تازة بريس
عبد السلام انويكًة
يتبين من أرشيف صور تازة سواء منه الذي يعود لزمن الحماية أو فترة ما بعد الاستقلال الى غاية مطلع ثمانينات القرن الماضي، ما كانت عليه المدينة من مساحة مجال أخضر وما كانت عليه شوارعها الجديدة من اشجار موازية ممتدة على ايقاع منظم جاذب، فضلا عما كان يتوسط مرافق المدينة ومؤسساتها من مدارس ومستوصفات ومستشفيات وادارت عمومية وغيرها، من انواع اشجار منها من ظل قائما شامخا على امتداد حوالي قرن من الزمن، قبل أن يتم بترها أو قطعها نهائيا وانهاء جملة مشاهد بيئية جاذبة كانت بجمال ايكولوجي متميز، سواء تعلق الأمر مثلا بما كانت عليه ساحة الاستقلال بتازة السفلى أو فضاء مستشفى ابن باجة أو ساحة بلدية تازة ومحيط ثانوية ابن الياسمين، أو المسبح البلدي ومحيطه وكذا جنبات الملعب البلدي وايضا ما كان يعرف بجنان السبيل بتازة العليا ومعه اشجار ساحة أحراش، ناهيك عن غابة باب الجمعة وما كان من امتداد ومجال اخضر محيط بكيفان بلغماري(كيفان اليهودي)، ذلك الذي كان يمتد من باب الجمعة حتى مشارف الحصن السعدي(البستيون) على طول سور اثري مريني بالجهة الشرقية للمدينة العتيقة المطلة على ضريح سيدي عيسى وواد انملي.
دون نسيان ما كان من مجال اخضر محيط بضريح الشيخ ابن بري وما كان يضفيه من مناظر تخص تازة القديمة، مع أهمية الاشارة لما كانت تحتويه عمالة الاقليم ايضا من أشجار شامخة بمنظر جاذب الى عهد قريب. فضلا عما كان يطبع تازة السفلى على مستوى محيط ثكنة “جيراردو” العسكرية من جميع جهاتها، من خلال مساحة خضراء ممتدة تعود لسنوات احتلال المدينة من قبل القوات الفرنسية مطلع العقد الثاني من القرن الماضي أي قبل اكثر من قرن من الزمن. ولعل جزءا من هذا الأثاث الشجري سواء داخل أو على جنبات هذه الثكنة لا يزال قائما شاهدا لحد الآن. دون نسيان ما كانت عليه مداخل تازة الرئيسة سواء من جهة الشرق أو الغرب من أحزمة شجرية ممتدة مسايرة للطريق الوطنية على امتداد كلمترات، كثيرا ما كانت تضفي جمالية خاصة على تازة وتجعلها حقا حديقة كبرى بتعبير الكثير .
كل شيء من هذه الصورة والوصف المختصر لما هو ايكولوجي ومساحة أشجار وطبيعة كانت تملأ الوسط الحضري لتازة، اصبح في خبر كان الى حد كبير لدرجة بات مجرد ذاكرة ونوستالجيا من خلال ما تحفظه صور أرشيف الى عهد قريب، حيث تم تجريف المشهد في سواده الاعظم وإفقاد المدينة لِما كانت عليه من توازن بيئي متفرد، إثر ما عرفته ساحاتها وشوارعها ومؤسساتها من عمليات تهيئة، بقدر ما استهدفت جوانب معينة ارتبطت بضرورة ما، بقدر ما أتت على جمالية المدينة وتميزها الجبلي عبر ما حصل من طمس لهوية محلية شجرية، وما كانت عليه من تصفيف وتجاوب وتناغم مع طبيعة مكون مناخي محلي. بحيث رغم ما حصل من تدبير واجتهاد من قبل مصالح معنية بالشأن البيئي، لم يتم التمكن من تعويض بيئة شجرية حضرية عمرت لعقود إن لم نقل لقرون من الزمن على مستوى بعض أمكنة المدينة، بل لم يتم التمكن ايضا من حفظ ما كان يطبع تازة من مساحة اخضرار وظلال. وعليه، ما حصل من تراجعات في مجالات المدينة الخضراء، تلك التي تميزت وتفردت بها منذ فترة الحماية وعبر ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي.
ولعل مشهد المدينة البيئي بدأ يراجع كما هو غير خاف عن متتبعين ومهتمين مع نهاية ثمانينات القرن الماضي، اثر ما عرفه الوسط الحضري من تغيرات كانت نتاج ما تقاسمه من مشاريع ومسارات تهيئة لم تكن بما ينبغي من تبصر ودراسة وبعد استشرافي واعتبار لِما هناك من خصوصية وهوية مجالية محلية. هكذا حصل ما حصل من فقدان تازة لهويتها من خلال ما افتقدته من مساحة شجرية كانت تضفي منظرا عاما متميزا عليها الى غاية ثمانينات القرن الماضي. مع أهمية الاشارة الى أنه أمام ما حصل من اجتثاث بيئي، لم تكن هناك تأملات ولا قراءات عملية لِما كان يجري عبر آلية مجتمع مدني ولا عبر جهات معنية ووصية من منتخبين ومصالح عمومية وغيرها. لدرجة لا نجد في الأرشيف ما يعكس وعيا محليا شافيا يهم حماية إرث المدينة الطبيعي الحضري، باستثناء مقالات محدودة ارتبطت بمركب سيدي عيسى الاثري البيئي، لِما كان يحتويه من انواع شجرية تعود لفترة الحماية، وقد كان هذا المركب مهددا بتحويله لتجزئة سكنية لولا يقضة فعاليات مدنية آنذاك ومعها عدد من المثقفين. كما لا يوجد في الأرشيف ما يفيد توجيه مراسلات لهذه الجهة وتلك في شأن وضع المدينة وما يتعرض له من أجل ما ينبغي من تدخل وانقاذ ما يمكن انقاذه. وعليه، يمكن القول أن تدهور مجال تازة الأخضر بدأ منذ أكثر من ربع قرن، بسبب ما حصل من زحف رهيب للبناء والاسمنت ومن إعدام لبساتين ومساحات شجرية واسعة تحولت لمشاريع سكنية، دون مراعاة ما يجب من توازن بيئي ومن حاجة لهذا المعطى الصحي الجمالي والنفسي ايضا.
وغير خاف عن عارفين بالشأن، ما فقدته المدينة من موارد ومناظر بيئية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك الذي تبدو تجلياته واضحة من خلال ما هناك من فراغات وبياضات كانت بالأمس القريب مجالا أخضر هنا وهناك، سواء على مستوى المدينة العتيقة ومحيطها أو ما كانت تحتويه المدينة الجديدة (تازة السفلى) من تصفيفات شجرية عبر شوارعها وازقتها وهي في سوادها الأعظم جزءا من أثاث زمن كولونيالي. أو من خلال ما هناك من مشاهد اختلالات كانت بالأمس وعاءا ايكولوجيا حضريا، كما حال ما تبقى من امتداد غابوي مطل على مسبح المدينة التاريخي، وقد فقد ما فقد من شروط توازن لدرجة أنه بات مهددا بالتلف لأسباب عدة طبيعية وبشرية، فضلا عما هناك من تدهور بيئي ملحوظ شمل ما كان قائما من امتداد شجري محيط ب: كيفان بلغماري على مستوى اجراف وأسوار ما يعرف ب: سيدي عيسى. علما أن تشجير هذه الأمكنة من المدينة سواء خلال فترة الحماية أو بعد الاستقلال، كان بهدف حماية تربتها من الانجراف نظرا لما هناك من انحدارات، فضلا عن إغناء هذه الأمكنة بمناظر رافعة لما تحضنه، من تجويفات وكهوف بإحالات وأثر انساني أو من منشآت ترفيهية كما بالنسبة لمسبح المدينة الشهير، وقد تحول خلال العقدين الأخيرين الى خلاء حقيقي مثير للشفقة والسؤال، في تبخيس تام علني لقيمته وموقعه في ذاكرة تازة المادية والرمزية وهذا موضوع الحديث فيه ذو شجون.
