تازة بريس

تازة: في رحاب مواقع المدينة الاركيولوجية وكيفان بلغماري(كهف اليهودي)

-

تازة بريس

عبد الاله بسكًمار

إقليم تازة بجاذبية خاصة على مستوى السياحة الاستغوارية، التي يطبعها حس المغامرة وهاجس الاكتشاف والتشويق والاهتمام بالدرس العلمي جميعا، لأن هذا الإقليم الحوضي الجبلي، يضم العديد من المغارات المعروفة وطنيا ودوليا وأخرى لا زالت لم تكتشف أو لم تعرف خصائصها ومميزاتها بعد، ويبلغ عددها الإجمالي حوالي 300 بين مغارات وتجويفات صخرية مختلفة موزعة عبر ربوع الإقليم في الحيز الجنوبي خاصة، تنفرد كل منها، وفق لحسن منصوري، رئيس الجمعية المغربية للاستغوار والسياحة الجبلية في تازة، بمميزات خاصة من حيث الشكل، النوع- الطول- العمق واللون. وعلى العموم، هناك نوعان من المغارات بتازة، النوع الأول يمكن وصفه بالمغارات الجيولوجية أو الطبيعية، وقد ذكرناه على نحو مجمل، أما النوع الثاني وهو الذي يهمنا في هذا المقال، فيتعلق بالمغارات ذات النوعية الأركيولوجية ، أي ببساطة تلك التي كانت تنتمي في فترات زمنية سحيقة للنوع الأول (الجيولوجي)، لكن مع الزمن، سكنها الإنسان البدائي وخلف فيها بعض اللقى والأدوات والآثار والوسائل البدائية أو ما قبل التاريخية وأبرزها محليا، مغارة “اليهودي” أو“كيفان بلغماري” ومغارة “السبع” وشبكة المغارات المحيطة بالهضبة المحتضنة لتازة العتيقة، وكذا تلك المواجِهة لها في سفح جبل تومزيت (1000 م) وما كان يسمى ب Les Rochers غرب تازة العتيقة بجانب برج سارازين وقبل طمره دون وجه حق ومن ثمة، انتصاب السوق الأسبوعي هناك، في أواسط تسعينيات القرن الماضي، ما شكل وقتذاك جريمة حقيقية في حق تراث تازة الأريكيولوجي، ثم هناك مغارة شيكا وبعض التجويفات الأركيولوجية بقرن النصـراني التل المشرف على ممر تازة من جهة الغرب.

تقع مغارة اليهودي أو كيفان بلغماري الأركيولوجية وسط تكوين صخري كلسي وأرجيلي أساسا شرق هضبة تازة، وكثير من أبناء المدينة والإقليم فضلا عن عموم المغاربة والأجانب، يجهلون موقعها بسبب عزلتها النسبية في تلك الزاوية الشرقية على بعد 100 متر إلى اليمين من باب الجمعة الفوقاني التاريخي في اتجاه باب الجمعة التحتي، وعلى علو 565 م بقياس السهل وفي مستوى سطح البحر. الجانب الطوبونيمي لهذا الفضاء الأركيولوجي يعود على الأرجح إلى فترات قريبة، فالتسمية المعروفة هي “كيفان بلغماري” حتى عند بعض الباحثين المشارقة والفرنسيين كرشيد الناضوري وفوانو وكومباردو وباسي، وهي أحدث من تسمية “كهف اليهودي” ذات الحمولة الشعبية عند كثير من أهل تازة، والمعروف أن تازة عرفت على وجه العموم تعايشا إنسانيا ومجاليا مع ساكنة يهودية قديمة، ذكرها المؤرخون والإخباريون وأصحاب الحوليات القديمة والقروسطية، وكان أكثر يهود تازة قد غادر المدينة نحو مليلية، أو تلمسان بسبب الأحداث الجسيمة التي عرفتها بعد دخول الجيش المخزني إليها بقيادة المهدي المنبهي العلاف الكبير (وزير الحربية في عهد السلطان م عبد العزيز) بتاريخ 07 يوليوز 1903 في سياق الصراع على السلطة والموقف من الأجانب، بين الفتان / الروغي الجيلالي الزرهوني وم عبد العزيز(ثم عبد الحفيظ)، وما نتج عن ذلك من أشكال نهب ومظاهر استباحة للملاح وعدد من أحياء المدينة، وسرعان ما عاد كثير منهم بعد إعلان الحماية على المغرب سنة 1912، ومن المحتمل أن يكون بعض هؤلاء اليهود المحليين قد عادوا إلى ملاحهم بتازة، اعتبارا من دخول الجيش الفرنسي وخاصة خلال السنة التي اكتشفت فيها مغارة بلغماري أي 1915، فنحن نرجح إذن أن تكون تسمية أو صفة “اليهودي” نعتا شعبيا وُجد واستمر إلى عهد قريب ولكن قبل تسمية بلغماري، أما التسمية الأخيرة فهي معروفة بتازة لأسرة محلية، يُحتمل ارتباطها بها، معاشا أو امتلاكا أو نحو ذلك، ويعود تسلسلها العائلي على الأرجح إلى قبائل غمارة الجبلية الواقعة غرب الريف.

