تازة بريس
عبد السلام انويكًة
جزء هي من الهويات المحلية ومن ثمة من الهوية الوطنية، تلكم هي ذاكرة الشعوب الجماعية التي تعد من أسس كل تطور وورش اجتماعي وثقافي وكذا ترابي، لِما توفره من حمولة رافعة لكل تطلع صوب هذا وذاك من الرهان، ولِما يمكن ايضا أن تسهم به هذه الذاكرة على عدة مستويات لعل منها ما يخص الفنون ومنها السينما، وهنا يحق السؤال حول درجة تناغم الفعل السينمائي المغربي مع ما يطبع البلد من ذخائر غير خافية، والتي يمكن ان تكون موضوع اعمال درامية كبرى، من شأنها حفظ هذه الذاكرة وتوثيقها وجعلها اكثر حضورا واستمرارية وامتدادا في التنشئة الاجتماعية والثقافية، من اجل ما ينبغي من تلاقح بين سلف وخلف فضلا عن معرفة جامعة بين ماض وحاضر. مع أهمية الإشارة هنا الى أن سينما التاريخ والذاكرة وحصيلة مغرب الاستقلال لا تزال مساحة نظر وجدل، علما أن المركز السينمائي المغربي كآلية ذات صلة هو بحوالي ثمانية عقود من الزمن.
ولطالما كانت ذاكرة المغرب الوطنية في علاقتها بالدراما موضوع نقاش بين مبدعين ومثقفين واعلاميين ومهتمين، لاسيما وأن البلاد بمخزون تاريخي بقدر كبير من التفرد والخصوصية إقليميا ومتوسطيا، وأن ما هناك من ذاكرة جماعية لا تزال تؤطر وجدان وشعور المغاربة وهويتهم. ومن ثمة ما هناك من حاجة للكتابة والتأليف لإغناء ما هناك من تجارب، من اجل نصوص رافعة لسينما الذاكرة الوطنية بالمغرب، فضلا عما ينبغي من نقاش بين سينمائيين وباحثين أكاديميين مغاربة، في أفق الممكن من الاشتغال ضمن رؤية استشرافية من شأنها حسن استثمار كنوز ذاكرة البلاد التاريخية كتراث رمزي، لتجاوز ما هناك من خجل يخص موقع الذاكرة والتاريخ في الدراما المغربية، وجعل هذه الأخيرة بأثر داعم رافع لفهم ما حدث بعيدا عن السرد، من خلال ما ينبغي من زمن تاريخي ومن تأطير عبر زمن سينمائي. ومن ثمة ما يمكن ان يسهم به الفعل الدرامي الوطني، على مستوى ليس فقط احياء وحفظ هذه الذاكرة انما أيضا الوعي بها لفائدة راهن البلاد وتطلعاتها. ولعل بقدر ما هناك من تحديات تخص بلوغ المنشود من الاعمال السينمائية في هذا الشأن، بقدر ما هناك من شروط محفزة من قبيل ما تزخر به الخزانة التاريخية الوطنية من دراسات وابحاث، توجهت بعنايتها خلال العقدين الأخيرين لعدد من الجهات والقضايا والوقائع الكبرى. وهو الزخم الذي من شأنه جعل خزانة المغرب السينمائية بأعمال فنية ذات تميز وصدى كبير شكلا واثاثا ومضمونا، مستلهمة جوهرها ووقعها وتنوع تعبيرها مما هناك من ملاحم وطنية ومحطات فاصلة.
ويسجل أن ما طبع المغرب من زمن استعماري خلال القرن الماضي يبقى أكثر اثارة، وأنه رغم ما هناك من وعي في الوسط السينمائي الوطني بهذه الفترة الحرجة التي لا نزال نحياها على وقع مخلفاتها، لا تزال الدراما المغربية دون ما هو شاف من انفتاح وعطاء وتراكم وشجاعة أدبية، مقارنة بما في بلدان الجوار على صعيد دول المغارب، وأن السينما المغربية لا تزال بتجارب وإنتاج خجول جدا فضلا عن غياب قراءات وتمحيص وتدقيق ومعاينة عبر العمل الدرامي لِما حصل وما هناك من أثر. مع أهمية الإشارة أيضا الى أن ما تناولته السينما المغربية حول الفترة الاستعمارية، لا يزال لا يعكس قوة ذاكرة المغاربة وما تعرضوا له وما كانوا عليه من مقاومة وكفاح مسلح. وعليه ما ينبغي أن تتأسس عليه سينما ذاكرة وتاريخ المغرب وبخاصة منه المعاصر والراهن، من سؤال يخص الهدف من قراءة الماضي وجروحه، ومن مساحة عِبَر من أجل غد أفضل عبر تفعيل ماض في حاضر وجعْلِ هذا الماضي لا يمضي بل جزء من راهنِ البلاد، حمولة الزمن فيه عنصرا محفزا وطاقة ملهمة وليس عبئا ثقيلا عائقا. وغير خاف أن حوالي نصف قرن من سلطة ونفوذ الاستعمارين الفرنسي والاسباني كان بقدر كبير من الأثر على المجتمع، من قبيل ما حصل من تغيير في نمط حياة المغاربة وفيما حصل على مستوى مظاهر حضارة البلاد عبر ادخال اشكال عيش وتعبير وثقافة ذات مرجعية أروبية. فضلا عما طبع هذه الفترة من صور عنف وتعذيب وسجن واختطاف وإبعاد وخوف .. ومن صور حركة وطنية ومقاومة مسلحة وفداء من اجل الاستقلال. والتي لا شك أنها حضرت في بعض اعمال الدراما المغربية انما بشكل خجول، ضمن ما تناوله مثلا مومن السحيمي في شريط موسوم ب”144 أو اسطورة الليل” مطلع ثمانينات القرن الماضي. وهنا أهمية السؤال حول أثر الأرشيف لنقل وتقديم ما جرى عبر مناطق البلاد وجهاتها، من مقاومة وزعماء وشهداء ومؤامرات وطغيان.
