تازة بريس
عبد السلام انويكًة
بقدر ما يحيل احتفاء مؤسسة أرشيف المغرب باليوم الوطني للأرشيف (30 نونبر)، على أول قانون أرشيفي صدر في مغرب الاستقلال قبل ستة عشرة سنة (القانون69.99)، وقد شكل حينئذ حدثا تشريعيا فاصلا ومعبرا عندما جعل الأرشيف بعنايةٍ وإنصاتٍ رسمي، وكذا تحقيقه لإلتفات قانوني أعاد الاعتبار لمجال يسجل أنه عاش عقودا من اللامبالاة. بقدر ما يأتي هذا الاحتفاء وفاء من هذه المؤسسة صوب محيطها في أفق ورش أرشيف أكثر قربا، فضلا عن توسيعها وتنويعها وإغناءها لجسور ومستويات انفتاحها واشعاعها، عبر ما هي عليه من مهام منوطة وطبيعة تطلعات وسبل تدبير وبنيات وآليات تواصل وخدمات أرشيف، لفائدة كل ما هو تاريخي وعلمي وتربوي وتراثي وهوياتي وحقوقي وحداثي وثقافي دبلوماسي ايضا.
من أجل كل هذا وذاك وبمناسبة اليوم الوطني للأرشيف، تنظم مؤسسة أرشيف المغرب بالرباط معرضا خاصا بأرشيفات الديبلوماسي الأديب التهامي أفيلال مع تقديم كتاب موسوم ب”بين تطوان وفاس: صفحات من تاريخ المغرب المعاصر من خلال أرشيف الدبلوماسي الأديب التهامي أفيلال 1932- 2020″لمؤلفه الدكتور يونس السباح، فضلا عن توقيع اتفاقية شراكة وتعاون بالمناسبة بين أرشيف المغرب والأرشيف الوطني التركي. ويتوزع برنامج احتفاء هذه السنة على كلمة افتتاحية للدكتور جامع بيضا مدير أرشيف المغرب، تليها قراءة في مؤلَّف”بين تطوان وفاس:صفحات من تاريخ المغرب المعاصر من خلال أرشيف الدبلوماسي الأديب التهامي أفيلال”، من قِبل محمد الشريف الأستاذ الباحث في التاريخ عن كلية الآداب والعلوم الانسانية بتطوان مع مساحة زمنية لفائدة مداخلات تفاعلية ذات صلة. هذا قبل انتقال حفل مؤسسة أرشيف المغرب، لشهادات في حق التهامي أفيلال يقدمها الأستاذ محمد بن عبود عن جمعية تطوان أسمير والأستاذ عبد الواحد أكًمير عن كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط. يليها توقيع اتفاقية شراكة وتعاون بين أرشيف المغرب والأرشيف الوطني التركي، قبل انتهاء أشغال الحفل بتدشين معرض أرشيفات الدبلوماسي الأديب التهامي أفيلال برواق أرشيف المغرب.
ولعل ما يطبع احتفاء مؤسسة أرشيف المغرب باليوم الوطني للأرشيف لهذه السنة، استمرار سيرها ونهجها من أجل أرشيف قرب، بعدما أغتنت به من ذخائر وثائقية بقدر عال من الأهمية خلال السنوات الأخيرة، من قبيل أرصدة “شمعون ليفي”، “محمد العربي المساري”، “عبدالصمد الكنفاوي”، “عفيف بناني”، “محمد جسوس”، “عبدالله شقـرون”، “مولاي أحمد الوكيلي” وغيرهم الكثير، فضلا عن رصيد واسع لحوالات حبسية عن حواضر مغربية عدة. كلها جهود وغيرها تعكس وتستحضر خطة عمل ورؤية واستشراف، تروم من خلاله مؤسسة أرشيف المغرب وضع ما بلغته وما تحتويه من أرصدة ، رهن اشارة باحثين ومهتمين على المستويين الوطني والدولي. توفيرا وتحقيقا منها لِما من شأنه تقريب الأرشيف من هؤلاء، ومن ثمة إغناء وتطوير وتيسير وتجويد البحث العلمي في مجال العلوم الانسانية والاجتماعية.
