تازة بريس
بجرسيف .. وادي ملوية كان يرنيني فأجلس على احدى ضفتيه بالساعات اتأمله، جزء منه يوهمني انه بحر وجزء آخر يتجلى كانه شاطئ ساحر، خلق لضيقه نزاعات بين السباحين وهواة صيد السمك بالقصبة، الاولون يخافون حدة الصنانير على رؤوس الخيوط، أما الثانيون فاتهموا بافزاع السمك وتهجيره، تصرف أعتبره الاولون عرقلة مما جعلهم يقضون الفترة الصباحية أو المسائية في جدال عقيم، كل يدعي أحقيته في المكان والماء، والسمك ..
الجميل في ذاك الفضاء انتقالنا اليه من المدينة والطريق المعبدة عبر اشجار سامقة، كأننا ننتقل من عالم الى آخر، المتعة بينهما طبقات. وعلى امتداد كان يتسع المجرى وينبسط، يضعف فيه اندفاع التيار نسبيا، بحيث لا يتجاوز علو منسوب ماءه صيفا نصف الساق، أما شتاء فكنا نفضل عبوره عبر الجسر الطويل خوفا من الغرق، كان يبدي قمة عنفه وغضبه شهر دجنبر أو ابريل ، يضيق الاتساع في نقطة هي المنعطف الخطير، تمة كانت تزداد قوة التيار وسرعته، فنسمع ارتطام موجه على صخرة عظيمة محدثا دوامة تسحب الضحية الى بركة عميقة الغور لا تعطي لضحيتها فرصة النجاة، كل الآباء حذروا أبناءهم ، رددوا على سمعهم ان ماءه اقسم على ابتلاع بضع ضحايا سنويا، – حالف بحلوفو – لذلك كنا نهابه خوفا من ان نصبح لقمته السائغة فنفجع اهالينا بغيابنا المفاجئ .. وقفنا فوقه مرعوبين كفقراء صينين نتابع التدفق، الانسياب والارتطام وشريط الماء العظيم المتحرك كسرب تنانين، نشاهد من علوه الشاهق المخيف مجرى ماءه يزداد قوة وغضبا، يوما عن يوم مأخوذين بهديره المفزع والممتع في نفس الآن، كم استمتعنا به صافيا كالمرآة شهر يوليوز وغشت، كم سرنا ضد تياره راغبين في الوصول الى أبعد نقطة فيه، أقدامنا الصغيرة تتعثر في شرائط نبات الحدج ـ الحنظل ـ المنتشرة بكثرة على جوانبه، فنتساءل.. أهو بطيخ شامي قزم؟ ام مسخ لشيء آخر لا نعرفه؟، الفاكهة عند الصغار تنحصر في الاسماء المتداولة على مائدتهم، ما غاب عن اللائحة لا فائدة منه، كنا نلعب بثماره، نتقاذفها، نشجها كي نكتشف شكل بذورها، أو نتذوقها بحذر فتغلبنا مرارتها و نرميها بقوة خوفا من ضررها، ماذا لو كانت سامة وتهاوت أجسادنا في الخلاء بلا حركة ؟ ماذا لو أحدثت أضرارها عاهات مستديمة ؟
كان يصل سمعنا صراخ امهاتنا من بعيد، ارجعوا ايها الشياطين ,, ارجعوا .. لا تطمئنوا الى صفاء الجو.. احذروا طوفانا ـ الحملة ـ قد يباغتكم …ثم نعود مرعوبين، بقلوب واجفة. تحذيرات أخرى كانت تصلنا، من صنف آخر لا تقتربوا من المنعطف، عمق الحوض لا يرحم الجاهلين بفنون السباحة العجزة، حيكت حكايات رهيبة حوله، ختمت بغرق من غرق ونجاة من نجى، وهناك من طفح الى السطح و دماء الرعاف تسيل من انفه لعدم تحمله، كان البطل بينهم من يصل الى قنينات الخمر الباردة في عمقه، والحقيقة ان ضفته الشمالية كانت مرتفعا عاليا كالطود العظيم يرمي الفتيان بانفسهم من اعلى قمته، فلا يسمع سوى صوت الارتطام المفزع يخلفه صمت الترقب، وعد الدقائق، ثم نتبادل فيما بيننا استنتاجاتنا : الرئة لا تتحمل ، في العمق يصبح الماء كالفولاذ يضغط على الضلوع، يكسرها، لا، لكن اذا علقت قدمك بشيء فستواجه الحتف، يعرضون انفسهم لاجل قنينات خمر، لا …غور الحوض ثلاجتهم، في الضفة الاخرى عتاة يسكرون، لكني ارى شبابا يمارسون رياضة القفز، لا، ليس هؤلاء، العتاة تعرفهم من مواقد تتوسط جلستهم، يشوون السمك و يحتسون الخمرة ..
نهاية شهر غشت سمعت بقرار رحيلنا الى تازة، طافت أمي باكية على الجيران، تستودعهم ، لم تستثن من أكرمنا منهم و من عادانا، وأنتقلت العدوى الى قلوبهم فجاء ردهم عليها بالعناق والشهيق وانهمرت الدموع على كل الوجنات، شعب منافق يضمر لك الكراهية في حياتك و بعد الموت يترحم على روحك. شعب جاهل، مريض، ومنافق. جمعنا امتعتنا في شاحنة كبيرة من نوع فورد حمراء اللون، ركبت على يمين السائق، وكانت الحركة ذكاء من أمي، جعلت بينها وبينه فاصلا، كانت تنظر الى الطريق منتحبة تنشف دموعها فأشاركها الفعل، كان الدمع من مراسيم الرحيل وكان السائق في بعض الأحيان يصب غضبه على المقود مرة، ومرة اخرى على ناقل الحركة، لا لسوء اضمره انما لضجره من تحركاتي، في النهاية استقرت حصاتي بعد قرصة من أمي على فخدي الأيمن لم افهمها …