تازة بريس
عبد السلام انويكًة
كانت زيارة البابا فرنسيس إلى المغرب، ترسيخاً لمِا ينبغي من حوار وسلام وحرية ضمير ودين بين ثقافات ومؤمنين لفائدة عيش مشترك وكرامة إنسانية، من جملة ما طبع ربيع هذه السنة من حدث سياسي ثقافي وحضاري. وعليه ومن أجل مساحة تأمل تاريخي في ما هو مغمور من فصول تاريخ جمعي تتقاسمه قيم سلمٍ وتعايش، وإبرازاً منها لمِا ميز علاقات المغاربة والمسيحيين من تساكن معبر لقرون يعود فضل ترسيخه للسـلاطين البلاد، نظمت مؤسسة أرشيف المغرب بالرباط، تناغماً وتفاعلا مع طبيعة المناسبة، معرضاً وثائقياً غير مسبوق تمحور حول “الحضور المسيحي بالمغرب والعيش المشترك”.
وعلى أساس وثائق مؤطرة لهذا الموعد الفكري التاريخي الدبلوماسي، ورد أن علاقة المغاربة بالمسيحية تعود إلى زمن معرفتهم بالرومان وحضارتهم، وأن علاقة الدولة المغربية بالفاتيكان تعود لزمن دولة الموحدين، كما يتبين من رسالة للخليفة الموحدي أبو حفص المرتضى، التي كان قد بعثها إلى البابا انوسانت الرابع بروما خلال يونيو 1250 في شأن تعيين راهب يهتم بأمور النصارى المقيمين بالمغرب..وجاء فيها: “وفي سالف هذه الأيام انصرف عن حضرة الموحدين أعزهم الله البشب الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا انصرافاً لم يعهده منا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام (…) ومتى سنح لكم اسعدكم الله تعالى بتقواه أن توجهوا لهؤلاء النصارى المستخدمين ببلاد الموحدين أعزهم الله، من تروه برسم ما يصلحهم في دينهم ويجري على معتاد قوانينهم”.
وقد أفاد د. خالد عيش، عن مؤسسة أرشيف المغرب، في سؤال حول المشترك التاريخي المغربي من خلال الوثائق، بأن علاقات تفاعل وسلام وتعاون المغرب والفاتيكان تعمقت خلال القرن التاسع عشر، من خلال إيفاد السلطان الحسن الأول لسفارة إلى البابا ليون الثالث عشر ترأسها محمد العربي الطريس في فبراير 1880، مضيفاً أنه بعد استقلال المغرب استقبل السلطان محمد بن يوسف رئيس الأساقفة بالمغرب “أميدي لوفيفر” و”الأب دوني مارتن”، إثر انتهاء ملتقى تومليلين 1956، بل بعث رئيس حكومته عبد الله ابراهيم للقاء البابا 1960 في إطار حماية تراثٍ كرس ثقافة انفتاح وتسامح ديني؛ وهو ما نهجه سلاطين المغرب على امتداد قرون من الزمن، ليتعمق زمن الملك الحسن الثاني باستقباله للبابا يوحنا بولس الثاني سنة 1985، وزيارة الملك محمد السادس للبابا في الفاتيكان سنة 2000.
ويتبين من خلال “معرض الحضور المسيحي بالمغرب والعيش المشترك”، الذي نظمه أرشيف المغرب من خلال وثائق تاريخية متفردة ومعبرة لازالت تملأ بهو مقر المؤسسة، أن النصارى كانوا دوماً بعناية في بلاد المغرب، بدليل ما صدر من ظهائر توقير واحترام وأمان أنعِم عليهم بها من قِبل سلاطين مغاربة. بل تمتع هؤلاء بحقوق وحريات في تنقلاتهم وتجارتهم، فضلا عما شمل تدبيرهم لأمورهم الخاصة بإرثهم وزواجهم وقضائهم ودور عبادتهم وممارستهم لشعائرهم الدينية من حرية. وكان ما شمل النصارى بالمغرب من رعاية بأثر في تفاعلهم وتقاسمهم لعيش مشترك مع المغاربة، من خلال ما قدموه من خدمات في مجالات عدة من تطبيب وتعليم وتكوين وغيره.