يذكر أن توسيع وعاء أرشيف مؤسسة أرشيف المغرب، تعزز خلال السنوات الأخيرة بمساحة هامة من الأرشيفات الخاصة. فقد نجحت على سبيل الذكر في حضن أرشيف رجل الدولة الأستاذ عبدالرحمن اليوسفي رحمه الله، الذي أوصى قبل وفاته بأن توضع وثائقه الأرشيفية رهن إشارة المؤسسة الحاضنة للأرشيف العمومي، وكذا ما كان بحوزته من أغراض عينية وتحف رهن إشارة مؤسسة “متاحف المغرب”. وكانت مبادرة ووعي وسلوك وقناعة هذا الأخير في حياته قد أثارت ما أثارت من ثناء وتثمين وقراءة، استحضرت ما شخصية الرجل وما ميزه من بعد نظر فضلا عما كان عليه من حس انساني ووطني وتقدير للمسؤولية واستقامة ونكران ذات وتغليب لمصلحة البلاد والعباد. ولا شك أن تطلعات ورهان مؤسسة أرشيف المغرب في جمع الأرشيفات الخاصة، سيظل مفتوحا في أفق حضن مزيد من ذخائر أرشيف أعلام ورجالات السياسة والثقافة والإعلام والاقتصاد والفكر والتراث والفنون المغربية وغيرها. وهي مدعوة لمزيد من الجهد في هذا الاتجاه ليس فقط لانجاح ما هو منوط بها من مهام وأدوار وفق ما يخوله القانون، بل ايضا بلوغ ما ينبغي من تنوير وتأطير وحفز وتفاعل وتربية وتعبئة من اجل ثقافة مجتمع بقابلية واستعداد للانفتاح على مرامي أرشيف المغرب في بعدها الوطني والحضاري.
هكذا يأتي تنظيم معرض خاص بأرشيفات الديبلوماسي الأديب التهامي أفيلال بمناسبة باليوم الوطني للإرشيف، والذي بقدر ما هو تثمين لورش الأرشيف الخاص بالمغرب بقدر ما هو نتاج جهد وحصيلة ثمار جنتها المؤسسة في هذا الاطار، ويتعلق الأمر هنا بأرشيفات أسرة أفيلال التي سلمتها للمؤسسة في شخص زوجة التهامي أفيلال السيدة خديجة بوهلال. وقد ورد في توطئة أعدتها الجهة المنظمة لحفل ومعرض مؤسسة أرشيف المغرب هذا، أن معرض أرشيفات الديبلوماسي الأديب التهامي أفيلال” فضلا عن غايته الأولى في تثمين مضامين هذه المجموعة الأرشيفية، هو احتفاء ايضا بهذا الرجل وتقدير واعتبار لما كان عليه من وعي وجهد في جمع أرشيفات عائلته وأرشيفاته الخاصة، وما بذله من مجهود لحفظ هذا وذاك والاعتناء به كي يصل إلى مؤسسة أرشيف المغرب وليكون اليوم رهن اشارة الباحثين والمهتمين. وهذا ليس بغريب- تضيف توطئة حفل مؤسسة أرشيف المغرب- على رجل نشأ وتربى في أحضان أسرة عريقة توارث أبناؤها العلم والمعرفة وأنجبت علماء أجلاء مثل العلامة أفيلال مؤرخ تطوان وشاعرها، والفقيه التهامي أفيلال قاضي مدينة تطوان وأحوازها ومحمد بن التهامي أفيلال وزير العدلية بالمنطقة الخليفية زمن الحماية على المغرب، وأخوه العالم الأديب البشير أفيلال الذي شغل منصب الكتابة العامة بالوزارة نفسها.
وكان التهامي أفيلال المحتفى بأرشيفه الخاص من قبل مؤسسة أرشيف المغرب، قد ولد وسط أسرة محافظة متدينة زاخرة بالعلم والعلماء سنة 1932، وذلك بحي الجامع الكبير بتطوان حيث درس بالمدرسة الخيرية وحيث ختم القرآن وتشبع بعلوم الدين والأدب والتاريخ، قبل انتقاله إلى إسبانيا لمتابعة دراسته في شعبة التجارة، معززا تكوينه الأكاديمي بعد ذلك بمتابعة دراسته العليا بكلية الحقوق بالرباط. علما أن مسار الرجل المهني بدأ عند التحاقه بوزارة الخارجية كموظف، ليتدرج عمله بالسلك الديبلوماسي على امتداد نصف قرن بالعديد من السفارات المغربية، لعل آخرها كان فكانت الأرجنتين آخر محطة له قبل احالته على التقاعد. حيث تفرغ للعمل الأدبي بانضمامه لجماعة الشاعر مولاي علي الصقلي في منتدياتها التي كانت تجمع عددا من المبدعين عن عالم الأدب والشعر. ولعل من تجربته هذه التي امتدت لسنوات استقى فكرة إنشاء “عش الحمامة”، وهو المنتدى الأدبي الذي دأب على تنظيمه ببيته بمدينة الرباط وقد استهدف به تثمين الارتباط الثقافي بشمال المغرب. فالحمامة هي رمز مدينة تطوان وعشها هو كيان وروح التهامي أفيلال رحمه الله، وعليه يسجل أن جل ملتقيات المنتدى كانت تروم التعريف بتطوان وبأعلامها في في مجالات العلم والأدب والشعر والسياسة.