وعليه، فما توجد عليه المدينة من تدهور بيئي وتراجع في مجالها الأخضر أمر مقزز باعث على الأسى، لكون مشاهده ليست بما ينبغي من التفات وعناية وتدخل رغم ما هي عليه من بؤس وخراب ومنظر مثير ، ولكون ما تبقى منه على محدوديته يذوب أمام أعين الجميع. علما أن ما يطبع المدينة من وضع طبغرافي وخصوصية مناخية وطبيعة تربة وغيرها من تركيب وبنية، يقتضي اعادة الاعتبار للبيئة الحضرية من خلال احاطة المجال الأخضر بما ينبغي من عناية وتهيئة وحفظ، خدمة لِما هناك من رهانات تنموية وتطلعات تدبير واستثمار لِما هناك من موارد محلية. ولعل استرجاع ما كانت عليه تازة من مشهد بيئي جاذب ومجال أخضر واسع متنوع قبل حوالي الربع قرن، ليس بالأمر السهل على أساس أن المسألة بحاجة لجهود الجميع كل من موقعه، بما في ذلك الساكنة المحلية وفعل وتدخلات مكونات المجتمع المدني، ناهيك عن الهيئات المنتخبة وما يمكن ان تسهم به السلطات المحلية من خلال ما يقتضيه الأمر من تصميم تهيئة حضرية متناغم، آخذ بعين الاعتبار ما ينبغي من مساحات خضراء وما كان بالمدينة من ذاكرة خضراء هنا وهناك. علما ان تازة كانت بمثابة حديقة كبرى كما سبقت الاشارة لذلك، بل مدينة ظلال من خلال ما كان يتقاسم ليس فقط ساحاتها وشوارعها ومحيطها من اشجار واخضرار، بل ايضا حتى بيوتها ومرافقها على مستوى مجالها العتيق كتقاليد ونظام عيش وحس جمالي ضارب في القدم. وحتى على مستوى مرافق الخدمات العمومية وشوارع المدينة الجديدة، كثيرا ما كانت تملأها الأشجار التي كان يستفاد من ظلالها صيفا حيث وقت الحر، فضلا عما كان يوفره المجال الأخضر من تلطيف للجو واستراحة وترويح عن النفس.
هكذا كانت المدينة الى عهد قريب قبل كل ما شهدته من تحولات ترابية حضرية سريعة متلاحقة، من جملة ما افتقدته وكان ضحيتها هناك المجالات الخضراء التي باتت تحديا حقيقيا، يتنافى ليس فقط مع طبيعة مدينة كانت دوما خضراء منذ القدم بحكم ارتباطها بالجبل والارتفاع وما كان يميزها من تدفق مياه، بل ايضا مع ما هناك من توصيات مناخية دولية وتوجيهات وطنية تقول بضرورة حماية البيئة، من خلال غراسة الأشجار وترسيخ ما ينبغي من سلوك مدني وتدبير ترابي وعمليات تهيئة منسجمة وغيرها من الاجراء الرافع للشأن البيئي.
فاين هي تازة الآن بكل طيفها، من حفظ مشهدها ومجالها الأخضر. وأية أوراش تخص إغناء هذا المجال وتوسيعه وحمايته، وأية اجراءات لتجاوز اختلالات وحماية وحفظ ما تحتويه المدينة من ذاكرة بيئية ممثلة في أمكنة ومكونات برمزية جمالية، من قبيل ما كان يتوسط ساحات وبنايات ومرافق عمومية من أشجار معمرة، تم قطعها وجرفها رغم أنها لم تكن تشكل أي خطر على أي شيء. وهو ما أفقد بعض الأمكنة منظرها الذي كان يضفي على المدينة صورة وايقاعا خاصا، وهذا ما يحيلنا على سؤال درجة مراعاة ما هو قانوني ومواصفات بيئية شجرية في هذه العمليات. علما أن من الأشجار ما لم تكن متهالكة ومع ذلك تم قطعها، ونعتقد أن بحكم قدمها وجماليتها وموقعها وأهميتها في تأثيث صورة مكان ما، كانت تقتضي تخفيفا مع حفاظ على عبقها ورونقها وهيبتها وشموخها وذاكرتها الرمزية، ضمن ما ينبغي من تخطيط قبلي وتقدير شاف قبل كل اجراء.
ولعل السياق يحيل على جملة اسئلة، من قبيل ألم يكن ما تم قطعه من اشجار بحدائق ومرافق عمومية وغيرها كان دون وجه حق، وهو ما يعاقب عليه القانون ويقتضي مساءلة. ألا تحتاج مثل هذه العمليات التي تخص مجال الوسط الحضري الأخضر، الالتزام بمعايير وترتيبات معمول بها عوض ما قد يحدث من ترامي وتحايل ومن ثمة من تخريب. وكيف بعد عملية اجتثاث أشجار لاعتبارات ما، ينبغي تعويضها بأخرى وفق معايير معينة حتى تكون أكثر ملاءمة واستجابة بيئية. وعليه، هل تم تجديد ما تم قطعه من اشجار بمدينة تازة ضمن أوراش عمومية عدة هنا وهناك خلال العقود الأخيرة، وفق ما ينبغي من معايير وخصوصية انباتية فضلا عن علاقة بما هو تربة ومناخ وطبغرافية وغيرها. علما أن من انواع ما تم قطعه من اشجار يعود لفترة الحماية، وأن ما كان بالمدينة من اصناف شجرية كانت أكثر انسجاما مع طبيعة وبيئة محلية، ومن ثمة ما كان يضفيه هذا التوازن والمشهد من رونق وجمالية صورة جاذبة كثيرا ما جعلت تازة تنعت بالحديقة الكبرى الى عهد قريب.