تازة بريس

-

تازة بريس

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

قبل انطلاق ورشه منذ أزيد من أربعة عقود، كان مبحث تاريخ العلاقات المغربية بجدل حول نهج وسبل بحث ووجهات وثائق رافعة بدور أرشيف، فضلاً عما ورد من اشارات محفزة ذات علاقة عن سلف مؤرخ مغربي حول مزايا أفق لفائدة بلاد وعباد. هكذا تجند باحثون مؤرخون مغاربة مؤسسون لإعطاء تجليات هذه العلاقات ما تستحق من إنصات، وهو ما أفرز نصوصا أغنت خزانة البلاد وملأت بياضات حقيقية لما قاربته من جوانب، منها ما توزع على مجال ارتباطات مغرب بحوض المتوسط الغربي خلال هذه الفترة.
يذكر أن من الأعمال التي كانت العلاقات المغربية موضوعها منذ فترة، ما تناوله باحثون مغاربة مؤسسون من قبيل عبد الرحمن المودن وعبد الرحيم بن حادة وعبد الحفيظ طبايلي عن العلاقات المغربية العثمانية خلال العصر الحديث. كذا ما أعده خالد بن الصغير حول العلاقات المغربية البريطانية زمن القرن التاسع عشر، وما اشتغل عليه سمير بوزويتة حول العلاقات المغربية الأمريكية الجنوبية، الى جانب ما أسس له محمد بنهاشم حول العلاقات المغربية الأمريكية. فضلاً عن اسهامات حول العلاقات المغربية البرتغالية لعثمان المنصوري وأحمد بوشارب، كذا العلاقات المغربية الهولندية والألمانية والاسبانية والفرنسية والمشرقية والافريقية والمغاربية وغيرها.
واذا كانت هذه الأعمال قد قامت على أرشيف هام ووثائق نفيسة، فنفسه نهج ما اعتمدته بهيجة سيمو في دراستها لـ”العلاقات المغربية الإيطالية”، والتي صدرت عن منشورات اللجنة المغربية للتاريخ العسكري في أزيد من ثمانمائة صفحة. وقد جاءت بإشكالات تاريخية عدة جمعت بين سياق دولي طبع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبين سبل توثيق لعلاقات من خلال أرشيف ايطالي وفرنسي وآخر عن الفاتيكان، فضلاً عن آخر مغربي شمل مستندات ومضان رحلات سفارية ومذكرات وغيرها. علماً أن فترة الدراسة امتدت من نهاية ستينات هذا القرن- تاريخ أول مشروع عسكري ايطالي استهدف تأسيس مستعمرة جنوب المغرب- حتى فرض الحماية عليه.
وكان انفتاح المغرب على حوض البحر المتوسط حتى نهاية ستينات القرن التاسع عشر، قد جعل موقعه بأطماع أجبرته على تفاعل تجاري. بل من الأحداث المتوسطية التي كانت بأثر عليه قبل هذه الفترة، نحد سقوط غرناطة أواخر القرن الخامس عشر واحتلال انجلترا لجبل طارق مطلع القرن الثامن عشر، ثم فتح قناة السويس نهاية ستينات القرن التاسع عشر. متغيرات وغيرها كانت وراء تزايد حدة صراع أوربي وأطماع متوسطية كذا تسابق لتقاسم شمال افريقي، ما التحقت به ايطاليا بعد تحقيق وحدتها وكان المغرب وجهة أطماعها.
وتذكر الباحثة في دراستها أن مما انبنت عليه علاقات البلدين موقعهما المتميز في البحر المتوسط، فضلاً عن مشترك قديم يعود لفترة الوجود الروماني بالمغرب. مضيفة أنه اذا كانت هذه العلاقات قد عرفت ازدهاراً تجاريا خلال العصر الوسيط، فهو ما شهد تراجعاً معبراً زمن مولاي اسماعيل لفائدة فرنسا عبر اتفاقيات همت جوانب عسكرية سياسية وتجارية. لتنتعش خلال القرن الثامن عشر مستفيدة من سياسة انفتاح محمد الثالث، التي تكللت بتوقيع اتفاقية صداقة وتجارة مع البندقية سنة 1765.
وبقدر ما كانت ايطاليا بسلك قنصلي في المغرب منذ العصر الوسيط، بقدر ما كانت أول بلد أوفد إليه السلطان محمد الثالث بعثة سفارية، شكلت تفاعلا مغربياً ايطالياً وتواصلا وأرضية علاقة. مسجلة أن البحر المتوسط زمن القرن التاسع عشر بات مجال صراع سياسي واقتصادي، كان المغرب فيه عاجزاً عن التصدي للغزو. وعليه، تغيرت بعض مواقف السلطان مولاي سليمان من سياسة احترازه صوب الدويلات الإيطالية، بدليل رسالة شكر وجهها لملك جنوة إثر ما قدمه من مساعدة لتاجر مغربي يدعى “الفاسي ولد مكوار”. ما يعني تحسن العلاقات بينهما من خلال سلسلة اتفاقيات في عهد السلطان مولاي عبد الرحمان، في وقت عرفت فيه المنطقة المغاربية حدثين هامين تمثلا في احتلال فرنسا للجزائر ثم انهزام المغرب في إسلي.
وقد شكلت ظاهرة الحماية القنصلية احدى القنوات التي ارتكزت عليها امبريالية ايطاليا في المغرب، منذ القرن الثامن عشر في ارتباط بسياسة انفتاح السلطان محمد بن عبد الله. كما أن نمو مصالح ايطاليا التجارية في المغرب ساهم في اتساع تمثيلها الدبلوماسي به، حيث استقر ممثلوها في مدن سلا وطنجة والصويرة. وعن تجليات الأطماع الايطالية في المغرب ضمن التنافس الأوربي حول مجاله خلال القرن التاسع عشر، تقول الباحثة أنها اهتمت وتركزت على جنوب البلاد (واد نون) لبعده عن الحكم المركزي، وذلك من خلال استراتيجية وخطة الجنرال “سكوفصو” التي اعتمدت عرض القوة البحرية في بعض سواحل المغرب، لتقوية مكانة الدبلوماسية الإيطالية ومعها المحميون واقامة مستعمرة إيطالية بالمنطقة الجنوبية، وهو ما فشل تقنياً ودبلوماسياً اثر تحول الشواطئ المغربية الى مجال لأطماع فرنسية وانجليزية وألمانية.
وعن العلاقات المغربية الايطالية يسجل زمن السلطان الحسن الأول ما حصل من تبادل دبلوماسي، وكان هدف السفارة المغربية التي كانت ايطاليا معنية بها إثارة مشكلة الحماية القنصلية في البلاد. وبقدر ما كان لايطاليا من رغبة في ردع تنافس فرنسي انجليزي وإيجاد موقع لها في المغرب، بقدر ما اعتمدت على حماية قنصلية للتوغل فيه عبر فئة يهود مغاربة لانتزاع أقلية ثرية به للاستفادة منها فيما هو بطبيعة دولية. وكانت الحماية القنصلية بأثر في تعميق علاقات البلدين منذ نهاية القرن التاسع عشر، فضلا عن رغبة مغربية في التحديث عبر تكوين بعدد من الدول، منها إيطاليا التي حاولت الانخراط فيما كان المغرب بصدده من اصلاح. وعليه، استقرت بعثة عسكرية إيطالية به فضلا عن تكوينها لأطر مخزنية تكلفت بصنع أسلحة وسك عملة.
وحول تجليات هذه العلاقات نجد ما قام به “سكوفاصو” الوزير الايطالي في طنجة، عندما اهدى للسلطان رشاشا ليظهر له آفاق تعاون عسكري أكثر نفعا بين البلدين. بل اقترح إقامة معمل للسلاح بفاس تحت إشراف إيطالي. وبقدر ما عمق هذا التقارب والتعاون المغربي الإيطالي العسكري طبيعة صراع ايطالي فرنسي بحكم مصالح استراتيجية لهما في المغرب، بقدر ما دفع لتبادل سفارات عدة منها سفارة كنطاكلي بتطوان 1889 وسفارتي المزامري 1890 وعبد السلام بن برشيد الشاوي بإيطاليا 1892. وقد بلغت الاستعانة المغربية بإيطاليا أوجها عام 1891، لما طلب المغرب صناعة سفينة حربية له “بشير الإسلام بخوافق الاعلام”، فضلاً عن سك عملة نحاسية بفاس وتحقيق بنك وإنجاز سكة حديدية وهاتف وإنارة قصر سلطاني، لتكون بذلك الدبلوماسية الإيطالية قد نجحت في مبادراتها تجاه المغرب. وكانت سنوات القرن التاسع عشر الأخيرة بأثر في تعقيد القضية المغربية لفائدة فرنسا، التي عملت على إقصاء منافسيها في هذا الموقع الاستراتيجي من البحر المتوسط، لتحقيق اهدافها السياسية معتمدة جملة اتفاقيات وضعت نهاية لتنافس أوربي حول المغرب.
ولعل هذه الفترة كانت مهمة لايطاليا، إثر وفاة السلطان الحسن الأول ودخول المغرب فترة وصاية فضلاً عن صراع بين شخصيات نافدة في المخزن، شروط وغيرها كانت وراء انزلاق الأمور شيئا فشيئا منه لتتحكم فيها دول متنافسة على رأسها فرنسا، مع أهمية الاشارة الى سقوط سياسة “كرسيي” الايطالية المعادية لفرنسا خلال هذه الفترة، سمحت بتقارب دبلوماسي مغربي ايطالي. وبقدر ما تبين لايطاليا أثناء مؤتمر الجزيرة الخضراء من تحكم فرنسي في قضية المغرب، بقدر ما أقدمت على اتفاقية جديدة معه لتشغيل معمل فاس للسلاح، تلك التي جردت بعثتها من صفتها العسكرية بإعطائها صفة مدنية عرفت ب “البعثة الإيطالية الملكية”. علما أن الأطماع الألمانية في المغرب ومعها حادثة أكادير الشهيرة، فرضت تحفظا في ردود فعل رسمية ايطالية مع تساؤل لرأي عام ايطالي حول موقع إيطاليا من هذه التطورات، في وقت باتت فيه ليبيا على مرمى من احتلال ايطالي بعد ما سجل من محاولة استمالة لشخصيات ليبية سنوسية. وكان ما حصل من تقارب فرنسي ايطالي نهاية القرن التاسع عشر على حساب علاقات مغربية ايطالية، عندما بدأ أفول بعثة ايطاليا بعدما كانت تتحكم في مشاريع حساسة مغربية. أفول لم يعد موقفها معه سوى مساندة خطاب فرنسي متحينة فرصة مطالبة بتعويض، لتجد في أحداث فاس وأكادير مناسبة لاحتلال ليبيا وانخراطها في مشروع استعماري.
يبقى مؤلف العلاقات المغربية الايطالية لبهيجة سيمو، وثيقة تاريخية ببصمة وهيبة خاصة في خريطة العلائقي المغربي التاريخي، لِما طبعه من طرح وتوثيق وأرشيف ونهج ومن ثمة مقاربة، كذا سبقه في التأصيل لعلاقات مغربية ايطالية مضيفاً شيئا لتاريخ أوربا ومبرزاً أشياء في تاريخ المغرب. وإذا كان المؤلف قد نجح في رسم وضع للبلاد ضمن تفاعلات متوسطية خلال فترة دقيقة، فلا شك أنه شكل اضافة نوعية للخزانة المغربية موفراً نصاً رصينا أبان عن عمق تاريخ وعلاقة ورمزية مشترك بين بلدين متوسطيين.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

إلغاء الاشتراك من التحديثات