جدير بالاشارة الى أن معرض مؤسسة أرشيف المغرب المنظم بالرباط بمناسبة اليوم الوطني للأرشيف يتوزع الى قسمين، من جهة التعريف بأرشيفات عائلة أفيلال وتثمين مضامينها العلمية باعتبارها مصدرا زاخرا بقدر كبير من القيمة المضافة لفائدة كتابة تاريخ المغرب المعاصر. ومن هذه الأرشيفات رصيد الفقيه المفضل أفيلال الذي أنتجه عبر ما تقلب فيه من وظائف عدة شغلها كعدل موثق وإمام وخطيب ومدرس بعدد من مساجد تطوان، وكذا ما أنتجه من وثائق أثناء مزاولته لخطة العدالة ووظيفه بديوانة تطوان، فضلا عما خلفه من كنانيش سجل فيها رحلاته وأشعاره وأرجازه. وتذكر وثيقة وتوطئة حفل واحتفاء مؤسسة أرشيف المغرب باليوم الوطني للأرشيف، أن المفضل أفيلال الذي كان من بين الموقعين على بيعة تطاون للسلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان والمولى الحسن، تميز ايضا بنبوغ فني وإبداعه ذات صلة حيث تفنن في خط عدد من المخطوطات وتزيينها بأجمل النمنمات، اضافة لِما اشتهر به من حسن القول وبديع النظم ومن ذلك مرثيته لتطوان التي كان أول من سماها بالحمامة التي لا تقبل إلا الحرية والانعتاق.
وأما القسم الثاني من معرض مؤسسة أرشيف المغرب بمناسبة اليوم الوطني للأرشيف، فقد خصصته الجهة المنظمة لتقديم الأرشيفات التي أنتجها التهامي بن عبد السلام أفيلال وقد توزع بدوره لشطرين، أولهما يقدم للأرشيفات التي أنتجها هذا الأخير في إطار عمله الديبلوماسي، ولا شك أنها تتوفر على معطيات بقدر عال من الأهمية لكل باحث في العلوم الانسانية والاجتماعية وبخاصة منها التاريخ والعلوم السياسية على امتداد فترة عمله كقائم بأعمال السلك الديبلوماسي، وهي المعطيات الواردة في تقارير ديبلوماسية عدة وقد رصدت أهم المجريات السياسية والاقتصادية والثقافية العالمية والإقليمية. وأما الشطر الثاني فهو عبارة عن تقديم للأرشيفات التي توثق لجوانب ابداعه الأدبي والشعري، ولنشاط منتدى”عش الحمامة” الثقافي. هكذا تعتبر مؤسسة ارشيف المغرب أن أرشيفات المفضل أفيلال تشكل بحق نافذة جديدة للإطلالة على أحوال مغرب القرن التاسع عشر وقراءة بعض تطوراته على أكثر من مستوى، وأن ما أنتجته أسرة أفيلال من وثائق بعده تعد ايضا مصدرا من مصادر جديدة، من شأن ما تحتويه من اشارات أن تكون بأثر في معرفة وفهم ما شهده المغرب من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في القرن العشرين.
تبقى الأرشيفات الخاصة عموما بمكانة متميزة وفق ما انتهت اليه توطئة حفل مؤسسة أرشيف المغرب لهذه السنة، باعتبارها عنصرا مكملا للأرشيف العمومي من حيث القيمة ولكونها مادة مصدرية هامة البحث التاريخي فضلا عن وقعها في رسم معالم الذاكرة الوطنية. وعليه، ما توجهت اليه مراكز الأرشيف في تقاطعها مع تطور آليات ونهج البحث التاريخي، على مستوى جمع شتات أرشيفات العائلات مع التنقيب عن وثائق قدماء العلماء، ليشمل الاهتمام فيما بعد أرشيفات مقاولات اقتصادية ومالية وأحزاب وشخصيات سياسية وكذا نقابات وجمعيات وصحافة ومهندسين وفوتوغرافيين وغيرهم.
وعي وورش انخرطت فيه وتجندت من أجله مؤسسة أرشيف المغرب منذ سنوات، على أساس ما هو منوط بها من مهام ووعيا بما يمكن أن تحتويه وتسهم به أرشيفات الخواص من مادة وثائقية، من شأنها إغناء أرصدتها الأرشيفية المحفوظة وكذا مصادر البحث التاريخي وتحقيق ما ينبغي من تكامل. فضلا عما تمثله من مادة تاريخية شاهدة على أحداث وتطورات، ولكونها ايضا وختاما رافدا من روافد هوية وذاكرة ومشترك المغرب الجمعي الرمزي.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث