تازة بريس
مولاي التهامي بهطاط
في أرشيف التلفزيون الفرنسي، هناك مشهد عرض قبل سنوات، يظهر فيه أول رئيس للغابون المستقل، وهو يقدم “فروض الطاعة” بشكل مهين أمام الرئيس دوغول. أمر طبيعي ومتوقع من السيد“غابريال ليون امبا” الذي كان يرفض الاستقلال عن فرنسا أصلا، ويدافع عن فكرة تحويل الغابون إلى مقاطعة فرنسية “ما وراء البحار”، وهو ما رفضه دوغول نفسه، بعدما وصل إلى قناعة مفادها، ضرورة منح استقلالات صورية للمستعمرات السابقة، مع الاستمرار في السيطرة على كل شيء فيها، خاصة الاقتصاد والثروات الطبيعية، وهو ما لازال مستمرا إلى الآن. إن من يتابع المسار السياسي لهذا الرجل، يكتشف دون عناء-إذاً- لماذا كانت فرنسا تدعمه، بل حركت جيوشها لإعادته إلى منصبه عندما تمت الإطاحة به سنة 1964.
بالمقابل، مشهد مناقض تماما تناقلته وسائل الإعلام الدولية بداية الشهر الجاري، وباهتمام شديد، على هامش زيارة الرئيس ماكرون للكونغو الديموقراطية، حيث فوجئ الجميع بالرئيس الكونغولي فليكس تشيسيكيدي خلال المؤتمر الصحفي المشترك، وهو يمد أصبعه نحو الرئيس الفرنسي قائلا: “هذا أيضا يجب أن يتغير في طريقة التعاون بين فرنسا -وأوروبا عامة- والكونغو الديموقراطية.. أنظروا إلينا بطريقة أخرى. باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات..”. وكان هذا ردا على سؤال حول الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الكونغو، طرحته بأسلوب مستفز، مراسلة وكالة الأنباء الفرنسية. والمثير هنا هو حركة “مد الأصبع” التي لم يختلف اثنان حول تفسيرها وقراءة أبعادها.. لأنها تشير أولا، إلى تغير العقليات في إفريقيا “الغربية”، التي لم تعد تعتبر نفسها مجرد مقاطعات أو حدائق خلفية للمستعمر السابق، وثانيا لتغير موازين القوى، التي جعلت فرنسا تتحول إلى دولة “عادية” يمكن انتقادها وتحديها، وإلى خيار ضمن خيارات كثيرة متاحة.
ثم إن هناك مشهد آخر من الأرشيف يمكن استحضاره بالمناسبة، جاء فيه، على لسان أحد رجال المخابرات الفرنسيين السابقين، أن جهازه كان يعرض على الرئيس دوغول، بين الفينة والأخرى، أسماء زعماء أفارقة يشكلون خطرا على مصالح فرنسا، ويقترح الجهاز “تحييدهم” عبر تصفيتهم جسديا، وأضاف أن صمت الجنرال كان يعتبر موافقة صريحة، وهذا ناهيك عن عشرات الانقلابات والمحاولات الانقلابية التي نفذها أو أطرها على الأقل -مرتزقة فرنسيون أبرزهم بوب دينار- فضلا عن الحروب الأهلية التي أثارتها فرنسا، وعمليات التطهير العرقي التي دعمتها كما حدث في رواندا وإفريقيا الوسطى مثلا. ليست هذه مقارنة بين دوغول وماكرون، لأن المقارنة أصلا ممتنعة لأسباب شخصية وتاريخية وموضوعية، لكنها ضرورية لتفسير حجم الرفض الذي أصبحت فرنسا تقابل به في “إفريقيا الفرنسية”، والذي تأكد بوضوح خلال “الجولة” الأخيرة التي لم تتجاوز يومين، حيث لم يجد الرئيس الفرنسي في استقباله سوى البرود واللامبالاة في الدول الأربع التي زارها.
إن هذه المقدمة الطويلة، تقودنا إلى نتيجتين: الأولى، أن أحد أهم أسباب تراجع الحضور الفرنسي التقليدي في إفريقيا الغربية، إضافة إلى تراكمات الماضي، يتمثل في ظهور لاعبين جددا على الساحة، يقدمون عروضا “أفضل”، ولا يجرون خلفهم نفس الماضي الدموي لفرنسا، ولا نفس مستوى شرهها وجشعها. والثانية، ظهور نخب إفريقية جديدة ترى في نفسها القدرة على استثمار مقدرات بلدانها دون الحاجة لدفع “جزية” غير مبررة للمحتل السابق، الذي استبدل وحداته العسكرية بشركاته العابرة للقارات التي لم تتوقف طيلة عقود عن مص دماء الأفارقة دون رحمة. إن هذا الوضع الجديد، هو ما يفسر- ولو جزئيا- الأزمة الحالية- وغير المسبوقة- بين المغرب وفرنسا، حيث يتفق كثير من المحللين والباحثين، وضمنهم“ألان جويي” المدير السابق للإدارة العامة للأمن الخارجي (DGSE)، على أن المغرب نجح في مزاحمة فرنسا في معاقلها التقليدية في إفريقيا الغربية، وأنه اخترق فعلا قطاعات حيوية كالنقل الجوي والتأمين والأبناك والاتصالات.. في معظم دول هذه المنطقة الجغرافية.
بل أكثر من ذلك، يرى هؤلاء أن هذا الاختراق هو نتيجة استراتيجية مضبوطة وليس مجرد مصادفة، لأن المغرب اختار الرهان على البعد الإفريقي، بعد تأكده من استحالة الرهان على البعد المغاربي، في ظل القطيعة التامة مع الجزائر، وانحدار العلاقات مع تونس إلى ما يشبه القطيعة، فضلا عن غرق ليبيا في حروبها الأهلية. وأكاد أجزم بأن متابعة تحليلات هؤلاء الأكاديميين أجدى من محاولة قراءة ما بين سطور تصريحات السياسيين التي تكون عادة مغرقة في “لغة الخشب”، ولا أدل على ذلك من سرعة رد المغرب “الرسمي” على كلام الرئيس ماكرون خلال إعلانه “استراتيجيته الإفريقية”، حيث صرح مصدر -رفض الكشف عن هويته- بأن العلاقات المغربية- الفرنسية، عكس ما قاله ماكرون، “ليست ودية ولا جيدة”، وهو أيضا ما يفسر لامبالاة الرباط بالزيارة التي يبدو وكأن الرئيس الفرنسي “يتسولها”، حيث لا تتوقف وسائل الإعلام الفرنسية عن تحديد مواعيد “مائعة” لها.
نفس هؤلاء الأكاديميين يؤكدون أن ميل ماكرون -الواضح- للجزائر، ربما بسبب علاقته الشخصية “المميزة” مع الرئيس تبون، وأيضا بسبب “الغاز”، قد تكون له تبعات غير محسوبة، لأنهم يتوقعون ولادة “نظام عالمي جديد” متعدد الأقطاب، بعد انتهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، تكون فيه الصين -إضافة إلى دول أخرى-لاعبا رئيسيا، وفي الجزائر تحديدا، التي يعتبرها الرئيس الفرنسي-حاليا على الأقل- حِصان الرهان في المنطقة المغاربية. على أن أهم ما يتوقف عنده هؤلاء المحللون، هو أن فرنسا استفاقت -متأخرة ربما- على انقلاب موازين القوة لصالح المغرب الذي نوع شراكاته، خاصة مع الولايات المتحدة وإسبانيا، وبالتالي فقضية الصحراء لم تعد ورقة في يد فرنسا تستعملها للضغط والابتزاز، علما أن 38 شركة عملاقة مدرجة في مؤشر “كاك 40” لها حضور قوي جدا في المغرب، بمعنى أن ورقة الاستثمارات الفرنسية أصبحت في يد الرباط، وليس باريس. فإلى أين ستصير الأمور؟ هناك وجهتا نظر، المستقبل وحده يمكنه تأكيد أو نفي إحداهما. فهناك من يرى أن الأزمة الحالية شبيهة بسابقاتها، وإن كانت أكثر حدة، وبالتالي ستعود المياه إلى مجاريها قريبا، وستطوى صفحة الخلاف. وهناك من يرى أن العلاقات بين البلدين لن تعود إلى سابق عهدها، بل إن خطوطها ستتحرك لتعكس المتغيرات الداخلية والخارجية المتلاحقة، التي ستعوض فيها الندية -ولو الجزئية- التبعية -التي كانت كلية-. وفي انتظار رؤية “الهلال” أو “الدخان الأبيض” نختم بما تتداوله بعض الأوساط الفرنسية، حول غياب الكفاءة الديبلوماسية لدى الدائرة الضيقة للرئيس ماكرون، الذي لا يستمع لأحد أصلا، ويتخذ قراراته بشكل انفرادي.. وهو ما يفسر السقطات المتوالية لفرنسا في أكثر من مكان وملف دولي.. ومعنى هذا باختصار، أن الأمر لا يتعلق بالتعامل مع مؤسسة بل مع مزاجية شخصية..