وحول قيم العيش المشترك والتسامح وغنى ذاكرة المغرب في هذا الإطار ما ورد من إشارات في نص رسالة ملكية وجهت للمشاركين في مؤتمر “حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية” قبل حوالي ثلاث سنوات، قائلاً: “لقد عرف تاريخ المغرب نموذجاً حضارياً متميزاً في مجال تساكن وتفاعل المسلمين مع أهل الديانات الأخرى ولاسيما اليهود والنصارى، ومن العهود المشرقة في تاريخ هذا التساكن ما أسفر عنه الالتقاء على صعيد بناء الحضارة المغربية الأندلسية، حيث ازدهرت بين مختلف الطوائف التجارات والصناعات والفنون وتبادل ثمرات الحكمة والفلسفة والعلوم”.
وقد بسَط معرض مؤسسة أرشيف المغرب من خلال مواد وثائقية دفينة، تفاعلاً مع ذاكرة المغرب حول العيش المشترك، لرحلة تاريخية ودبلوماسية منذ فترة دولة الموحدين في القرنين الـ12 والـ13 الميلاديين، تؤكد خيار المغرب في التعدد الثقافي والديني وفي عيش مشترك يقوم على وسطية واحترام متبادل وحرية دينية تؤطرها إمارة المؤمنين. وقد توزع هذا المعرض، الذي كان بقيمة مضافة هامة لحدث زيارة البابا للمغرب مؤخراً ولحوار الثقافات، على محاور أربعة متكاملة جمعت بين “أمان وتوقير واحترام” و”حقوق وحريات”، و”الحياة الاجتماعية” و”المغرب والفاتيكان روابط متينة متجددة”..محاور بتيمة وثائقية منسجمة ارتأت مؤسسة أرشيف المغرب من خلالها إبراز الحضور المسيحي في المغرب عبر التاريخ، وما ارتبط به من تجليات مشترك وحرية تفاعل وعمل وعبادة، تجعل من البلاد نموذجا لتعايش المسلمين وأتباع باقي الديانات، خاصة اليهود والمسيحيون.
وتجدر الاشارة إلى أن أقدم وثيقة أثثت هذا الموعد تعود لفترة دولة الموحدين بالمغرب، فضلاً عن ذخيرة تغطي فترة دولة السعديين، مع أن أغلب الوثائق تهم فترة حكم المولى إسماعيل إلى غاية اليوم؛ علماً أنها وثائق نادرة عرضت لأول مرة بهذه المناسبة، وقد حصلت عليها مؤسسة أرشيف المغرب بفضل تعاون الكنيسة الكاثوليكية بطنجة، التي تحتفظ بسجلات نادرة تحتوي ظهائر عدة ضمنت لرجال الدين المسيحيين الفرنسيسكان حرية تنقلهم وسفرهم وزواجهم حسب ديانتهم وعاداتهم. ولعله إرث يؤكد أن المغرب كان دوماً أرض تسامح وعيش وتعايش وتعدد ثقافي وديني ولغوي.
يذكر أن مؤسسة أرشيف المغرب، التي احتضنت معرض “الحضور المسيحي بالمغرب..العيش المشترك”، أحدثت في ربيع 2011 بموجب قانون متعلق بالأرشيف رقم 99/69 صادر في 30 نونبر2007، وهي مؤسسة عمومية ذات شخصية معنوية واستقلال مالي مهمتها صيانة تراث الأرشيف الوطني وتكوينه وحفظه وتنظيمه وتيسير الاطلاع عليه لأغراض إدارية وعلمية واجتماعية وثقافية؛ فضلاً عن أدوار أخرى تروم برنامج تدبير الأرشيف وصيانته ووضع معايير لعمليات جمعه وفرزه وإتلافه وتصنيفه، ووصفه وترميمه ونقله ضمن ضوابط وآليات خاصة بالأرشيف، وكذا النهوض بمجال الأرشيف وإغنائه عبر بحث علمي وتكوين ممهنن وتعاون دولي، إلى جانب مهام جمع مصادر الأرشيف المتعلقة بالمغرب والموجودة في الخارج ومعالجتها وحفظها وتيسير الاطلاع عليها.
