تازة بريس

هل حقا باتت الأغنية المغربية العصرية بدون معنى..

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

من علامات الأغنية المغربية على سبيل التأمل والنوستالجيا فقط، في ذكرى وفاته قبل حوالي أربعة عقود يحضر “عامر” ذلك النبوغ الموسيقي المغربي برمزية خاصة في ذاكرة المغرب والمغاربة الفنية، لِما كان له من وقع في زمن أغنية هؤلاء الذهبي التي يحق القول أنها كانت بهمس ووقع غير مسبوق بشهادة أهل الشأن من موسيقيين باحثين. والواقع أنه عند التأمل فيما خلفه “عبد السلام عامر” هذا وغيره من طينته الابداعية الطربية من أعمال موسيقية خالدة، يتبين أنه لم يكن بما ينبغي من نجومية والتفات خلافاً لِما طبع من عايشته أو جاء بعده من أسماء. لدرجة أن ما وضعه من أعمال فنية وما بلوره لفائدة الأغنية المغربية أشهر منه بكثير، تلك التي ملأت بصدى كبير مغرب ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات القرن الماضي، بل لا تزال شامخة أعمل وتميزات وعبق هذه الأغنية حتى الآن منتصبة عابرة للزمن، لنوعية طبعها وقيمتها وحس لحنها ونغمها كذا طبيعة عظمة ما كان عليه أمر الفن وشأنه بالمغرب من تعبير راق خلال فترة يحق نعتها بالذهبية. 

إرث رمزي فني حديث اذن ارتبط بمجال الأغنية المغربية كغيره من مجالات ورش مغرب ما بعد الاستقلال، يصعب القفز عليه وعلى ما أسهم به “عامر” الذي ارتقى بهذه الأغنية في زمن تدافع فني تقاسمه كِبار لحن وصوت وكلمة، كذا على ما كان له من فضل في مجدها واشعاعها وهيبتها واخراجها من ظلها صوب رحاب أوسع، تعريفاً بها وبأعلامها هنا وهناك من الوطن العربي لمَّا كان الفن رسالة والفن فناً والفن سفيراً. بل لـ”عامر” كان فضل بروز أصوات مغربية عدة كانت بصدى كبير في قلوب عشاق النغم والطرب على المستويين الوطني والعربي، منهم نذكر عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وغيرهم كثير.

لقد كان “عامر” حقاً بأثر في إغناء الأغنية المغربية وبدور معبر في تأسيس حداثتها بنبوغ واحساس، لِما كان عليه من قدرة تعبير وابداع وانتقاء وتوزيع خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. زمن تباينت فيه رؤية وتوجه الاتجاه الموسيقي وأثاثه، بحيث كان النظر للموسيقى باعتبارها موهبة وفطرة وأمراً بباطن ذاتي. قناعات قادها الموسيقار “أحمد البيضاوي” الذي تفرد في دربه الفني ومساره فكان بهيبة خاصة داخل البلاد وخارجها، بل لا يزال بمكانة ورمزية وبصمة قوية في ريبرتوار الأغنية المغربية رحمه الله. بالمقابل من رواد المجال من آمن بأهمية المكتسب والمعرفة العلمية والتكوين وقواعد العمل الأكاديمي الموسيقي القادم من الغرب، في اطار دافع حداثة فنية وابداعية وفق مقاييس مؤسساتية، ما يعني قناعة أهمية الاقبال على التعلم والتكوين واكتساب ما ينبغي من مهارات وخبرات عبر ولوج المعاهد.

ولعل هذا هو الخيار والاتجاه العلمي الواقعي الذي قاده كل من “عبد الوهاب أكًومي” و”عبد السلام عامر”، علماً أن هذا الأخير كان بوسطية واعتدال في فهم جوهر المسألة الفنية الموسيقية وجوهر الابداع الفني الموسيقي، مؤمناً بتجديد نكهات وقوالب ومقاييس اللحن في أفق تجاوز كائن تعبير موسيقي مغربي عتيق تراثي، وتطوير أغنية مغربية وفق ما يرفع من مقامها ويميز أداءها ويجعلها باشعاع في زمن اشعاع عربي فني قوي.

