تازة بريس

أي التفات للجبل من اجل ورش الوسط القروي بالمغرب

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

بنية وبناء معقد ومشاهد عدة هو جبل وجبال المغرب، تلك التي تشكل كيانا ترابيا هاما بل وعاء ذاكرة وطن وإنسان وحياة وانشطة وأنظمة فعل وتفاعل منذ القدم، ومن ثمة ما تحتويه ككيان ترابي من موارد مادية ورمزية لحقتها دون شك متغيرات عدة مع الزمن. ولعل البلاد بمرتفعات شامخة ممتدة تتقاسمها قمم شاهدة هنا وهناك، مع ما يسجل من معالم وأثر إنسان ضمن نشأة كيانات سياسية وتعاقبها، ومن ثمة تفاعل وتواصل وأحداث وتطورات. ورغم ما هي عليه من مركزية مجالية، لم تكن الجبال المغربية بما ينبغي من التفات وعناية بحثية معبرة، اللهم ما يسجل لزمن الحماية من تقارير تعرفية استكشافية، مع أهمية الإشارة لِما أحيطت به عموما خلال هذه الفترة من سياسة استعمارية مجالية، عملت جاهدة على ضبط علاقة الجبل بمحيطه وحفظ أنماط وتركيبة عيش أهاليه فضلاً عن حصاره لما كان عليه من ردود فعل.

وإذا كان قد تم استحضار كيان الجبل ضمن وسط قروي منذ الاستقلال من خلال ما حصل من سياسات ترابية وخيارات، فنتائج ما تم تسطيره على ورق لا تزال بغير ما كان منشوداً على أرض واقع. ومن هنا أهمية ليس فقط الوقوف على مساحة ما هناك من اختلال وتباين، بل طرح الممكن كمنصف إنمائي لفائدة هذا الجبل، الذي يقوم على خصوصية معينة ومؤهلات ومتطلبات وواقع معيش. وبقدر ما الجبل المغربي هذا الامتداد المجالي الواسع، هو واقع حال على درجة من السؤال والاكراه والتعقيد، بقدر ما هو نِتاج سبل عمل تمت بها منهجَتُه وتنظيمه وتأطيره وتدبير ترابه. وعليه، ما يحتاج إليه من إعادة مساءلة ضمن سياق نماء مجالي محلي جهوي ثم وطني. وعندما نقول ما تم اعتماده من سبل تدبير للجبل في الماضي، نعني بذلك ما هو استراتيجي كقراءات واختيارات وحدودِ وقعٍ رسَمَها لتنمية محلية بهذا المجال.

وما أحوج الجبل المغربي ومن خلاله البادية المغربية، لرأي ومقترح وظيفي إنمائي كآلية عمل تشاركي وتقاسم أدوار لإنجاح خيارات تخص الوسط القروي. وكثيرة هي الأسئلة التي لا تزال عالقة حول نماء المغرب بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، بل تبقى الأسئلة المرتبطة بالوسط القروي أكثر إلحاحاً لعوامل موضوعية عدة ومتداخلة. وقد يكون انخراط الجميع كل من موقعه بما في ذلك فعل المجتمع المدني المؤهل لهذا الفعل والتفاعل طبعا، بأثر في بلورة مشاريع إنمائية رافعة حيوية ضمن اقتصاد اجتماعي، إن هو تأسس على ما ينبغي من تأطير للنهوض ليس فقط بالجبل بل ببادية البلاد كمجال لا يزال بِنْيَةً بتركيب معقد.

ويتبين أن سياسة تدبير التراب منذ استقلال البلاد غابت عنها إلى حد ما مكانة الجبل في المجال، وغاب عنها استشراف حاجات هذا المجال البشرية وما يحتويه من عمق استراتيجي وموارد بحاجة لتأهيل وإعداد. وعندما نتحدث عن الجبل واقتصاد الجبل تحضر بادية المغرب بمشاهد لا متوازنة ومسايرة لما هناك من تحولات. واقع لا شك أنه نِتاج سياسات ترابية اعتُمِدت عبر تجارب مغرب ما بعد الاستقلال، كخيارات بقدر ما كانت عليه من طموح بقدر ما كانت بمحدودية إنجاز على أرض واقع مع استثناءات نطاقية، تراكمات وغيرها يؤدي ثمنها الجبل ومن خلاله بوادي البلاد لِما هناك من هشاشة وصعوبة ولوجية وتحديات نماء.

ولا شك أن بنية اقتصاد البلاد كمجال جغرافي، تقتضي إعطاء الجبل ما يستحق ككيان ترابي بحاجة لسبل تنمية أكثر انسجاماً وتجاوباً واستثماراً لما هو متباين ومتوفر من موارد محلية، علماً أن الجبل المغربي هو بمؤهلات بشرية وطبيعية بحاجة لإعادة قراءة وتدبير. ولجعل هذا الأخير بأثر في التنمية من المفيد أخذ ما هو وظيفي انتاجي فيه بعين الاعتبار، وإعادة توجيه ما ينبغي توجيهه لفائدة عقلنة أهم في إطار ضبط علاقة الإنسان ببيئته المحلية. وإذا كان اتخاذ قرار تدبيري ترابي مجالي إنمائي ما، أمر رهين بما هو ثقافي اجتماعي وبيئي لتحقيق رضى وقناعة الفاعلين، فإن نماء الجبل ومن خلاله البادية المغربية يقتضي فهم علاقة الإنسان بوسطه المحلي أولا، كذا العلاقة بين ما هناك من إمكان حقيقي وأمر مراد إنماءه لبلوغ انجازات بقيمة مضافة معبرة على أرض الواقع. وحتى يكون الجبل بموقع مناسب في التنمية المحلية، لابد له من جملة شروط، لعل منها قدرة تجاوبه مع ما هو محلي كحاجة ضمن اقتصاد اجتماعي أكثر تجاوباً مع مقدرات كائنة، ناهيك عن بنية ولوجية وقدرة تسويق خصوصية ضمن منتج لثروة وفق سسيولوجيا محلية رافعة لتنمية مستديمة.

وحتى يكون الجبل المغربي باقتصاد اجتماعي، من المفيد توفر عنصر بشري مؤهل لمسايرة التحول، ذلك أن ما هناك من وقع اجتماعي هش لا يساعد على توجيه الجبال لما هو أفضل، ولعل جودة التدخل في هذا الإطار تحتاج ليس فقط لكفاءات بل لطاقات بشرية محلية بقدر من تكوين وتأهيل بعيداً عن عزلة وهشاشة. ويتبن أن تنمية الجبل ومن خلاله الوسط القروي عبر اقتصاد اجتماعي بشكل ناجح، يحتاج إلى استيعاب ما يطبع هذا المجال من تنوع، للتمكن منه وتوجيهه بما يفيد من غنى وثروة ونمو وتحول. بل تدبير المجال الجبلي يقتضي منهجاً واختياراً يجمع بين إبداع عملي وظيفي وبين واقع وحاجيات سوق وما هو متوفر من موارد، دون تجاهل لطبيعة فاعل في المجال كخصوصية سسيو ثقافية ومعه درجة ارتباط ببيئة محلية وقدرة تنافس.

ولعل الجبل المغربي بكائِنِه الحالي كمجتمع واقتصاد وثقافة.. هو بحاجة لاختيارات ونظم ومخططات وبرامج أكثر انسجاماً مع ما هو رهان محلي ومنشود من جهوية ترابية. فما عرفته البلاد من سبل تدخل وتجارب في التنمية القروية وضمنها الجبل، كانت بإنصاف محدود في حصيلتها من حيث استثمار واستغلال ما هو متوفر بها من موارد، فالسدود التي تم إحداثها كمنشآت وبنيات مائية ضخمة مثلاً توجهت لخدمة مناطق أخرى بعيدة عما هو محلي جهوي، ومن هنا نوع من إفقار جبل وإغناء سهل ومن ثمة نماء مجالي غير متوازن. وقد بات الوسط القروي يعج بشباب باحث عن شغل من إشكالاته صعوبة ادماجه في نماء الجبل عبر اقتصاد اجتماعي، في غياب آليات تكوين مهاري وأساليب دعم مادي. وفي علاقة بتنمية الجبل ولبلوغ المنشود من النتائج، فإن الجهوية والجهة مدعوة لأدوار طلائعية في أفق نماء نسقي عبر ممكن من متاح وسبل، منها ما هو كائن ضمن توزيع عادل لثروات ولأنشطة اقتصادية واجتماعية.

يبقى أن الجبل بالمغرب كان دوما بجدل ولا يزال، لموقعه كمورفولوجيا من جهة وكوسط سسيو ثقافي من جهة ثانية. سياق من زاوية تاريخية كان موضوع ندوة علمية وطنية انعقدت قبل حوالي ربع قرن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، تمحورت حول “الجبل في زمن المغرب”، من خلال قراءات للجبل المغربي في علاقته بأودية وتجارب كيانات سياسية وتوسع وغزو أجنبي عبر زمن البلاد، فضلاً عما حضر من نماذج هذا الجبل من خلال تجليات روحية ووقائع عسكرية وسياسية، كذا ما طبع الندوة من سؤال حول الجبل التراب والمقدس، ومن مركزية وهامشية ضمن المجال المغربي ككل. مع أهمية الإشارة إلى أنه باستثناء مؤلف “الجبال المغربية: مركزيتها هامشتها تنميتها” عن منشورات وزارة الثقافة قبل عقود من الزمن، ليست هناك إضافات معبرة ولا دراسات تهم هذا المجال، وفق ما يقتضيه الأمر من تأمل مجالي إنمائي بيئي ثقافي ومن نظر استراتيجي.

وبقدر ما أثير حول الجبل بالمغرب من اهتمام وما أنجز حوله من تقارير خلال فترة الحماية على البلاد، وما هناك من أبحاث ذات تجاور من قِبل باحثين مغاربة هنا وهناك، بقدر ما يُسجل من ندرة سؤال علمي بحثي راهن حول الجبل كمعطى مجالي، في علاقته بإنسان وثروة وموارد وتنمية وتدبير وتباين واقتصاد وجهوية ونماء واستشراف. ولعل جبل المغرب تراب واسع ومعقد، واسع إذا ارتأينا ما هو امتداد ونفوذ من حيث جملة ثروات تجمع بين مياه وغابات ومعادن وتُحفِ مشاهد بيئة، ومعقد من حيث واقع حال اقتصاد ومجتمع ونماء وانماء وولوجية وحجم ما هو مطروح به من إكراه مُركبٍ إلى حين.

إلغاء الاشتراك من التحديثات