ومن المفترض أن تكون تسمية بلغماري موجودة ومتداولة، عند دخول الفرنسيين إلى المدينة في ماي 1914، مما يؤكد أن المغارة أو على الأقل جزءا منها، كان موجودا قبل الحماية استنادا إلى أن كثيرا من باحثي ومنقبي الحماية، وضباط الشؤون الأهلية وإداريي فرنسا اعتمدوا على تسميات شفوية محلية أساسا، أي سمعوها من أفواه الساكنة التازية وسرعان ما أطلقوها هم أنفسهم على المعالم والأمكنة والأزقة، لاسيما وأن تلك التسميات والنعوت هي محلية بالأساس وليست من نتاج الحماية كما هو واضح جلي. مدخل المغارة الأركيولوجية – الممتدة على شكل ملتو نصف دائري تقريبا- يبلغ 3 أمتار و50 س عرضا، أما طولا، فيمتد المدخل عبر متر واحد، ما يدفع إلى التأكيد بأن عرضها أكبر من طولها، ومساحة تجويف المغارة يبلغ 10م مربع وبعلو5,50 م تقوم في عمق مجالها الأوسط دعامة صخرية، تبلغ من مترين إلى ثلاثة أمتار على مستوى القاعدة، والمغارة تتشكل من ثلاثة أقسام أو أجزاء: الجزء الطبيعي أي الذي احتفظ بهيئته الأصل منذ تشكله في المرحلة الأخيرة من الزمن الجيولوجي المتقدم، كما هو شأن الأطلس المتوسط الذي تشكل بين الزمنين الأول والثالث. أما الجزء الثاني من كيفان بلغماري فهو الذي اكتشف به الحجر المصقول ويبدو أن يد الإنسان قد ساهمت في تحويره عن شكله الأول، لعوامل معيشية تخص الإنسان البدائي، أو حينما اكتشفها الفرنسيون، وحتى فيما بعد، لمَّا قطنها الإنسان طيلة سنين ممتدة وإلى عهود قريبة (قبل أن تصبح شبه مهجورة، اللهم ما كان من كائنات هامشية ترتادها لسبب أو لآخر) وبدليل ارتباطها بشخص يهودي باعتبار استمرار وجود الساكنة اليهودية بتازة إلى حدود ستينيات القرن الماضي (كانت آخر موطنة يهودية “تازية” توفيت منذ 15 سنة تقريبا وهي المسماة “سليطنة، وأخيرا هناك الجزء الثالث من المغارة وهو المعتبر حديثا، ويمكن تصنيفه كجزء أركيولوجي بشري أساسا.

اكتشف الفرنسيون المغارة لأول مرة في سنة 1915 أي سنة بعد دخول الجيش الفرنسي إلى تازة، وجرت فيها تنقيبات هنا وهناك على يد عسكريين غير محترفين في واقع الأمر ولكن كان بصحبتهم بعض المتخصصين في الجيولوجيا أساسا، ونذكر من العسكريين: الملازم كومباردو وضابط الصف أندري، وقد كتب كومباردو عن كيفان بلغماري، وتكرر البحث والتنقيب أيضا في سنة 1916، وعاد هذا الضابط مجددا للكتابة عنها ضمن تقارير إدارية خاصة، في السنة الموالية ( 191) وكانت الحصيلة، عدة تقارير ضمن لجنة إفريقيا الفرنسية Bulletin du Comité de L’Afrique Française، خاصة عبر تقريرين صدرا سنتي 1915 و1921 “Notes Archéologique sur la région de Taza” و”Notes historiques sur la région de Taza”، علما في الواقع بأن الأمر كان يتعلق بفريق وجد ضمنه ثلاثة متخصصين في علوم الطبيعة هم: بارالي – دوميرغ ولوكواتر F. Doumergue (1917), P. Pallary (1918-1919) et à G. Lecointre) كما كتب فرنسيون آخرون عن هذه المغارة وبينهم هنري باسي سنة 1925، علما بأن بحوث كومباردو ومن معه استمرت حتى سنة 1921 وقد كتب أيضا عن موقع جرسيف وذهب الأستاذ الباحث أحمد هاشمي أن الموقع الأركيولوجي بذلك الإقليم يوجد بجانب جسر وبضفتي واد مللو. يفيد الضابط كومباردو بأنه خلال البحث في المدخل الخارجي للمغارة، اكتشف الفرنسيون آثارا مميزة للعصر النيوليتكي,أو ما يطلق عليه الجيولوجيون، ومؤرخو الحقب السحيقة العصر الجيولوجي المتأخر الإيبيروموريزي (لأنه شمل شبه الجزيرة الإيبرية وشمال إفريقيا) وهي الفترة السابقة مباشرة على ظهور الحضارة البشرية، وتمتد بين 10.000 و4000 سنة قبل الميلاد، وفي الرواق الذي اكتشفه كومباردو ومن معه، لاحظ وجود نوازل وصواعد مهشمة جزئيا، مما يفيد بتدخل يد الإنسان البدائي الذي كان يقطنها ومن أتى بعده أيضا، وحينما تمكن الفرنسيون من تحييد المكان وإزالة ما علق به، سرعان ما اكتشفوا أشياء لافتة للنظر بتعبير كومباردو.

وجدت في أرضية الرواق أعداد من الصوان Silex أو الأحجار المصقولة أشبه ما تكون بسكاكين بدائية تستعمل للقطع والتقليم، بعض الأدوات يعود إلى العصر الإيبيروموريزي وبعضها الآخر إلى العصر الحجري المتوسط، وبعضها الثالث يعود إلى الفترة المتأخرة لما قبل التاريخ أو ما يسمى بالعصر الحجري الحديث،  ثم عُثر على رؤوس سهام كانت توظف في صيد الوحوش أوفي بعض الصراعات جول الكلأ والمؤونة أو الطعام، إضافة إلى بعض أدوات الزينة من ذلك الصوان نفسه. وتم العثور أيضا على عدد من هياكل العظام وبقايا أخرى مجهولة، والأغلب أنها تعود إلى الإنسان البدائي الذي قطن مثل تلك الكهوف، مع بعض الحيوانات التي كانت موجودة بالمنطقة كالكامليد، وهو نوع مستأنس بين الخراف والجمال في ذات العصر الذي شهد الانتقال التدريجي من أنشطة الصيدإلى مجال الزراعة، دقة عظام الأقدام يرجح كومباردو أنها تعود إلى فترة أقدم من العصر النيوليتيكي، واعتبرها هذا الضابط الفرنسي متقدمة بالقياس إلى المحطة الأركيولوجية الفرنسية وتم العثور أيضا في الفضاء الأعمق للمغارة على عظام حيوانات أخرى كالثعلب ونوع حيواني متميز بين الثعلب والنمر، كما وُجدت عظام الأسد والفهد ونوع من الدببة، والمثير أيضا العثور على عظام بعض أنواع وحيد القرن وأيضا عظام الوحيش وبعض أنواع الغزال الوحشي والمُستأنَس.

بالتأكيد، فإن الشكل الأصلي والمجالي للمغارة طرأت عليه العديد من التحولات، منذ أقدم العصور، الشيء الذي خلص إليه الفرنسيون وهم أنفسهم قاموا بالحفر حول وداخل المغارة بشكل جعلهم يستنتجون ذلك، والمثير أن هناك تمثيل صخري دائري يجسد قرص الشمس يبلغ 1,3 م نُحت من طرف البدائيين على سطح صخرة بارزة، وقد يكون لذلك علاقة ببعض عبادات ومعتقدات الفترة المعنية. وهناك مدخل ببعض الدعامات، وفي التشكيلة الصخرية المعدلة والسطحية في جوف المغارة، تم العثور على عدد من الأواني الخزفية، وفي الطبقة المتوسطة من التشكيلة الصخرية وجدت أدوات حديدية ووسائل طعام بدائية مع أشكال مستطيلة وبقايا عظام بشرية ومرمدة (من الرماد المتبقي عن النار) وقواقع بحرية، تبين بأن الأمر يتعلق بقبور قديمة Troglodytes أما في التشكيلة الأعمق، فتم العثور على حجر صوان أيضا عبارة عن سكاكين وإبر بدائية وأشباه سيوف صغيرة مقلمة يرجح كومباردو أنها تعود إلى العصر الباليوليتي (12 ألف سنة ق م) وهو الذي شهد أوج نشاط الصيد لدى الإنسان والاستعمال المكثف للنار مع ظهور بعض العبادات البدائية (الشمس مثلا) ويعد أول مرحلة في ما يسميه المؤرخون والمختصون “مرحلة ما قبل التاريخ” علما بأنها في الأخير هي تقديرات عسكري فرنسي فعلا، ولكن وجود علماء طبيعة في ذلك الفريق قد يضفي عليها مصداقـية ما.

