من عبق الرواية والصورة الروائية حول تازة

تازة بريس5 أغسطس 2022آخر تحديث : الجمعة 5 أغسطس 2022 - 3:03 صباحًا
من عبق الرواية والصورة الروائية حول تازة

تازة بريس

عزيز باكوش

نزلت إلى المكتبات والأكشاك ومجالات التداول الثقافي، الطبعة الأولى لرواية « قبة السوق» وهي باكورة أعمال الكاتب والصحفي الأستاذ عبد الإله بسكمار. تقع الرواية في 168 صفحة من القطع المتوسط ، صمم لها الغلاف وأنجزه فنيا « منشورات مرايا بطنجة « التي يشرف عليها المبدعان عبد العزيز الزروالي وعبد العزيز خالد. كقارئ، أجد من العسف التسرع والانتصار لهذه التجربة ليس لأن رواية « قبة السوق» سيكون لها امتدادات في كتابات آتية، نقرأ فيها وقائع وتجارب أخرى ذات سطوة وسطوع، ونتماهى مع شخصيات وشخوص، ونتفاعل مع ما لا يحد من الكائنات والكمائن والدسائس والترهات، مع الفواجع واللوامع والانفلاتات، بل لأن ثمة ما يحفزنا على الانتظار والقراءة ، فالآتي غني رحب ومفجع في ذات الآن . إذ ليست النهايات أفولا جنائزيا يستدعي الحداد، « إنها بالأحرى لحظات اكتمال تجاوزت فيها الصيرورة ذاتها. إن السياق السوسيو ثقافي المشكل لأهم اللحظات المؤسسة للرواية يطرح أسئلة البدايات ، أي من هي تلك الذات التي ستستمر في الرواية.. إنها بكل بساطة امتدادات السرد المفجوع المقتصد في تفاصيله حتى اللحظة الموعودة .
زمن الرواية مابين سنوات السبعينيات فما فوق، أحداثها تدور بمدينة تازة العليا وتصف ظروف وملابسات تنشئة أسرة عريقة من أبناء المدينة. شخصياتها المركزية أسرة الصدّيق السفانجي» الذي أتى إلى الحياة كي يبين أن إنسانية الإنسان أي تحققه كوعي بالذات ومن أجل الذات، لا تكمن في تمسكه بالحياة والمحافظة عليها وتفاديه حالة « حرب الجميع ضد الجميع « التي تتضمنها حالة الطبيعة في المنظار الفلسفي الأنكلوسكسوني « بل تكمن في قدرته على تخطي هذه الطبيعة وتجاوز الرغبة في البقاء إلى أعلى مستوى. إذ لا سبيل للتخلص من عبء الحياة سوى الضحك عليها، الصديق السفانجي الذي نجا من الموت بأعجوبة ذات زوال بعيد عاد ليستعيد حياته بمتنها الغرائبي العجيب الغريب الطافح بالفذلكات والشكس الجميل ، ويضع ما تبقى من أمل فيها من أجل أسرته وعائلته حتى آخر رمق. الصديق «ذلك الإنسان الذي «لا يتوق فقط إلى الحياة، ولكن كذلك إلى الحرية، الحرية التي سيتشربها أبناؤه في ما بعد كل في دائرة انشغاله، إنها حرية لم و لن تكن لتتحقق ، لو لم يكن معترفا بها ومقبولة من طرف الآخرين ، أصدقاء وأعداء . ولا يكون هذا ممكنا حسب «جون هيبولت» إلا بحركة نكوصية متصاعدة متبادلة بين الفرد ومحيطه الداخلي والخارجي.
