن مغربية عتيقة أخرى هي فاس ومراكش وأزمور.

تبقى زاوية الهادي بن عيسى وطوائفها بالمغرب بما في ذاك طائفة تازة وهي الطوائف التي حظيت باستقبال وتبرك وتكريم ملكي قبل سنوات، هي ما هي عليه من هويةٍ وتميز وأصولٍ وعمقٍ تاريخي مغربي في زمن عولمة وتدفق قيمٍ وحوار ثقافات. وكذا ما يتقاسمها من زمنٍ ونشأةٍ وأسسٍ وشيخٍ وفقهاء وعلماء وأهل ذكرٍ وحفظةٍ ورمزيةِ أضرحةٍ ونصوصٍ وأشكال تعبيرٍ ونشوةٍ وجذبٍ وحكيٍ ومشتركٍ .. عابرٍ لمكانٍ وزمان، وهي ايضا ما أسهمت به ولا تزال من أدوار بتجليات عدة ومتداخلة على امتداد قرون جعلها بمكنة وموقع رمزي  لدى بلادٍ وعِباد.

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

إلغاء الاشتراك من التحديثات