وُجدت في المقطع الأوسط للمغارة، إلى جانب تلك الأدوات القديمة، بقايا قطع فخارية مبعثرة تشكل قللا وأوان خزفية لفترات تاريخية لاحقة على الأرجح، مما يؤكد تعاقب التشكيلات البشرية والتاريخية على هذه المغارة ومن ثمة على موقع تازة والأحواز معا. أغلب تلك اللقى والوسائل المتخلفة عن العصور السحيقة، تدل بما لا يدع مجالا للشك على قدم التواجد البشري بتازة والمنطقة، ليس فقط تبعا لظاهرة السكن بالكهوف والتي اختص بها الإنسان البدائي ( وما زالت بالمناسبة موجودة بشكل مخجل للأسف في بعض مناطق البلاد) ولكن أيضا لوجود أحراش وغابات كثيفة في المنطقة، وكان مناخها عموما كما يذهب غلى ذلك بعض الجيولوجيين أميل إلى البرودة، ونحن نتحدث لا عن مئات السنين، بل آلاف وعشرات الآلاف من السنين، ولذا فإن كيفان بلغماري تعتبر موقعا أركيولوجيا من الطراز الأول يوازي أو يفوق حتى بعض المواقع الوطنية والدولية، وما هو في الوقع إلا موضعا واحدا مما يمكن تسميته بالقرية النيولتيكية (ما قبل التاريخ) المحيطة بتازة. معروف على نطاق واسع أن جل محتويات “كيفان بلغماري” من لقى وأدوات حجرية وحديدية وطينية والتي تعد رصيدا هاما بالنسبة لفترات ما قبل التاريخ على الصعيدين المحلي والوطني والإنساني، قد تم نقلها إلى متحف احمد زبانة الأثري الكائن بوسط مدينة وهران عاصمة غرب الجزائر الشقيقة، وذلك لاعتبارين كما نتصور: أولهما إداري تدبيري محض في ذلك الوقت، حيث إن المغرب في ظل الحماية لم يكن قد نظم مجال الآثار والتراث بعد سواء من حيث النصوص القانونية أو الجانب المؤسساتي، وثاني الاعتبارين: اعتقاد منظري الاستعمار في كل من المغرب والجزائر أن هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون مقاطعة فرنسية، ولذا فوضع تلك اللقى في متحف تابع للإدارة الاستعمارية أضمن لهم ولها ومن يدري ماذا هرب القوم إلى فرنسا نفسها.

وتوجد كل تلك اللقى والأدوات العائدة إلى الإنسان البدائي العاقل الذي عاش بتازة في الزمن ما قبل التاريخي بوقت طويل، توجد هذه المكتشَفات حاليا، ضمن رواق متميز من هذا المتحف الوطني الجزائري، شمل عددا كبيرا من تلك اللقى والأدوات والآثار والعظام التي وجدت أصلا بتازة، بل إن الرواق ذاته يُعرِّف بذلك الرصيد المتميز، ولا ينكر نسبته إلى مدينة تازة المغربية وهو شيء يشكر عليه الإخوة الجزائريون في كل الأحوال . ختاما وباستثناء بوابة وُضعت للمغارة، مطروح عليها أكثر من سؤال مجالي وجمالي، يبقى هذا الموقع الأثري الهام في وضع مهمل يرثى له، وضع غني عن التعليق كما هو حال كل مآثر مدينة تازة الزاخرة والتي تئن وتعاني وتتفتت في صمت القبور، دون التفات إليها من طرف كل المصالح المعنية كمندوبية الثقافة والمصالح الخارجية والوكالة الحضرية فضلا عن الجهات الجهوية والمركزية وغير هؤلاء من المتدخلين ولله الأمر من قبل ومن بعد.

رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث

 

إلغاء الاشتراك من التحديثات