تازة بريس

من لم يتمكن العشق من قلبه يبقى نصيبه الأوفر من الدنيا لعنات ..

-

تازة بريس

سعيد عبد النابي

تساءلت.. ماذا ينقصني كي أكون؟ .. تتراءى لي صورتي في إغراءات أحلامي اليومية جميلة جدا.. لكن واقعي كصحراء قاحلة.. نهاية المبتغى فيه يبدو سرابا..قدري تساؤلات نبعت من شعوري بالإهانة .. روت بماءها الآسن أحاسيسي فأفسدت علي رؤاي الأوطوبية .. من أي جانب كانت تباغتني دنياي لأهزم أمامها هكذا .. بهذا الشكل المهين؟.. ما أوتيت من العلم إلا قليلا.. و سواد جهلي غطى على نبراسي فعمت البصيرة.. تساءلت.. ما يلزمني لجعل روح ماضي أمة.. أعزها الله بالاسلام، تحل في جسد حاضري المحتضر.. لتحويل الوهم إلى واقع، الصعب المستحيل إلى الميسر الممكن.. لنا أرض وموقع جغرافي، وتاريخ ورجال. ومسخ مهجور تسافر في فضاءاته أرواح الآمال، بني على أنقاض كنيسة، أوهمونا به مسرحا، ليت بنايته صلحت ديرا لرهبان بلغوا قمة الزهد، ليتها خٌصَّت محمية لوطاويط وغربان، مسنودة إلى ثكنة عسكرية، تقابل محكمة شهدت قاعاتها ملايين الملفات، أتفهها خليق بسيناريو يكون لحمة عمل فني يشد إليه القلوب و الأنظار.. تناقضات، لعمري غريبة.. يُقلقني التفكير فيها، و القلق يكدر صفاء الوجدان…

أي لعنة حلت بذلك الجزء من شارع طالما شع بنور الجمال؟ من قبل أن يكون به المطعم الفرنسي، من أيام كان فيها مرعى، وأيام ركبت على طواره منصة كبار المسؤولين.. وأيام كادت تقنعني بان الجن طار بي إلى ريو دي جانيرو، ايام الانبساط بالاستعراضات .. أي لعنة حلت على جماعة احتضنت علماء وزهاد ؟ أي لعنة؟ .. بل ما بال اللعنات لا تنفك تحوم حول رءوسنا حومان الفراشات والحمائم على رءوس الملائكة و القديسين في خيال طفل مسيحي مفتون بقرع الأجراس، شدني إليه ذاك الثقب الأسود ثقب اللعنات، فلم ينقطع تفكيري عن تدبر فلسفاته .. لعنة الله و لعنة الفراعنة ولعنة الأولياء ولعنة السياسيين ولعنة المخزن ولعنة لوبيات تجر عالمنا الساحر إلى النفق المسدود.. موضوع يستحق البحث و التمحيص، مرتبط برضى الله، علينا الفهم، علينا تحديد نطاق الرضى لعزل مضمار اللعنات… كي لا نخطئ بتجاوز الخطوط الحمراء، أثارت هوليود موضوع اللعنات كثيرا في أفلامها، حتى إنها بثت الرعب و الذهول في أكثر القلوب، بعثت الجثامين المحنطة، ردت اللعنة ـ اقتباسا من الصحف ـ الى مواد كيميائية سامة تفاعلت مع السنين، غضب الأرواح، لو أنهم تمعنوا في الآية الكريمة .. –( ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾) ،

لعلموا أن الله من أوحى، و حافظ، وحمى .. كي يرى إنسان القرن العشرين رجلا ادعى الربوبية، بنى صرحا ليقاتل في السماء اله موسى، كيف كان شكله ؟ كم كان طوله، وأي خوارق اكتسبها .. كي يدعي اختلافه عن البشر في زمنه، أي فضل كان له عليهم ليتأله، حقا.. إن كثيرا من الناس عن ربهم غافلون. مناسبة انتهزتها للتفكير في لعنات سيدي احمد زروق، غصت في قصص حقيقية حجبت عن الأقلام، علي البوح بها إلى أن يدركني الصباح، و يسدل الستار عن المنع فيصبح كل شيء مباح، صورتين انطبعتا في ذاكرتي كوشم شيطاني لا يزيله طب أو تفنيه نار جحيم، صورة طفل اسأل الله أن يتقبله عنده حيا مع الشهداء، ضحية حادث الشاحنة، وصورة جثة فرس لم تتعفن مررت بها، كانت ملقاة على ظهرها، رافعة قوائمها الأربعة إلى الأعلى كالمستغيثة، وهي تغرق في بحار العدم بين ضفاف الوجع، وجحيم التحلل الداخلي، بالكاد بدأ يعبر عن نفسه بانتفاخ بسيط، اظهر الدابة في أحسن أحوالها، تحسبها من سمنة انتفخت وهي في ريق سنها لم تبد أسنانها بعد أي مؤشر عن كبر، زادت أشعة شمس الأصيل حمرتها ضياء،. كأنها ما أشرقت ذاك النهار وما لاحت ولا مالت إلى غروب… سوى لتلتقط لها أروع الصور وأبهاها، كمصور فنان ينطرح إذا اقتضى الحال أرضا، يجلس القرفصاء، ثم يقف أو يركع ليظفر بصورة تكون ذروة عمله واجتهاداته، بدت الجثة كمجسم جميل من نحاس يكاد يتحول إلى ذهب من فرط العناية به والأيادي تجلوه كل ثانية، يصلح رمزا خالدا يتوسط حديقة في قلب إمارة خليجية اشتهرت بتصاميم من نسج الخيال، بمجرد رؤيتها، تذكرت الشاعر الفرنسي، شارل بودلير، لو كان من زوار اللمة لألهمته الصورة، وأرغمته على إعادة كتابة ديوانه زهور الأذى أو الألم، أو السوء، بإبداع برنوسي أروع، fleurs du mal .. ولربما عنونه ب نوار لوجاع ف دوار الكركاع..