على ظهر الغلاف نقرأ « قبة السوق خالية من بني آدم ، بدت أولى نسائم الصباح تداعب خياشيم الصديق ومازال مدينا بحياته لحمام صب الماء الذي يشكل المدخل الغربي لقبة السوق ومدينا لقدميه أيضا ، فقد جهل أو تجاهل الصديق حظر التجول الذي فرضته سلطات الحماية ، ونهض كالعادة عند الثالثة صباحا للقيام بعمله المألوف مع الطنجرة والمقلاة. وبمجرد ما أطل شبحه على منزل الحاج عزوز التازي المكشوف للعسكر و»لاليجو» حتى أطلق هؤلاء وابلا من الرصاص الرهيب ، فكان أن أطلق صاحبنا الصديق لساقيه العنان وأسلمهما للريح تحت وقع الصدمة وفي سرعة أقوى العدائين ، حينما أخطأته أولى العيارات النارية ليجد أمامه ملاذا وحيدا مفتوحا تمثل في حمام صب الماء، وفي الصباح هنأه الجميع على الميلاد الجديد ، لا سيما وقد وقع في نفس المصيدة مولاي العربي العابد الذي فقد ساقه وقتل برفقته ضيفه بعد أن تعشى معه في منزله تلك الليلة بالذات ولم يكن سوى فقيه من أيها الناس رمته الأقدار إلى مصيره».
أستحضر للحظة كافة الصور والمواقف والأحداث كقارئ كما لو كنت أحد أبطال قبة السوق الحقيقيين، وأستنكف لحظات عصية عساني أستمد منها قوة الاحتمال، سيما وقد مضى على مغادرتي لقبة السوق كتاجر قرابة 3 عقود، لكني لم أغادرها روحا ، ولأن من رأى ليس كمن سمع ، فإن تسلسل أحداث الرواية وبنية السرد المتصاعدة بتفاصيلها الموجعة ووقائعها التي لا افتراء فيها ، تصلح أن تكون شريطا سينمائيا يغطي وجع المرحلة بالصورة والصوت في ظل الخصاص المهول لسينما تنتج وتعيد إنتاج المدينة « تازة» فنيا، و»قبة السوق» عنوان الرواية بجغرافيته وتاريخه الممتد الضارب في القدم فضاء حقيقي وواقعي وليس من صنع الخيال ، فضاء شكل على الدوام بؤرة من البؤر المفصلية في تاريخ المدينة الثقافي والاجتماعي والتاريخي الحافل ، سواء تعلق الأمر برصد ذبذبات وانتكاسات عائلة بسكمار ذات البعد الاجتماعي المنصهر، أو بملاحقة أحداث وتواترات اجتماعية ثقافية وسياسية، بدءا بالانقلاب على الملكية مرورا بالمسيرة الخضراء وعبر تشنجات مجتمعية لا عد لها ولا حصر تشكل الأخلاق من خلال أوامرها وقواعدها، تدبيرا ملغوما لهذه المرحلة.
تشكل «قبة السوق» وحراكه تأسيسا ضمنيا لاستجابة ملتبسة للكاتب بفعل الظروف والمرحلة ، وإذا كانت القبة هي نفسها التي استيقظت ذات صباح من خمسينيات الزمن الماضي على وقع كاميرا النجوم العالميين، وشهدت حاراتها وأزقتها روايات وأحداثا تستحق أن تروي لكنها ظلت بمعزل عن أي تناول ثقافي أوفني رفيع ، فإن الجزء الأول من الرواية لا يعد سوى توطئة للآتي الأسوأ الذي أبدى المؤلف تحفظات مؤلمة في دفقه، وتعامل بجسارة لاجمة مع اندفاعاته الجياشة . تجدر الإشارة هنا أيضا إلى ظروف المقاومة الأسطورية لقبائل ولأبناء تازة البواسل في السهل والجبل ضد المستعمر الأجنبي ، ولعل والد الكاتب الراحل إدريس بسكمار واحد من هؤلاء .
تدور رواية – قبة السوق- بفضاء مدينة تازة خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. في فوضى قبة السوق تنسج الحياة «عبقا ساحرا من العرق والغبار وبراز البهائم والعتاقة ورائحة القصب وأريج الحلاقة وعطور التوابل، وبهارات الأطعمة وأغاني أم كلثوم والمقطوعات السفلية لحشود المنبوذين والشحاذين والمنسيين على قارعة الزمن العام والخاص». تحكي الرواية كفاح أسرة تازية من أجل أن تقل عثرة أبنائها وأن تنتشلهم من الضياع دون جدوى غالبا وبوسائل وأساليب تشمل النفسي والبيولوجي والقمعي أساسا ، حيث تتداخل المسارات وتتشابك المصائر والعلاقات ، في الخارج الطاعة واجبة للقادة والعرفاء ومن فوقنا في الرتب وفي الداخل تمرد وعصيان وتحديات لا عد لها ولا حصر. وتعد شخصية الصديق بن كمران المازوني» والد الكاتب « نواة محورية لها بقفشاته وشطحاته مع كائنات حانوت الدوائر الشهية» السفنج « بقبة السوق ، كان» الصديق» ينقلب في دورات عجيبة يشتم حياته ويتهجم على العالم بأسره معززا خطابه الأثير بدعوات أخرى بذيئة تجاه نفسه أولا ثم العائلة فالدنيا بأسرها وبالتتابع « وبتعدد الصدامات داخل وخارج البيت ، وخاصة مع ابنه البكر ميلود الذي يسير من خيبة إلى أخرى عبر عجز مزمن في خلايا الدم، وعبد الخالق الواقع تحت وصايته بحانوت الثياب والتي يعوض مرارتها بالكتب، فيبقى أفقه مفتوحا على أسئلة متعددة،»أرتجف وأرتبك وأنا استحضر صورة هذا العظيم « عبد الحق» خاصة بعد أن تأكد أن مساره أصبح مختلفا عن أخواته ورهن مستقبله إلى أجل مسمى بحانوت الثياب، هياج الصديق وسعاره اللاسع « رتب حوايج النسا على ليسر أولدي..كن كتسمع؟» لكن عبد الخالق يرد « الفكرة ماشي فمحلها آبا.. صديقنا علواش قال إن مكانها الطبيعي يمين الكونطوار لأن النساء يملن إلى هذه الجهة» لكن الأب يرد « بمرارة «كعادته « خلقكم الله كلكم معكسيييين « وعبد الهادي ابن الصديق الأوسط والذي تابع دراسة متعثرة وهو دون حظوظ عبد الخالق، كما يقضي بعض اللحظات الممتعة مع السي عبد السلام الحلاق بقبة السوق، ثم بنادي ابن سوسان حيث أضرابه الباحثون أيضا عن مصائر ما في إطار موضوعة الهروب كقيمة مهيمنة في الرواية…..
بين هذه الأحداث وتلك، تكافح الكاملة وأبناؤها بوجمعة وعزيزة واحميدو مصائر أكثر قتامة يزيدها تشابكا خرف العجوز فاطمة التي تعلق كل أملها في الانتقام من العجوز مرزاق المزواج المطلاق، وبين لحظة روائية وأخرى، يطل الوطن بمحطاته الملتهبة ومعه أصوات المعتوهين والمنزاحين عن الزمن العام والخاص. رواد قبة السوق. كائنات قبة السوق… أحبة قبة السوق المنسيون الذين تطل أرواحهم مرة أخرى عبر دبيب الحروف ووهج الكلمات» .
وعلى أية حال فإن ظهور الرواية في هذه المرحلة الأدبية يعد حدثا إبداعيا وجماليا حقيقيا، ربما نرى أبرز ملامحه نحن مجايلي المرحلة . إن الانتقال من المثال والمجرد والشفوي والغنائي والعاطفي والمأساوي إلى الواقعي والحواري والتاريخي والملحمي، والذاكرة المفتوحة لبناء رؤى تشكل العالم المتفاعل في صراعاته وتناقضاته المختلفة، يعني المغامرة الفائقة النجاح .
رواية «قبة السوق» في جزئها الأول سبق أن فازت بجائزة تازة الوطنية للإبداع الأدبي «فرع الرواية» والتي نظمتها كل من جمعية أصدقاء تازة بشراكة مع وزارة الثقافة ومندوبيتها الجهوية ومنشورات مرايا بطنجة، وبتعاون مع كلية الآداب جامعة محمد بن عبد الله بفاس.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق