تازة بريس

تسابقوا إلى داخل تازة لا يلوون على شيء الواحد منهم يعثر في كعب صاحبه

-

تازة بريس

سعيد عبد النابي

كانت تازة السفلى مجرد ضيعات مترامية الأطراف تميزت بجنانها الغناء الوارفة الظل، وكان الساكن بتازة العليا يراها من فوق محسودا على الجلسة والزاوية والرؤية، عاشت فيها الحيوانات والحشرات وكل مخلوقات الله في سعادة تامة وتناغم جميل، إلى أن حولها الفرنسي إلى مدينة انسابت على أديمها ألوان الحداثة، فبدت للزائرين جنة وأصبح لنا من ثم فيها مستويين في مفارقة عجيبة، العُلْوٍيون التازيون المختلطون بالرعاع، والسُفْلٍيون الفرنسيون، وطوبى لمن كان يحمل لنسائهم القفف أو يلمع لرجالهم الأحذية. نَعِمَت فيها العائلات بالهدوء و السكينة والسلام و الدعة، فتغذت بسحرها الأحاسيس وأزهرت الأحلام، وللحفاظ على ذاك الرونق رفعت إدارة العسكر الاحتياط واليقظة درجات .. كي لا يدهمهم أمر فظيع.

فمنع القروي من جَوْبِ الشوارع الجديدة، وعلى من أراد التسوق المرور من قريته إلى تازة العليا مباشرة، يلج أبوابها المتعددة غير مغضوب عليه ولا ضال، كأنها تذكره بالجنة، وقد كان لها على القلوب تأثير السحر على المسحور، وهي الفاتنة ببساطتها، الثرية بموروثها المتنوع، يرى فيها المرء كل شيء جميلا، نشطت في دروبها و أزقتها تجارة خاصة، اختلفت عن أنشطة تازة الجديدة، ربما لتأكيد تحولها بخطفها من باريز، أنوارها المتلألئة و ملاحتها الآسرة للنفوس وبهرجتها الأخاذة، إلا أنها وضعت في السفوح المنبسطة، بين مرتفعات تازكة ومرتفعات المكناستين، احتراما لتاريخها العريق و إجلالا لأرواح طيبة مرت بها، وتركت عبقها، رغم الرحيل، ولقد تجلت هذه العاطفة الجياشة في نظرات العشق المرسلة من عيون أي زائر نحو هذا الفضاء المستقر على مرتفع ممتد أحدقت به المغارات و الكهوف. لم تكن الأدراج الموصلة إلى باب الجمعة موجودة أيامها على الأرض، لا واقعا و لا خيالا، وكان السبيل مجرد مسلك من طين دكت ترابه الحوافر والأقدام،  يفي بغرض التنقل ولو بصعوبة كالسراط المستقيم، ولما وصل علال الباب الواسع الكبير، باب الجمعة ـ وجد ثلاثة على يمينه يدخنون عشبة القنب المغربي الكتامية المغرس، التي ارتبطت بالكيف و التكييف، وجعلت من الجاهل إذا ما تناولها عريفا، كان يسير خلف جحشه المحمل بأمداد من حبوب مختلفة، بنية بيعها،  والتبضع بثمنها، ثم العودة إلى أهله، قبل الغروب محملا بما يبهج صدورهم،  لكن احد الحشاشين الثلاثة رمقه من بعيد.. فتابعه بنظراته المسطولة و هو يصعد نحوهم، كهلال يسعى إلى النجوم المتوهجة في السماء، ولم تخل اللحظات من حديث، إذ ناقشوا و استهزؤوا و ابرموا الاتفاق :

– هذا البدوي..لن يمر، سنبيع الجحش و حمولته ونشعل بالقبض الشموع .. سنملأ الأقداح ونحيي الأفراح إلى أن يتنفس الصبح و يمتد الصباح الوضاح.. هذا ما صرح به من كان يعتبر نفسه كبير المشاكسين، وقصد بالأمر رفيقيه اللذان ضحكا ملأ فيهما .. معتبرين علال لقمة سائغة، وراجت أفكار الاقتتال في الرؤوس الثلاثة، كل واحد تخيل نفسه مقدما على فعل سيخلده، حرك أحدهم يديه في خفة كأنه يقلد محمد علي كلاي رحمه الله قبل وصوله الحلبة، وشرع الثاني ينط في مكانه، في حركات تسخينية، وهو يضرب الفراغ برجليه كالكنغر، بينما تقدم ثالثهم نحوه.. ليكون له فضل الغلب، ويحتفظ بشرف الزعامة. في حين لم تجل في خاطر علال سوى حاجاته الأسبوعية، الغير متوفرة في سوق قبيلته الأسبوعي، و الوقت الذي ينفذ منه، إذ كانت الرحلة ـ في غدوه و رواحه ـ تستهلك ساعات نهاره، ولا ريب أنه أستيقظ قبل الفجر، ليعود إلى بيته بعد الأصيل، و رحمة بدابته فضل المشي،  بأقدام تكاد تكون حافية.. و إذا كان الرجل منهكا… أنى له بالقوة لرفع يده، وهزم ثلاثة مساطيل؟، لم ينتبه للثلاثة في البداية.. إلى أن أثار انتباهه بحركاته المريبة كبيرهم في الزندقة و السفه، و رغم ذلك لم يعره كبير بال، إذ اعتقده سيسأله عن شيء، أو يبدي رغبة في سلعة من سلعه، لاسيما وبعض تجار المخدرات اعتمدوا البغال و الحمير وسائل نقل، لكل شيء .. الفتوة الثلاثة يعلمون أن الطريق إلى مدينتهم جد منهكة، محفوفة بالمخاطر، من يقطعها يصل إلى الأبواب لينا طيعا رطبا كشحم الصيف من التعب، والبدوي مكبل اليدين، يشكمه زحشه و بضاعته، لن يهرب.. لن يضرب، مجبر على التخلي عن بضاعته بغزير الدمع، والتوسل توسل الراهب التقي، حماية لروحه، هذا ما خلص اليه تفكيرهم، فاطمأنوا غاية الاطمئنان. 

وترجاهم علال أكثر من مرة لإدامة أمد السلام بينهم ، ومط بسبابته إلى الأمام، مشيرا إلى كبيرهم يطلب منه عبثا إخلاء طريقه، والانتحاء قبل الاستناح، لكن رجاؤه كان زيتا صب على نار، زاد الفتوات إصرارا على الظلم، ونفخت فيهم غلايينهم  قوة، ظنوا أنفسهم بها سيسيطرون على منافذ المدينة كاملة، وكان الدوبامين يتراقص وسط كرياتهم الحمراء و البيضاء دون ضوابط، كحبات البلانكطون في مياه بحر عميق، و عضلاتهم، ظنوها تتصلب كالحجر، فقالوا متفقين على رأي واحد ، أخذ الحمار و السلعة معا غايتنا اليوم، فان تعنت صاحبهما، علقناه على رأس الباب لترهيب الخلق، وفرض احترام ،جوهره الخنوع، وقال كبيرهم بلغة المخزن.. خل  لحمار وسير فحالك ، فرد عليه علال في هدوء تام كاشف عن جَلُدٍ مذهل :  يا ودي  سير انت عند يماك بعطيماتك صحاح … راك دندم ، وضحك المسطول، و هو المسنود الظهر بصاحبيه، فتمادى في تهديده : انت تندمني؟ خلي لحمار ولا نديك معاه تجني الغلة فالواد …. وقهقه. وهنا احتدم  صدر  علال غيضا و غضبا، بعدما فتحت الأفواه الثلاثة معا، و تشدقت بكل كلام فاحش، و قذفت الصدور غلها و حقدها إلى وجه المحسوب ضحية رذاذا، و امتدت الأيادي إلى خناقه، تهدد  وتتوعد،  ولما انحنى قليلا، ظنوه سيبحث عن حجارة يرشقهم بها، أو سيسعى إلى الشجرة القريبة منهم ، يتخذ له منها نابوتا يخيفهم به،  فهموا إليه في خطوة استباقية لينهالوا عليه باللكمات، و هو في حالة ضعف، كما اعتقدوا ، لكنه بهرهم بشد ساق زحشه الخلفي، فطير ما استقر في اليوافيخ من العشبة.. حين رأوه يرفعه إلى الأعلى، رفعهم  فرخ بط أو دجاج، ليضربهم به ، و قالوا هذا البشر من كوكب آخر… و تبادلوا فيما بينهم جملة واحدة .. : وافرط ادينك فرط … فتسابقوا إلى داخل المدينة لا يلوون على شيء ، الواحد منهم يعثر في كعب صاحبه … وبئسا  للتيك توك الذي تأخر عن ذاك العهد سنين ، و إلا كان فيديو علال و المساطيل حقق ملايير المشاهدات والجيمات، بها يتبوأ مقعده بين النجوم والملوك والرؤساء …

جمعوي وكاتب

إلغاء الاشتراك من التحديثات