لشدة تأثري، نقبت في الماضي البعيد عن حوادث متشابهة لعلها تصل بي إلى يقين، رصدت عند كل مناسبة حضرتها تحركات الحاضرين، بلغ بي التنقيب إلى حكايات حدثت بالفعل، شذت عن المنطق أي نعم، لكنها حكايات غريبة عجيبة من وحي الواقع، من هم من جيلي.. او جيل أبي، يذكرون بعضها كما يذكرون أهاليهم. صخرة في حجم سيارة صغيرة، تتدحرج ككرة ثلج، في منحنى معتدل، من أعلى الجبل نحو الوادي ، كوحش منايا تدنى ليهدد الأرواح في غضب، أول شيء تحقق له، إلغاء الذهول تفكير الناس بالمرة، لا هم كان لهم سوى النفاذ بجلدهم، دون ان يتساءل أحدهم كيف نترت و من ململها من مكانها او من دحرجها .. وقفوا أو بالأحرى تجمدوا من الهلع بلا حول و لا قوة، سلاحهم الصدح بالصلاة على الرسول الكريم مستنصرين به، وبعث أسماء رجال البلاد من مراقد النسيان، أمولاي ادريس ،أ سيدي بلعباس..ألشيخ الكامل .. فتجنبهم العناية الإلهية كارثة أحدقت بهم و ترفع عنهم أمرا كاد أن يكون مقضيا، حصرت الإصابات في رضوض و كدمات ، وأعتقت الأرواح.

وتلك الأفعى…سمعت قلة بها دون رؤيتها، صرخة واحدة تكررت، حنش حنش حنش، كفت لإثارة الرعب و الفوضى، أوقعتهم في حيص بيص، هاجوا.. وماجوا .. كأمواج بحر منفعل، ركضوا كجحافل فئران.. تفر الى جحورها خائفة من تهديد ، وتلك الأسماء لفرسان، كيف انضافت إلى لائحة الضحايا بعين المكان، من سقط تحت حدوات خيول جامحة، ومن تلقى طلقة طائشة أردته قتيلا، ومرة..أطاح فرس بفارسه، فسعى الى نهش لحمه، لولا ردة فعل الفارس و هرولة الحاضرين، لكان صَلَّحَهُ كما يُصَلّحُ البغل عندنا بنزع الخصيتين.. ألا ترقى كل هاته الحوادث إلى لعنات ؟. رغم بعد مثوى جثمان الولي الصالح، ومدينة مصراتة الليبية تفصلنا عنها الأميال، رغم القرون بيننا و بين عهده و السنين، بقيت يده بهذا الطول في التاريخ و الجغرافيا، وروحه من علياء السماء تعاتبنا متبرئة من الحفل..منتقمة من نسل طوى صفحته، نسي طريقته، جهل حياته ، اهمل رسالته ؟ مضت ثلاث سنوات لم نحتفل فيها بلمة ولم نحضر فيها مأتما .. ليستمر انصرام السنين بلا حفل ..حتى نتأكد ..و نوصد هذا الباب..  فمهما كتبت.. ومهما أطنبت. تبقى كتاباتي من ضروب الهذيان.. إلا أنني استنتجت أني لكي أكون، تلزمني تلك البناية المهجورة استوديو تصوير، لبث الروح في الماضي التليد بعيون الحلاج.. وقلب ابن العربي.. وبداهة المتنبي.. مع صلوات طويلة مترعة خشوعا في محراب العشق .. من لم يتمكن العشق من قلبه يبقى نصيبه الأوفر من الدنيا الدنيئة لعنات …

فاعل جمعوي/ كاتب

 

إلغاء الاشتراك من التحديثات