تازة: الفقيه الجيلالي الزرهوني بين شرنقة حديث مدرسي وذاكرة المدينة
تازة بريس
عبد السلام انويكًة
لمن يعتقد أن جدل كتابة تاريخ المغرب من خلال ما هو مونوغرافي بلغ دروته وانتهت مهمته، قد يكون رأيه ونظره غير مستقيم. وعيا بكون هذا النهج البحثي ببلادنا لا يزال بأفق واشكالات مطروحة، من المهم مقاربتها والانصات لأزمنتها محليا ووطنيا. ووعيا بما هذا الورش من اهمية في إغناء الخزانة المغربية عبر ما ينبغي من تنقيب وتحليل وجِدَّة وتجديد ومن ثمة من نصوص، وعبر ايضا ما ينبغي من أرشيف مؤسس لمعرفة علمية.
ولعل من قضايا الورش المونوغرافي ما ارتبط بمغرب أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن الماضي من تطورات حرجة على عدة مستويات، منها ما حصل من علاقة للمخزن بالقبائل وهوامش بمركز، وما عرفته البلاد من وضع داخلي صعب استمر لِما بعد فترة حكم السلطان الحسن الأول الذي توفي فجأة أثناء رحلة له وسط البلاد. وعليه، ما كان من تخوف لدى حاجبه الذي أمر بطلي جثته بمساحيق للتمويه وربطها بمحمل لإكمال رحلة عودةٍ بأمان خوفا مما قد يحدث، آخذاً مكانه أمامه مُظهراً لمرافقيه أنه يتلقى أوامر سلطانية إلى حين بيعة مولاي عبد العزيز الذي أثارت خلافته انشقاقات داخل المخزن، عمقها تردي وضع البلاد إثر ما حصل من أزمات طبيعية استفحلت مع بداية عهده في وقت كان فيه المخزن يواجه صعوبات توطيد سلطته، وهو الوضع الذي كان نتاج جملة عوامل منها ما أفرزه التسرب الأوربي من تفقير، وما توفر لمحرومين من رغبة عصيان عمقتها ضريبة الترتيب كما حصل مع حركة الفقيه الزرهوني.
وفي ظل أوضاع صعبة كهذه، لاغرابة في توجه المجتمع لمنقذين حيث بروز حركات تمرد استغلت ما هو قائم من أزمن اجتماعية، مثلما حصل مع الفقيه الزرهوني (بوحمارة) الذي تقمص شخصية مولاي امحمد ابن السلطان الحسن الأول انطلاقاً من تازة. ولعل الزرهوني هذا الذي شغل مخزن مغرب ما قبل الحماية، كان ينتمي لفرقة ولاد يوسف بمنطقة زرهون وقد عمل في سلك أعوان القايد عبد الكريم بفاس ومع خليفة السلطان عمر بن الحسن الأول، بل كان من مرافقي المهدي المنبهي الذي تولى الوزارة فيما بعد. وكان الزرهوني هذا قد انتقل في بداية أمره إلى قبيلة الحياينة شرق فاس حيث صادف بإحدى مواسمها الدينية بعض أعيان قبائل تازة، ليبدأ بنشر أفكاره حول رفض طاعة سلطان البلاد قبل انتقاله فيما بعد لمجال قبيلة غياتة بأعالي ايناون بعيداً عن فاس شرقاً حيث الجبل وسلطة المناعة الطبيعية، من اجل الدعوة لنفسه على أنه ابن السلطان الحسن الأول. حيث أقدم على شراء سبعة ثيران سود وقام بذبحها في مشهد سيدي محمد بن الحسن بموسم قبيلة الحياينة الديني، وجلس مستغلا ايقاع الاحتفال وقد امتلأ بالناس فصار يتحدث لملتفين حول وضع البلاد ويوزع اللويز على بعض الحضور. هكذا قد قام بعض غياتة والحياينة بمبايعته فأركبوه على فرس وأعطوه فسطاطاً، قبل أن يتم التوجه به الى تازة بعدما فر عاملها عبد السلام الزمراني المعروف بابن شكًراء.
