تازة بريس
عبد السلام انويكًة
انتقل الى جوار ربه أمس الخميس 9 يناير الجاري بالرباط، الموسيقار والملحن المغربي وذاكرة الأغنية المغربية وأحد صانعي مجدها وفترتها الذهبية، محمد بن عبد السلام عن عمر ناهز 94 سنة بعد معاناة مع المرض. ولعل فقيد المغرب والجيل الذهبي للأغنية المغربية كلمة وصوتا وأداء وطربا وهيبة وقيمة ورسالة وحسا فنيا راقيا، هو من مواليد مدينة سلا ومن أعمدة الفن الغنائي المغربي من مقال الأستاذ والموسيقار احمد البيضاوي. وبقدر ما كان بمسار فني رفيع غني بالعطاء والبذل والابداع الفني والتراكم لعقود من الزمن، بقدر ما كان يحمل قيد حياته لقب“سيد الأغنية المغربية الزجلية”. وهو الذي وقع على حوالي 250 عملا موسيقيا أداها فنانون كبار من قبيل إسماعيل أحمد وعبد الوهاب الدكالي ونعيمة سميح وبهيجة إدريس ومحمد الإدريسي وغيرهم. كما تولى قيادة جوق المنوعات للإذاعة المغربية، فضلا عن مشاركاته في برامج إذاعية عدة رافعة تركت بصمات خالدة في ذاكرة المستمعين وذاكرة الإذاعة الوطنية، من قبيل برنامج “للأذن ذاكرة” وبرنامج ”سمر”.
فقيد المغرب والأغنية المغربية الأصيلة من مواليد مطلع ثلاثينات القرن الماضي ولج عالم الموسيقى والغناء وهو ما يزال طفلا سنة 1940، بحسب معطيات كتاب “للإذاعة المغربية.. أعلام” للاعلامي الاذاعي محمد الغيداني، حيث كان ضمن أفراد الجوق الذي أسسه معلم الأجيال الأستاذ أحمد زنيبر، عازف آلة الكمان الماهر وكان الجوق يضم عددا من الفنانين، الذين تألقوا فيما بعد، من قبيل عازف العود وصاحب المعزوفات المتميزة عمر الطنطاوي، وعازف القانون صالح الشرقي وعازف الكمان المتمرس محمد سمريس، وغيرهم من المطربين والمنشدين وحفظة طرب الآلة والأغاني الشرقية. هذا هو الفضاء الموسيقي الذي ترعرع فيه بن نعبد السلام، وتعلم العزف على آلتي العود والكمان فضلا عن آلات أخرى. بعد مرحلة التكوين عاد إلى مدينة سلا، وأسس جوق ”الاتحاد السلاوي”، الذي قدم من خلاله حفلات عديدة في مختلف المدن المغربية في عهد الحماية الفرنسية. وكانت أول أغنية لحنها تحمل عنوان ”يا لخاطف عقلي” سنة 1952 من كلمات الفنان محمد حسن الجندي، كما سجل أول معزوفة سنة 1952 سماها ” بوادر”. هذا قبل التحاقه بالجوق العصري لدار الإذاعة بالرباط سنة 1952، والذي ظل يشتغل فيه إلى حدود سنة 1954، السنة التي ترأس فيها الراحل أحمد البيضاوي هذا الجوق، الذي كان يضم أسماء وازنة في العزف والأداء، من بينها الأساتذة أحمد الشجعي والمعطي البيضاوي وعبد النبي الجراري والمعطي بلقاسم وعبد الرحيم السقاط، وعبد القادر الراشدي .. الخ. هذا قبل تكوين جوق مواز للجوق العصري بدار الإذاعة بالرباط، أطلق عليه اسم ”جوق المتنوعات”، وحيث أسندت رئاسته للفنان محمد بن عبد السلام رحمه الله، الى حين تعيين الدكتور المهدي المنجرة مديرا لدار الإذاعة سنة 1959، حيث تم إدماج الجوقين في جوق واحد أطلق عليه اسم ”الجوق الوطني”، وانتدب لرئاسته الأستاذ أحمد البيضاوي، وأما محمد بنعبد السلام فقد عين رئيسا لجوق مدينة ”مكناس” الذي أنتج معه أجمل الأغاني والمنوعات. ويسجل أنه مع الفقيد، اكتشفت العديد من الأصوات المغربية الجميلة، تلحينه للعديد من الأغاني الناجحة مثل أغنية ”الظروف” لعبد الهادي بلخياط، التي أثارت ما أثارت من جدل في سبعينات القرن الماضي، وكذلك رائعة ”السنارة”، كما ساند عبد الوهاب الدكالي في بداياته الفنية، بالعديد من الروائع منها ”يا لغادي فالطوموبيل” التي كتب كلماتها حمادي التونسي سنة 1958 وأغنية ”مول الخال”، التي كتبها عبد الأحد إبراهيم سنة 1959، واغنية ”أنا مخاصمك”، و”سيد القاضي”رفقة بهيجة إدريس، وأغنية ”بلا عداوة ما تكون محبة” وغيرها كثير.
ويسجل له أيضا ما ساهم به فنيا في شهرة الفنان إسماعيل أحمد من خلال تلحينه رائعة ”سولت عليك العود والناي”، والفنانة نعيمة سميح من خلال أغنية ”البحارة” سنة 1973، ولمحمد الإدريسي ولغيثة بنعبد السلام وللمعطي بلقاسم، ومطربين ومطربات غير مغاربة في مقدمتهم الفنانة الكبيرة ”علية ” بأغنية ”أنا من أنا” للشاعر اللبناني إليا أبو ماضي، كما لحن العديد من القطع الوطنية والدينية والعاطفية والقومية مثل ” المجد العربي” بمناسبة الانتصار في حرب أكتوبر سنة 1973، سجلت في مصر بمشاركة كبار الفنانين، هاني شاكر ومحمد رشدي وغيثة بنعبد السلام والمجموعة الصوتية المصرية، و”القنطرة” غناء محمد فويتح، ومحمد المزكلدي وأحمد البورزكي، وقصيدة ”صوت الأحرار”شعر الزعيم علال الفاسي.. الخ. ولعل من جملة ما كان يتميز به الفنان محمد بن عبد السلام، صراحته عند إبداء آرائه إذ لم يكن يخاف لومة لائم. هكذا على امتداد أزيد من نصف قرن، كان الفقيد بعطاء مستمر تمكن من خلاله من رسم بصماته الفنية على الأغنية المغربية،التي منحها كل ما اكتسبه من خبرة ميدانية، مستفيدا من تفاعلاته وعمله مع أمهر العازفين والملحنين والزجالين، بحيث منحه تعلقه باللهجة المغربية ومختلف الأهازيج الوطنية، لقب سيد الأغنية المغربية الزجلية دون منازع، ما يجعل من إبداعاته الفنية المفردة التي أغنت الفن المغربي الأصيل، شهادة على ما كان عليه من موهبة فنية عبقرية ونبوغ فضلا عن روح وطنية..