تازة بريس
تسللت إلى غرفة المكتب عبر نافذة واسعة عريضة كأنها باب بمصراعين، أشعة شمس دافئة حطت على البلاط كحمامة سلام، تلألأت أمامه كبريق أمل يرفع معنويات سجين، واختلجت دواخله أحاسيس اضطرته الى جر الكرسي الخشبي الثقيل، أبقى مكتبه وراء نافذة 1 مستسلما لحاجته إلى الدفء، رفع قدمه اليسرى وضعها على جلسة نافذة2 ، يفصلها عن أرضية الغرفة حوالي دراعين، فشاف من تلك الزاوية مشهدا بانوراميا جميلا شده إليه، فأعقب القدم اليسرى باليمنى جاعلا الواحدة فوق الأخرى ثم أغمض عينيه مسترخيا على المسند الخلفي. كانت الأجواء تنذر بيوم عصيب مع آخر أنفاس هزيع3 تلك الليلة، واستمرت على نفس الحال الأصوات المختلطة المفزعة، رياح عاصفة روعت القلوب بصفيرها لم تهدأ لحظة، إلى أن تنفس الصبح ونثر بعد الشروق سحب ضباب غطت قمم الجبال عطلت الأشغال، أرغمت النحل على البقاء داخل قفرانها، ودفعت ببعض الطيور الصغيرة للاحتماء بأوراق العليق. هو معتاد على قر أوروبا، ربما رأى في شمال فرنسا أسوء من هذا الصبح الغاضب المكفهر، لكن شمس هاته الأرض مختلفة عن كل الشموس، يكاد يكون لها عرف تنتشي به الارواح، أو موسيقى مستعصية على حواس البشر، الناس تحتها وفق تصوره نوعان، من يراهم أمامه في النهار طيبون للغاية قدموا له في الأسبوع الأول خروفا مشويا لا تزال نكهة لحمه تدغدغ لغده، يومها اختلط عليه الأمر، وتساءل من أين استمد الشواء ذاك المذاق؟ من طبيعة باب المروج؟ أم من هواءه؟ أم من تربته؟
لولا جور الساكنة في اقتلاع الأشجار ولولا الخفافيش الصنف الثاني من الرجال ـ دائما وفق تصوره ـ، لكانت هاته الأرض جنة تفوق بجمالها كثير من الجنان .. كان يضغط على رجال المقاومة لا لشيء، سوى لحرجه من انجازاتهم على الأرض، وهم يباغثون رجاله مرارا بدوار تلوان، تاركين خلفهم بعض الجثث المتناثرة على أطراف الشعاب.. وبضع جرحى مع عتاد تخلى عنه من اختار الفرار خوفا على حياته. مكان كان يتسابق إليه الأطفال، بحثا عن فوارغ الذخائر لإرضاء بعض الأمهات. كان على الأرض أن لا تدور حول نفسها من الشرق إلى الغرب، كان عليها أن ترتج في كل جهة وتتنطع فتقذف بالنصارى إلى إفريقيا وبالأفارقة إلى القطبين، ربما بيض الجليد بشرتهم ولين أفكارهم، فتتساوى بذاك التحول في اللون الأجناس، انتبه فجأة إلى قوله رأى أفكاره راقية يستحق تنظيمها على صفحات كتاب العناء، لأنه ببساطة، سئم الاختلاف المؤدي إلى خلاف يشعل حروبا بشعة الأوصاف، كم شحنوه في معهد الجمهورية الفرنسية بمغالطات، سرعان ما أذابتها نسائم أصباح هاته الأرض، قبل هطول الأمطار، أو أن تندف السماء بالثلوج، تذكر ما كتبه اوجست مولييراس، اجتره فكره، اجترار البقر لما في بطونها في كل لحظة يحلل ويرصد الاستنتاجات. رد كل النزاعات الحاصلة في العالم بين النصارى و المسلمين، إلى ترجمة اليهودي الفاسدة، قال: اي مولييراس ـ لولا اليهودي السيء النوايا، كانت تجلت الصداقة بين الشعوب وترسخت بدل العداوة، لكنه مذ لامس هذه الأرض بقدميه، وأكل بنهم من خروف التهامي المشوي، اكتشف زيف تلك الأقاويل التي تهاوت مع الزمن أمام ناظريه، وتحولت إلى ترهات لا فائدة ترجى من ترديدها، هو جندي، جاء بمباركة الرئيس والبابا، لا يمكنه الانسياق وراء أفكاره أو أهواءه، لأن كشف الواحد عن إنسانيته في هذا الزمن، يعتبرها بعض المرضى خيانة، خيانة الدين .. والوطن.. والأعراف، لو بقي الأمر إليه، كان لبس جلباب صوف وبرنس.. وتبرنس بالمرة، لكن الظروف تقيد الإنسان تلزمه الحفاظ على مظهره سواء لازمه الصدق أو الكذب.
آه، هناك ساعات تحلو فيها الفلسفة، و ساعات أخرى فيها تتناسل الأحلام، الرابط بينها واحد، الدفء ودفء الشمس في الفصول الباردة، ليس كدفء الفراش بعد الفجر والفراغ إناء حاضن للهواجس، وهو اللحظة ينعم بدفء شمس جديدة في ارض بعيدة، جاءها لأجل الحرب، لكن جمال طبيعتها فتنه.. فرمى السلاح .. وصار يعد مقاطع الكلمات.. ليكتب شعرا يتفوق به على شارل بودلير.