الجامعة المغربية أو(كان يا ما كان) بتعبير وعيون وجدل وقراءة أستاذ باحث
تازة بريس
مقال مثير للجدل من حيث موضوعه وزاوية معالجته وجرأته بين قارئ ومتموقف ومتأمل فيما تضمنه، من نقد ووصف وتعرية لمظاهر ومتغيرات ومعيقات تخص واقع الجامعة المغربية، وبين متجاوب مثمن لما ورد في المقال من اشارات وهي تعيش ايقاع جملة اصلاحات توجد بصددها وزارة التعليم العالي خلال الموسم الجامعي الحالي على عدة مستويات بما في ذلك ما هو بيداغوجي. المقال الموسوم ب”محنة الجامعة المغربية في زمن الغَنَاثِرَة” لــ : خليد كدري استاذ باحث ومترجم، تم تقاسمه على نطاق واسع عبر صفحات الواتساب بين الجامعيين المغاربة وغير الجامعيين من المهتمين والمتتبعين، وقد ارتأت “تازة بريس” نشره استجابة لرغبة عدد من الباحثين الجامعيين، تعميقا لما ينبغي من نقاش ورأي وتطارح وتنوير، لمن يريد أن يسهم ويتفاعل من الأقلام المهتمة والأصوات الجامعية وغير الجامعية . والمقال كما يلي:
خليد كدري .. أستاذ باحث ومترجم
كان يا ما كان، في سالف الأيام، كان لشهادة البكالوريا المغربية شأن وطني وعربي، لا بل عالمي، حتى إن الحاصل عليها في القرى والمدن الصغيرة كان يُعَدّ من الأبطال المغاوير. وكانت نتائج الامتحان الوطني لنيل هذه الشهادة تُنشر في الصحف الوطنية المعتبرة…
كانت همم الطلاب الجدد تتطلع إلى شهادة الإجازة التي كان نيلها يتطلب أربع سنوات من التحصيل في أحسن الأحوال. أما دبلوم الدراسات العليا، فكان يستغرق سنوات طوالًا من الكد والاجتهاد والمعاناة. وكان الترشح له يتطلب سنة أو سنتين من التكوين القبْلي تنتهي بامتحانات كتابية وشفهية ومذكرة بحث متبوعة بمناقشة ثم شهادة، وعندئذ فقط يسمح للطالب بتسجيل موضوع رسالة الدبلوم بعد مفاوضات شاقة مع جهة الإشراف. وأما دكتوراه الدولة، فكانت تُضرب إليها أكباد الإبل، وتُسلخ من أجلها الأعمار، في أكثر الأحيان. وما كان ينالها سوى الألبّاء من أهل الصبر والاصطبار. وأثمر ذلك كله، كما نعلم، كوكبةً من الباحثين الجامعيين والعلماء المفكرين والمثقفين الشرفاء الذين كنا ولا نزال نباهي بهم الأمم.
لست ضد إرادة الإصلاح، ولكنني أناهض التخريب باسم الإصلاح. لقد أدت صفقة “المغادرة الطوعية” المشؤومة إلى إغراق الجامعة المغربية بالمئات من “أساتذة” التعليم المدرسي الحاصلين على الدكتوراه “الوطنية” على حساب التلاميذ الفقراء، وعلى حساب المال العام أيضًا. ولما تولّت هذه الخِلْفَة أمرَ الإشراف على بحوث الدكتوراه، ولا سيما في كليات الآداب، أغرقتِ البلاد بجيش عرمرم من الدكاترة الأمّيين أو الغَنَاثِرَة! أجل، لقد نحتت لهؤلاء اسمًا جديدًا لا يوجد في قاموس. والنحت على وجه العموم هو تركيب كلمةٍ جديدة من كلمتيْن أو كلماتٍ، بحيث تأخذ الكلمة الجديدة منها جميعًا بحظٍّ في اللفظ والمعنى. ولقد ركبت كلمتي الجديدة من غُنْثُر ودكتور − والغُنْثُر من أسماء الجاهل في لغة العرب −، فكانت النتيجة كلمة غُنْثُور، كدكتور. وجمعتها على غَنَاثِرَة، كدكاترة، ومنها أيضًا غُنْثُورَاه، كدكتوراه. ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، فسيرة سواد الغَنَاثِرَة الذين التحقوا بالجامعة، في السنوات الأخيرة، شاهدة على أنهم أشد جهلًا وأسوأ خُلُقًا من أولئك الذين غَنْثَرُوهُم، أو منحوهم الغُنْثُورَاه، أعني الذين تسللوا إلى الجامعة من نفق “المغادرة الطوعية”، وعلى حساب مصلحة الوطن. وليكن مفهومًا أنني أتحدث على وجه العموم، مدركًا تمام الإدراك أن هناك استثناءات، إذ لا تخلو الجامعة المغربية اليوم من أساتذة باحثين شباب لا يقلّون كفاءة عن أعدالهم من الجيل الذهبي الذي شرف المغرب ورفع رايته عاليًا؛ ولكنهم قلة قليلة للغاية، والاستثناء لا يقاس عليه كما يقال.
أما الغناثرة، فإنهم لا يقرؤون، ذلك لأن معظمهم يجهلون اللغات الأجنبية، حتى إن بعضهم ليعجز عن تصريف الفعل الفرنسي (être) في الماضي البسيط (passé simple)؛ والله على ما أقول شهيد! فأنّى لهم أن يقرؤوا بالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية؟! وإن اتفق أن قرؤوا شيئًا بعربيتهم القزلاء، فإنهم لا يفقهون معانيه إلا بمددٍ من أهل النفق الذين غنثروهم… الغناثرة لا يفقهون سوى صيد الفوائد الآنية، المادية لا العلمية، ولا يتقنون إلا فن الوصول في أقل وقت ومن أقرب السبل وأسهلها. الغناثرة لا يبحثون ولا يفكرون. وأنّى لمن لا يستطيع توثيق مقال أو مرجع وفقًا لأبسط القواعد المنهجية أن يبحث؟! وكيف يفكر مَنْ قُصَاراه، حين “يفكر” بالفعل، أن يقول: حدثنا شيخنا أبو نفق خَلَف بن المغادر الطوعي، قال…؟!
ومن أعجب العجب أن تتستر طائفة من الغناثرة بقناع الدين، فيُعلم من هذا أن سيغموند فرويد لم يَضِلّ تمامًا سواء السبيل. ولكنه قناع سريع البِلَى والسقوط، إذ لا يجد هؤلاء غضاضة في إقامة الولائم الخمرية إكرامًا لأعضاء لجان التأهيل الذين ينحدر معظمهم من عشيرة أبي نفق… أليس ما يهمهم هو الوصول؟! الغناثرة يتهافتون على الندوات والمؤتمرات والمراكز البحثية، الوطنية والدولية… لا من أجل العلم، بل من أجل الأكل والشرب والمبيت في الفنادق المصنّفة والسياحة والتسوق، علاوة على شهادة المشاركة التي تسرّع لهم وتيرة الترقية الإدارية والتسلق المهني. قَسَمًا بالله العظيم إنّ أكثر هؤلاء الغناثرة لا يستطيعون النجاح في امتحان البكالوريا المغربية “القديمة” لو قدر لها أن تبعث من رمادها. ولكن هيهات أن يعود ما مضى! وهيهات أن تتعافى الجامعة المغربية من جراد الغناثرة بعد أن أضحى العبث هو القانون، وصار السكوت عن الفساد أوكد السّنن! والله يقدر الليل والنهار …
أستاذ باحث ومترجم (*)
عن جريدة وموقع السؤال الآن