رحل “عبد السلام عامر” رائد أغنية مغرب ستينات وسبعينات القرن الماضي منذ حوالي أربعة عقود، ومع ذلك لا يزال حياً في مشترك جمعي فني مغربي وذاكرة أغنية مغربية عصرية، لِما خلفه من لحن شامخ عابر للزمن وتحف ابداعية تعكس عبقرية فنان وما كان عليه المغرب الفني من قوة مقام ونغم. ولسنا بصدد ترجمة لمبدع موسيقي مغربي لم ير الزمن مثله لا قبل ولا بعد، حتى نعرج على بداياته وتنشئته وبيئته وما كان وراء تميزه وابداعيته، بقدر ما نروم ما ينبغي من عبرة والتفات لعلم شامخ من أعلام الأغنية المغربية يستحق أن يظل في ذاكرة المغاربة. إنه “عامر” الذي أبدع ألحان متفردة أطربت وتغنت بها أجيال ولا تزال، لخفة أزمنتها الموسيقية وطيب وروعة توزيع جملها فضلاً عن تعبير وبلاغة بنائها وشدة تأثير نغمها. لقد تمكن”عامر” من تملك قدرة الحفاظ على قياس الأصالة الفنية المغربية وتراثها، وفي الوقت ذاته آليات وسبل تجديد وانفتاح من خلال ثقته في تخريجاته اللحنية التي تقاسمها حسن مقام وانتقاء نغمي موسيقي، وعياً منه بأن الفن والموسيقى رسالة وليست عبثاً وأن خلوها من المعنى يجعلها بدون معنى وخلودها ومجدها رهين بسمو طبعها. 

بتقدير باحثين متخصصين موسيقيين في المغرب والمشرق، كانت أعمال “عامر” الموسيقية هرمية بروعة همس نغمي وابداع مؤكدة ما كان عليه من سهل ممتنع أثار اهتمام كبار الموسيقيين في المجال من أمثال الموسيقار محمد عبد الوهاب. وعليه، لا زالت أعماله اللحنية الفنية الموسيقية غذاء روحياً رغم مرور عقود من الزمن. وسواء “القمر الأحمر” أو”الشاطئ” أو”الأمس القريب” أو”راحلة” أو”ميعاد” أو”قصة الأشواق” أو”حبيبتي” أو “غنت لنا الدنيا” وغيرها..، كلها أعمال موسيقية متفردة بروعة ايقاع وتميز نغم خالد ووقع لحني فني موسيقي نال إعجاب الجماهير وكبار موسيقي المشرق من طينة محمد عبد الوهاب وغيره، هي بصمات فنية لـ”عامر” لا تزال بخلود واستمرارية وتميز واحترام وتقدير واكبار واعتراف.

ولعل “القمر الأحمر” في ريبرتوار الطرب المغربي، عمل يختزل مرحلة ابداع موسيقي بكل ما في ذلك من حس وجمال وتعبير وبناء واخراج، عمل موسيقي عابر لزمن المغرب حامل لبصمة “عامر” جامع بين أصالة وشتات ذوق ونغم جميل وبين انسان وطبيعة وقصيد ولحن، كذا نبوغ دخل به”عامر” تاريخ بلاد بكل أحقية وتميز. عمل فني كبير تقاسمت نجاحه جوانب رافعة، تفخر به الخزانة الفنية المغربية ويفخر به كل عاشق لمِا هو طرب، اجتمع فيه صوت قوي وقصيد بليغ ولحن رفيع. علما أن هذا الانجاز الفني الذي ارتبط ب”عامر” لم يكن بكلفة مادية، فقط ما هناك من إرادة مبدع وابداع قوية وطموح اجتهاد من أجل ما هو متميز من الفن، بعيداً عن أي هاجس نجومية زائفة ولا بحث عن ظهور براق وتمظهر مثير موسمي مصطنع، ولا موقع وشهرة بقيمة ومقام محدود ضمن موجة استهلاك سوقي باهت سرعان ما يطويه الزمن لسطحيته وينساه الانسان. 

ولا شك أن أعمال “عامر” الفنية الموسيقية كانت بنوع من اثبات الذات وبناء ما هو غير مألوف في هذا المجال، علماً أنه لم يكن بمكتسب علمي كبير ولا بقدرة عزف عالية اللهم ما كان عليه من نصيب محدود في آخر حياته، إنما كان بحاسة سمعية قوية وتذوق لمقامات ولكل ما هو بليغ من معاني وصور قصيد. ونظراً لفقدانه حاسة بصره  في سن مبكرة اعتمد صوته لبناء وترتيب أعظم الجمل اللحنية كذا نقل تعبيره الفني الموسيقي لمغنين وعازفين، كما كان يستعين ببعض الأكفاء من الموسيقيين من أجل التواصل فنياً كلما دعت الضرورة دون شعور بأي نقص. ومن هنا فقد كان “عامر” هذا العبقري بروح منفتحة لا يتردد في طرح السؤال حول الموسيقي اللحني، مؤمناً بقيم الاختلاف والحوار والنقد البناء لتحقيق ما هو خالد من أعمال.   

لقد كانت فترة “عامر” حقاً برمزية في زمن الابداع والعطاء الفني الموسيقي الطربي بالمغرب، وكان لقاءه بعبد الهادي بلخياط وعبد الرفيع الجواهري هو ما أفرز أعظم ما ارتبط بالأغنية المغربية العصرية من عمل لحني موسيقي عابر للزمن المغربي. و”عامر” بعد كل هذه المدة عن رحيله يبقى ظاهرة حقيقية عرفتها فترة ستينات وسبعينات القرن الماضي، كيف لا وقد كان بفضل في تثوير الأغنية المغربية بألحان الكبار في المجال، محققاً حسن ذوق وفن رفيع وجمال تعبير وتركيب نغم. كلها آثار فنية وغيرها جعلت اسهامات “عامر” روائع خالدة بتقدير واعجاب وحضن، لِما ارتكز عليه نهجه الفني اللحني من خيال رفيع وحس وتعبير جميل عوض صياغة جمل موسيقية وتركيب. 

ولا شك أن إرث الشعوب اللامادي ومن ثمة حضارة الانسان بما في ذلك مجال الفنون والتعبير، هي إرث جمعي بقدر تباين اسهاماته وهوياته بقدر ترابطه وقيمة أهمية التفاعل معه، وعياً بكون إرث الانسان وعاءِ قوةِ لاحقِ الأجيال في شتى المجالات، ومن هنا أهمية الانصات والاطلاع على نتاج الأولين واسهاماتهم لِما في الأمر من حكمة وعبرة ونقاط قوة وطاقة. ولعل من شأن تراث وبصمات الأولين، ضمان كل نجاح واجتهاد واستمرارية وخلق وابداع. ما بات غائباً في الأغنية المغربية وأمراً جلياً جعلها عرجاء تئن تحت رحمة ربها، من شدة سطحيتها وتسطيعها بل وانتقال حالها من زمن قمم ونغم الى زمن ضجيج منظم. 

إن الأخذ من الرواد الموسيقيين وتطوير تراكماتهم وانتاجاتهم وسبل وخيارات اشتغالهم، هو من أسس تحقيق الابداع وتميزه وخلود اعماله، ولعله نهج حصل حتى مع تجارب عباقرة الموسيقى الكلاسيكية الأوربية على امتداد قرون. وعليه، لِما لا يكون رواد اللحن والأداء والكلمة في الأغنية المغربية مرجعاً لكل ابداع وتجديد وتطوير، ولِما لا يكون “عبد السلام عامر” قدوة وعبرة ودرساً وتيمة ونهجاً ومثالا في زمن افتُقد فيه الطرب وبات مجرد غناء دون وقع وتوقيع، لشدة ما يسجل من نمط وبؤس وفقر لحن وركاكة تعبير جمل وقلة جذب..، لقد كان “عامر” والحالة هذه ممن جعل أغنية مغرب ما بعد الاستقلال بتحول وتميز نصاً ولحناً وأداءً، أغنية مغربية حديثة جامعة بين أخذ من تراث وانفتاح على حداثة وتجدد وابداع. 

لقد كان “عامر” من رواد وصناع طرب فترة ستينات وسبعينات القرن الماضي، مبدع موسيقي حقيقي توفي في عز عطاءه يوم 14ماي 1979 بالرباط دون سن الأربعين، وبوصية منه دفن بالدار البيضاء عوض مسقط رأسه مدينة “القصر الكبير” التي قضى بها طفولته وشبابه، متى تبين أنه بملكة فنية وموهبة قوية وميول لِما هو أصيل موسيقي، استلهمه في جل أعماله الفنية من إرث وأنماط تعبير وايقاعات مغربية، بحيث عمل على تمييز الأغنية المغربية وابراز معالمها النغمية واللحنية. وكن الخمار الكنوني وادريس الشرادي من أبناء بلدته بفضل في ولوجه اذاعة الرباط المركزية، بحكم اهتماماتهم الفنية والابداعية بعدما كان له من أعمال فنية سجلها سابقاً رفقة جوق اذاعة فاس، حيث تعرف على عبد الوهاب الدكالي الذي أدى له قصيدتي “آخر آه” و”حبيبتي”، اللتين كانتا بلحنين متميزين رفيعين جعلهما بصدى جماهيري غير مسبوق في تاريخ الطرب المغربي الأصيل. هكذا كانت انطلاقة “عامر” وكان تميزه الذي اقتنع به الموسيقار أحمد البيضاوي رئيس الجوق الوطني باذاعة الرباط، فكان اللقاء مع “عبد الرفيع الجواهري” ومع رائعته قصيدة “القمر الأحمر” التي شكلت نقلة نوعية في مسار القصيد والطرب ولحن “عامر”. 

وعياً ب”عبد السلام عامر” كبصمة فنية موسيقية مغربية أصيلة فاصلة في تاريخ الأغنية المغربية العصرية، يبقى أفضل تكريم لروحه هو أولا احتضان “القصر الكبير “مسقط رأسه لمهرجان خصص له كعلم موسيقي مغربي مغاربي وعربي اصيل، تثميناً لأعماله الخالدة ووعياً بما ينبغي أن ينال من التفات لِما أسهم به وما أضافه من تحف رفيعة المستوى لخزانة الأغنية المغربية، ولعله موعد من المفيد استمراريته لحضن الطرب المغربي الأصيل وتسويق ما هو تراث رمزي وذاكرة رافعة لتنمية المدينة. وثانيا فيلم “القمر الأحمر ” لحسن بنجلون، حيث الحكي والتوثيق لحياة “عامر” ولِما تقاسمته الأجيال ولا تزال من أعمال خالدة له بجمالها وروعة لحنها وزجلها وأدائها، وحيث الحنين لزمن فن وطرب وقمم ونغم عوض ما هو ضجيج منظم. 

ويبقى رغم مرور حوالي أربعة عقود على رحيل “عامر” رائد الأغنية المغربية الحديثة وصانع مجدها ومبدع موسيقى قصيدها بناءً هيبةً شكلاً متنناً ايقاًعاً ونغماً، ويبقى ما أسهم به من متغير فني نغمي عميق لفائدة المجال فضلاً عما كان عليه من استثناء حياة فنية، مكونات وحقائق وتفاعلات وتراكم وتساؤلات بعلامات لا تزال بحاجة لمقاربة ووقفة والتفات، لكون الرجل رسم وجسد بحق جانباً مضيئا من تاريخ الموسيقى المغربية عامة وزمن الأغنية المغربية الحديثة خاصة. فهل بعد هذا وذاك من الاشارة حول فترة ابداع موسيقي رفيع طبع مغرب ستينات وسبعينات القرن الماضي، هل يعرف الجيل الجديد شيئا عن رواد وأعلام وأعمدة الأغنية المغربية وتراكماتهم.؟ وهل حقاً بات ما هو طرب ونغم وكِبار في خبر كان الى حين؟ وهل حقاً هوت الأغنية المغربية الى أسفل سافلين؟. 

رحم الله من كان بفضل في مجد الأغنية المغربية وتميزها، عبد السلام عامر وأحمد البيضاوي وعبد الرحيم السقاط ومحمود الادريسي واحمد الغرباوي وعبد القادر الراشدي وعبد النبي الجراري واسماعيل أحمد والمعطي بلقاسم وعبد القادر الراشدي ومحمد الحياني ومحمد فويتح ومحمد المزكًلدي وابراهيم العلمي والطيب لعلج والطاهر سباطة وعلي الحداني ومحمد بن عبد السلام وغيرهم كثير، وأطال الله عُمر من كانوا بأثر في اشراقها واشعاعها واغناء خزانة البلاد برواع نصوصها، عبد الرفيع الجواهري ونعيمة سميح وعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وعبد المنعم الجامعي وغيرهم ممن كانوا وراء زمنِ أغنيةٍ مغربيةٍ ذهبي.

إلغاء الاشتراك من التحديثات