وكانت حركة الفقيه الزرهوني هذا زوبعة واسعة ارتبطت بإشاعات تبناها بعض علماء فاس حول ظهور مهدي منتظر، ولوقف ما حصل من بلبلة بما يخدم استقرار البلاد أصدر علماء فاس فتوى لهم محذرين فيها المجتمع من انجرافه وراء تيار يروم سفك دماء المسلمين وإضاعة المال وانتهاك الأعراض، ولعل تدخل العلماء في شأن البلاد يعكس واقعَ عدمِ استقرارٍ واجهه المخزن في زمن تقوت فيه الأطماع الاجنبية على حدود البلاد. وكان الفقيه الزرهوني بدهاء كبير ودراية بوضع المخزن وبخطة منذ البداية قصد الاستيلاء على الحكم وكسب شرعيته، لدرجة أنه عمل على تقليد مولاي امحمد الذي كان ينعت بالأعمش لوجود عاهة بإحدى عينيه، هذا من اجل ايهام الناس وحتى يتظاهر أمامهم بصحة انتمائه للمخزن وهوما تأكد من خلال رواية صهره القائد بن شلال. ولضمان تواصله مع الفرنسيين والإسبان كان الزرهوني انطلاقاً من تازة في ارتباط بحدود المغرب الشرقية، بالمقابل كان مولاي عبد العزيز برد فعل قوي تجاه فرنسا متهماً سلطاتها في الجزائر بأطماع ترابية في البلاد، من خلال دعمها للثائر وإغراء القبائل بإتباعه وكذا مضايقتها للجيش المغربي في مواجهة الفتنة. اضافة لِما كان عليه الفرنسيون بحدود البلاد من تشجيع للتجار على التعامل معه ومع أتباعه، بحيث لمَّا كانت تقع بعض حوادث المعاملات كانوا يطالبون بتعويضات كبيرة تزايدت بتزايد تعرض المغرب للمتعاملين مع الزرهوني الذي نشر نفوذه من وادي ملوية حتى قبيلة بني ورياغل وخليج الحسيمة.
ونظراً لإنشغال فرنسا بالوضع وجهلها بشخصية الفقيه الزرهوني، وفي اطار مهمة استعلامية تم تكليف أحد مغامريها وهو “ريجيلوندكان” بالتوجه الى تازة عام 1903 من اجل الوقوف بعين المكان على وقائع وواقع الأمر، وكان تقرير هذا الأخير قد جاء بمثن جمع بين وصف واستعلام ومقارنة من جهة وسخرية من جهة ثانية. ورغبة من الزرهوني في الدعاية لنفسه سمح لضيفه الفرنسي هذا بجمع كل ما يتعلق بحركته ورجاله ومجال نشاطه، معتقداً أن ذلك سينشر على نطاق واسع في الصحافة الأروبية ومن ظهوره ليس فقط مجرد مسؤول عادٍ بل سلطاناً في خدمته وزراء وعسكريين أحسن مما هو بفاس. ومن جملة ما ورد في تقرير”ريجيلوندكان” أن الفقيه الزرهوني قدمه في حفل استقباله بتازة على أنه قنصلاً بعدد من الدول، وأنه أثناء اللقاء به دخل فارس يحمل رسالة فضل الزرهوني قراءتها أمامه علانية وقد تضمنت ما قيل حول استسلام قبائل في تافيلالت ومراكش. وأنه قدم له رجلا على أساس أنه كان أميناً للمال في عهد السلطان الحسن الأول باعتباره الوحيد الذي يعرف أين توجد ثروة هذا الأخير بفاس، اضافة الى اطلاعه على أسرى مقيدين مشيراً له أنه لم يتعود على استقبال الأجانب وأن هذا استثناء، وذلك حتى يظهر بمكانة سياسية لدى فرنسا. والمثير فيما تضمنه تقرير”ريجيلوندكان” في علاقة هذا الملف بأطماع فرنسا في البلاد، كون المترجم الرئيسي للزرهوني كان جزائرياً من وهران وأول من استقبله بتازة في البداية، وأن من كبار الموظفين الذين كانوا بجواره بمقر اقامته بتازة هناك عبد المالك الجزائري الذي كان مراقباً قبل أن يتحول الى وزير حرب فيما بعد.
وكان من أهداف فرنسا عدم إلحاق الهزيمة بالزرهوني بل الحفاظ عليه، وما حصل من توغل ترابي فيما بعد أثبت تفهم هذا الأخير لأطماع فرنسا في المغرب بحيث لم يحرك ساكناً عند احتلال وجدة 1907. بل أقدم بعدما تبين له أن المخزن لم يعد قادراً على مواجهته منذ 1906، على إبرام صفقات تجارية مع الفرنسيين والإسبان الذين استغلوا حاجته للمال والسلاح. وبخلاف دهاء الفرنسيين أعلنا لإسبان تأييدهم للزرهوني مقابل اعترافه ببقائهم في مليلية وهو ما كان بأثر في رفع معنوياته ودعمه، واستهداف إضعاف اسبانيا للمغرب بهذا الموقف كان بهدف سيطرتها على أطراف من شمال شرق البلاد. وسواء الفرنسيين أوالإسبان فقد كانا معاً يعملان على استغلال مواجهة المخزن للزرهوني لبسط نفوذهما باقتطاعهما أجزاء من البلاد مثلما حصل في وجدة والدار البيضاء والجنوب، وكان قصدهما إضعاف المخزن وإبعاده عن القضايا الأهم وإفراغ ماليته في مواجهة فتن داخلية من أجل تعميق استدانته واستعانته بالخارج.
وتبقى قضية الفقيه الزرهوني كتاريخ وذاكرة تاريخية مغربية بعيداً عن أن أي تسطيح وفهم مدرسي للأمر، من أساليب كيدٍ استعماري عجل باحتلال البلاد لكونها نشأت في كنف أطماع فرنسية واسبانية أرغمت المغرب على قروض لوضعه في حافة انهيار، بسبب كلفة تصديه لها في زمن كان فيه وجهاً لوجه مع توغلات ترابية أجنبية. وحتى تتمكن فرنسا من تحقيق أطماعها إثر انقطاع طريق فاس وجدة بسبب أحداث الزرهوني، لجأت لاستغلال بروتوكولات تخص التعاون بينها وبين المغرب في مجال الشرطة والتجارة والجمارك بحدود البلاد الشرقية. حيث أقدمت على مضاعفة نقاط احتلالها مستغلة ما كان يروجه فريقها الاستعماري حول ما قيل أنها فوضى مغربية مهددة لمنطقة وهران داعية لاحتلال البلاد لإعادة الهدوء إليها.
وكان حدث 1909 البارز هو نهاية الفقيه الزرهوني الذي اتخذ من تازة واحدة من مواقع تدبير حركته، بعد إلقاء القبض عليه في منطقة بني زروال شمال فاس عندما كان في طريقه متسللاً عبر دار الضمانة ربما باتجاه طنجة حيث التمثيليات الدولية، وهو ما اعتبرته فرنسا حدثاً مؤثراً على استقرار المنطقة ومهدداً لمصالحها، ولعله الحدث الذي جعل ليوطي يضاعف من عنايته بمجال تازة وممرها الاستراتيجي. وبعد أسابيع من اعتقاله أسر قنصل ألمانيا في إحدى الليالي لشخص يدعى “ادريس منو” كان يجالس الفقيه الزرهوني في البيت الذي سُجن فيه بفاس، أن يعلم السلطان بأن قناصل الدول سيأتون اليه غداً ليطلبوا منه اطلاق صراحها، وقد يكون هذا الخبر هو الذي دفع للأمر بقتله وقطع رأسه وأحراق جثته.
ولم تكن نهاية الفقيه الزرهوني تعني أن مصاعب مولاي عبد الحفيظ في الحكم قد انتهت بانتهائه، فخلال هذه الفترة تحديداً في دجنبر 1909، اهتز السلطان مجدداً بعصيان جديد قاده أخوه مولاي الكبير في تازة، وكان قد أرسله أخوه مولاي عبد العزيز على رأس أول محلة لمحاربة الفقيه الزرهوني بها. وهذا الوضع الجديد بالمنطقة هو ما دفع المخزن لإرسال قوات من عشرة آلاف رجل تجاه القبائل المحيطة بوادي ايناون. وبما أن ما تم إرساله من تعزيزات لعدة مرات لم يتحقق معه أي شيء ميدانياً، تم تنظيم محلة اعتمدت أسلوب سلبٍ ونهبٍ وإحراقٍ لكل ما في دواوير المنطقة وأسواقها الى جانب اعتراضها للقوافل.
وقد ورد أن مولاي الكبير التحق بالجبال في محاولة لبلوغ عرش البلاد، وكان مولاي عبد الحفيظ قلقاً من تحركات أخيه الذي تردد كثيراً في طلب العفو من أخيه بعدما صودرت أملاكه. وأثناء إعداد محلة مخزنية للتوجه الى شرق البلاد بعد تحقيق الانتصار على الفقيه الزرهوني، ولما عُلِم أن قائد المحلة هو”سي محبوب” أحد الأقرباء من جهة الأم لمولاي الكبير الذي كان بتازة في 1909، عُوض هذا القائد ب ”عمر بن العبدي” خليفة وزير الحرب وقريب الكًلاوي خوفاً من انضمامه إليه. وقد زاد مولاي الكبير من إثارة الشك حول وضع البلاد السياسي والأمني، عندما بايعته قبائل الحياينة واتسول والبرانس ومكناسة بتازة. وعلى إثر توجه مولاي الكبير نحو وجدة ودخوله المنطقة الفرنسية وما تسبب فيه من حرج بين السلطات الفرنسية ومولاي عبد الحفيظ، تم نقله من وهران عبر طنجة باتجاه فاس بعدما ضمنت فرنسا حمايته، وما ظل عليه مولاي الكبير من خوف رغم الضمانات جعله يتجه الى بلاد الأنجرة شمال البلاد، قبل أن تتم مطاردته واعتقاله واقتياده نحو فاس رغم الحماية الفرنسية ليظل أسيراً بدار المخزن بعد إنهاء تحركه في أواسط خريف 1910.
وإذا كانت أطماع فرنسا في مغرب مطلع القرن الماضي قد اعتمدت مخططاً انبنى على إفقار البلاد وتفكيك بنيتها القبلية وإضعاف موقف المخزن بتحميله مسؤولية ما حصل، فإن ما حصل من تمردات ومن صنعها مثلما حصل مع الفقيه الزرهوني انطلاقاً من تازة لا تزال بحاجة لمقاربات في اطار منوغرافي مؤسَّس. وكان المؤرخ عبد الله العروي في أصوله الاجتماعية والثقافية.. بإفادة هامة جدا وبقدر عال من ذكاء مؤرخ متأمل في طبيعة وقائع فترة حرجة من زمن المغرب المعاصر، لمَّا أورد أن ما سمي بالفوضى المغربية التي تداولتها الأدبيات الكولونيالية على نطاق واسع(1900)، تعني وضع لا نظام ولا أمن وأنها تفسر أشكال تدخلات سياسية وعسكرية، مضيفاً أن هذه الفوضى قامت على مفهومين متباينين سياسي وانتروبولوجي. مشيرا حول قضية الفقيه الزرهوني الى أن دور فرنسا واسبانيا ودور السلطات الفرنسية بوهران في حركته لا تزال بحاجة لبحث وتنقيب، مضيفاً أن ببليوغرافيا الإشكال غير متوفرة بل مهملة ومتقطعة ومتفاوتة القيمة، وهي اشارات مفيدة من المهم التقاطها ما هناك من شرنقة فلكلورية وتسطيح مدرسي كثيرا ما تطبع حديث البعض عن محطات حرجة من زمن المغرب بتركيزهم على ما هو اثارة لا غير.
هكذا يبقى الفقيه الزرهوني وتبقى حركة هذا الأخير الشهيرة التي طبعت مطلع القرن الماضي، ذاكرة تاريخية يصعب القفز عليها بتسطيح تناولها ووقعها وموقعها وبابقاءها في اطارها المدرسي، مع أهمية الاشارة هنا الى أن تاريخ تازة في شمولية وقائعه مع تباين موارده المادية واللامادية وذاكرته الرمزية عموما، يمكن أن يكون بأثر رافع بأكثر من أسلوب اخراج وعرض وتناول من شأنه أن يسهم ايجابا في نماء تراب المدينة عوض ما هناك من شرنقة تناول هنا وهناك، فقط ما ينبغي من ذكاء استثمار وإعداد وانتقاء وتدبير واجتهاد واستشراف.