ونسجل من ريبرتوار الدراما المغربية التاريخية في هذا الاطار ايضا، فيلم “بامو” مطلع ثمانينات القرن الماضي أيضا لإدريس المريني الذي عالج موضوع المقاومة المغربية للاستعمار من زاوية رسمية. ولعله بقصة مستلهمة من رواية أحمد زياد وكان الراحل محمد حسن الجندي هو من وضع له السيناريو، وكان ممن اثث هذا العمل الدرامي ثلة من الممثلين المغاربة حيث العربي الدغمي وحبيبة المدكوري ومحمد الحبشي وغيرهم. مع أهمية الإشارة الى أن فيلم “بامو” استحضر ما افرزه الاستعمار من نماذج بشرية جمعت بين مقاوم وثائر حامل للسلاح، ومنها أيضا من كان في خدمة الاستعمار وخاضع لسيطرته وتوجيهه. ورغم أهمية هذا العمل السينمائي المؤسس ، لم يتم رصد ما هناك من قضايا وأحداث طبعت هذه الفترة من تاريخ المغرب، وهي الخاصية والملاحظة التي ميزت باقي الأعمال الأخرى التي انفتحت على تيمة التاريخ والذاكرة المغربية الوطنية، من قبيل فيلم”كابوس” لأحمد باشفين ثم فيلم “نهيق الروح” لنبيل لحلو وقد ارتبطت جميعها بفترة ثمانينات القرن الماضي. ويسجل في هذا السياق الذي يهم سينما المغرب التاريخية، أن أول انخراط للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير من اجل عمل درامي في هذا المجال، كان أواسط تسعينات القرن الماضي من خلال عمل موسوم ب” المقاوم المجهول”، والذي لم ير النور بالقاعات السينمائية. والشيء بالشيء يذكر كما يقال، يسجل العربي بناني أنه كان أكثر انشغالا ورغبة في اعمال مغربية درامية ذات طبيعة تاريخية وطنية والتي منها خاصة مقاومة المغاربة للاستعمار، وعليه، تقدم بطلب دعم من الجهة الوصية أنداك من اجل اخراج عدد من الاعمال، منها واحد توجه فيه بالعناية للشهيد علال بن عبد الله الجرسيفي وقد تم رفضه لتكلفته العالية. ويسجل أن فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي رغم كل الملاحظات، تبقي الأهم والأغزر من حيث تجارب واسهامات وانشغالات المخرجين المغاربة بقضايا التاريخ والذاكرة الجماعية الوطنية، وبخاصة ما ارتبط بالاستعمار وملاحم المقاومة من اجل الاستقلال، في محاولة لإستدراك ما تم تجاهله على مدى عقود من الزمن نظرا لما لهذه المشاريع السينمائية من حساسية في اثارتها، وفيما يمكن أن تطرحه من حرج يخص علاقات البلدين المغرب وفرنسا وما يجمعهما من ذاكرة مشتركة وصداقة.
وعن السينما المغربية وقضايا التاريخ والذاكرة الوطنية من المهم الإشارة بمختصر مفيد ختاما لأن الموضوع ذو شجون، الى أن الظاهر هو أن الدولة من خلال المركز السينمائي المغربي هي بدور كبير على مستوى دعم أفق هذا الشأن، دون نسيان الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة التي بدور محفز أيضا للسينمائيين المغاربة مخرجين وممثلين ومؤلفين وكتاب سيناريو وغيرهم. فأين الخلل إذن بعيون كل متتبع ومهتم وكذا فاعل، هل في استراتيجية الاشتغال وشتات الرؤية لدى المهنيين أم هي أزمة نصوص وباحثين ومواكبة، وبماذا نفسر ما هناك من شبه بياض يخص سينما التاريخ والذاكرة المغربية الوطنية، ذلك الذي كان ولا يزال مساحة ندوات وتوصيات لقاءات ومقاربات هنا وهناك. فضلا عن جدل ملتقيات ومهرجانات لمكونات مجتمع مدني سينمائي هنا وهناك، من اجل ما ينبغي من سينما الذاكرة، فضلا عن أثرها من خلال اعمالها على درجة انفتاح المتلقي على ماضيه وحماية ما يحتويه هذا الماضي من بعد رمزي وذاتٍ وشعور ووجدان وانتماء ومن ثمة هوية.
رئيس مركز ابن بري للدراسات وحماية التراث