ونظرا لحداثة ثقافة الأرشيف المؤسساتي على مستوى الإدارة المغربية والمواطن، رتبت مؤسسة أرشيف المغرب التي يدير شؤونها الباحث المؤرخ جامع بيضا، ولعله إنسان مناسب في مكان مناسب، سلسلة أنشطة وتفاعلات تحسيسية بأهمية الأرشيف خلال السنوات الأخيرة، توجت بتحديد 30 نونبر من كل سنة يوماً وطنياً للأرشيف، يكون مناسبة لتقييم منجزات المؤسسة وعرض مشاريعها وحاجياتها.. ولعل خيار الجهوية المتقدمة بالمغرب يدخل ضمن إستراتجيتها من خلال ما نظمته من أيام دراسية، ومن مقترح حول تدبير الأرشيف في إطار الرهان المجالي المغربي الجديد. وحسب ما أورده مدير مؤسسة أرشيف المغرب، في حوار له حول بعد هذه المؤسسة الإستراتيجي، فإن إنشاءها جاء تعبيراً عن إرادة سياسية لتدارك ما ضاع للمغاربة من أرشيف وطني خلال العقود الماضية، وأنها مؤسسة اختير لها اسم أرشيف المغرب لتكون فوق ما هو حساسية حزبية وطائفية ولغوية ودينية، مضيفاً أن من معيقات النهوض بالأرشيف الوطني ما يسجل من نقص في ثقافة الأرشيف لدى العموم، وأيضاً لدى أصحاب قرار يتماطلون أحياناً في مواكبة مشاريع المؤسسة المستقبلية، إلى جانب غياب قانون منظم لمهنة الأرشيفيين، يقتضي وضع إطار قانوني يحدد وضعيتهم على غرار الفئات الأخرى المهنية، نظراً لمِا يقومون به من أدوار نبيلة تخص حماية أرصدة الأرشيف، ومن مهام تخص معالجة الوثائق وتنقيتها وإبقاءها على محيطها التاريخي والقانوني والإداري، مع احترام مصدرها والحفاظ على العلاقات الأصلية الموجودة بينها.
وفي إطار انفتاحها على محيطها الوطني والدولي، وكذا جهودها الرامية إلى الحفاظ على الأرشيف الوطني باعتباره إرثاً رمزياً للمجتمع، توجد مؤسسة أرشيف المغرب على إيقاع سلسلة اتفاقيات شراكة وتعاون مع مؤسسات وطنية وأجنبية، خاصة منها فرنسا، في أفق الاستفادة من التجارب وتأهيل وتكوين الأطر تعزيزاً لقدراتهم وكفاءاتهم في هذا المجال، مع العمل أيضاً على رقمنة الوثائق وتحقيق ما هو دعم تقني الضروري لهذا الرهان.
يبقى بقدر ما يسجل من قيمة مضافة لإحداث مؤسسة تعنى بأرشيف المغرب وتروم إرساء معالم مهيكلة تخصه، بقدر ما يعلق عليها من آمال واسعة في حفظ إرث تاريخي رمزي للبلاد وجعله رافعة بحث علمي وتنمية مجتمعية مستدامة واستشرافية، فضلاً عما يمكن أن تسهم به هذه المؤسسة من أدوار طلائعية تخص ما هو دبلوماسي ثقافي حضاري، عبر ما يمكن أن يضخه الأرشيف لفائدة حوار ثقافات وشعوب ترسيخاً لقيم تعايش وتسامح وسلام وتعاون؛ وذلك بجعل الماضي وتجلي المشترك التاريخي في خدمة حاضرٍ ومستقبلٍ، مثلما تأسس عليه رهان ووعاء معرض “الحضور المسيحي بالمغرب.. العيش المشترك”، الذي نظمه أرشيف المغرب برواق مقره بالرباط، تفاعلا مع زيارة البابا فرنسيس مؤخراً، وتنويراً لدبلوماسيين وباحثين مؤرخين وسياسيين ومهتمين وغيرهم بما هو عليه أرشيف البلاد من عمق وغنى تاريخي دالِّ على أنها كانت دوماً بروح تفاهم وأخوة وعلائق بين مسلمين وغير مسلمين وبتثاقف جعلها أرض تفاعل وتلاقح فكري ومدني.