تازة بريس
عبد السلام انويكًة
سواء تعلق الأمر بهويتها واحالاتها وبعدها الإنساني أو الطبيعي، كل حديث عن الكهوف والمغارات هو حديث عن تراث بقدر ما يعكس خصوصية معينة وامتدادا في الزمن والمكان، بقدر ما يخص بصمات حياة ودلالات عدة ومتداخلة بخلفية رمزية فضلا عن تسميات وغيرها. ولعل كل جهة ومدينة من مدن وجهات العالم ومنها مدن وجهات المغرب، تعتز بما لديها من تراث وما تتفرد به عبره من عمق حضاري ومجالي بيئي. علما أن ما هو تراث عموما يعد جزء مما هو ثقافي / ذاكرة، وعليه ما ينبغي من حماية لكون فقدانه أمر لا يقدر بثمن، وعيا أيضا بأن الانسان ومعه الطبيعة شهدا تطورات عبر الزمن، وهي التي لا يمكن تلمسها إلا عبر ما هناك من أثر شاهد بشري كان أم طبيعي.
ولعل الكهوف والمغارات اشكال تضاريسية تعود لملايين السنين، وقد نحتت بفعل عوامل تخص بنية المنطقة الجيولوجية ذاتها، حيث طبقات بتركيب صخري معين مع سمك بشقوق عدة، فضلا عن قابلية ذوبان قرب سطح الأرض. وفي هذا الاطار ما تتوفر عليه تازة من كهوف ومغارات وبعدد كبير وتفرد بناء ومناظر يجعلها تتصدر مناطق العالم، ويسجل أن من اشهر كهوف ومغارات تازة التي تدخل ضمن الاشكال الكارسية (نسبة لإقليم كارست في يوغوسلافيا سابقا) حيث مناطق الجير الرطب، نجد مغارة افريواطو ومغارة الشعرة ومغارة شيكر وغيرهما من كنوز الإقليم وتراثه الطبيعي المتفرد. وبحسب ما هناك من تقارير مهتمين استغواريين مغاربة وأجانب، تعد مغارة “فريواطو” أشهر مغارات تازة وافريقيا، بل أكبر مغارة في العالم من حيث شكلها وفضائها وتركيبها الجيولوجي، فضلا عن مسالك باطنها ومدخلها وفوهتها، وقد تم حصر امتدادها ونهايتها في حدود 2080 متر بل تم بلوغ نهاية امتدادها من قبل استغواري الجمعية المغربية للاستغوار بتازة، ولهذا كل حديث عن عدم العثور على نقطة النهاية بهذه المغارة غير صحيح. وكل حديث عن قصص الإنسان القديم وتطور الحياة بالمنطقة في علاقة بهذه المغارة غير صحيح ايضا، بحيث ليست فيها أية نقوش صخرية ولا بقايا أثرية تعود لفترات ما قبل التاريخ والتي يمكن أن تكون موضوع دراسة باحثين مختصين.
يذكر أن “فريواطو” اسم أمازيغي مركب يعني “كهف الريح”، نسبة لصوت ريح يأتي من فتحة المغارة ويحدث نوعاً من الهدير داخله. ويرتبط هذا الاسم بقصص واساطير هي في مجملها خيالية لا تنطبق على واقع الأشياء والأحداث، اللهم ما تحمله من معاني بإحالات تروم نوعا من العلاقة بين هذه المغارة ومحيطها البشري والثقافي. وعن التسمية بعيون اسطورية، وردت في عمل ببعد سينمائي / سيناريو لاحد أبناء تازة، امحمد العلوي الباهي رحمه الله، والذي من جملة ما أشار اليه من باب الاثارة فقط حول هذه المغارة في كتيب له بعنوان “املشيل ويطو”، أن المغارة تحمل اسم فتاة تدعى “ايطو” وهو إسم ذو جذور أمازيغية، أن يطو هذه في الرواية المحلية، هي ابنة أحد زعماء القبيلة بجبال الأطلس المتوسط، وأنها كانت راعية للغنم، وأنها أصيبت بمرض عضال ألزمها الفراش ولم تجد علاجا، لكن والدها علم من بعض حكماء القبيلة أنها لن تشفى إلا إذا تناولت عسلا مهجورا، وهكذا شاع الخبر بالمنطقة حتى بلغ نبأ الفتاة لشاب راعي للغنم – من ناحية امليشيل دائما بحسب الأسطورة، فقرر مساعدتها والبحث عن العسل المهجور إلى أن اهتدى إلى فوهة كبيرة تؤدي إلى “مغارة فريواطو”، فكان أول من اكتشفها ووسط اندهاشه وانبهاره وخوفه مما يرى أبى إلا أن يساعد الفتاة، فواصل بحثه حيث عثر على” العسل المهجور” وأقفل عائدا إلى القبيلة حيث أعطى ايطو كمية منه فشفيت. وأنه على اثر ما بذله هذا الأخير لانقاد حياة يطو، نشأت قصة حب بينها وبينه وأحست أنها مدينة له بحياتها، فعلم الجميع بقصة حبها حيث منعها والدها من مغادرة البيت، وأمر بإلقاء ذلك الشاب من فوهة المغارة إلى أسفلها، وعندما سمعت إيطو بالخبر لم تتمالك نفسها ففرت من البيت وقررت بدورها إلقاء نفسها من فوهة المغارة فداء لحبيبها. والأسطورة تقول أن هذين العشيقين لم يموتا وانهما حاولا الخروج من المغارة دون التفكير في العودة إلى القبيلة. بالمشي في سراديبها المظلمة مستعملين شموعا من شهد النحل ليضيء طريقهما للخروج، وعند وصولهما إلى منطقة تدعى “املشيل” بكيا كثيرا حتى تكونت من دموعهما بحيرة “ايسلي” و”اتسليت” الشهيرة. هذا ما جاء في هذه الرواية التي لا تمت للواقع بصلة. هكذا ما يعتقد حول اصل اسم فريواطو، وهذا ما يتقد من ربط بين اسم المغارة وهذه القصة الأسطورية، علما أن كلمة افريواطو مركبة من كلمتين امازيغيتين ” إيفري” تعني المغارة أو الكهف و “واطو” تعني الريح.
مغارة فريواطو هذه والواقعة بجنوب إقليم تازة، هي واحدة من أقدم وأعمق المغارات المكتشفة في شمال أفريقيا، تقع بمنطقة جبلية تحديدا جماعة باب بودير، تم اكتشافها مطلع ثلاثينات القرن الماضي تحديدا سنة 1931 من قبل استغواريين مهتمين فرنسيين كانوا مقيمين بتازة. مغارة تكوينات كلسية متفردة تشكلت عبر ملايين السنين، تضم أزيد من ثلاثمائة درج للوصول إلى أعماقها، مما يجعلها من أعمق المغارات في المغرب. ولا شك أن السكان المحليين بجوار المغارة، كانوا على علم بها من خلال فوهتها في الأعلى والتي لم يكن يتم الاقتراب اليها خوفا من السقوط، قبل الاكتشاف العملي والتوثيق البحثي الاستكشافي الأولي للمغارة لاحقا من قبل الاستغواري الفرنسي نوربيرت كاستريت سنة 1934. مكتشف المغارة هذا قد يكون اكتشف ليس الفوهة من الأعلى التي بعرض حوالي 45 متر، بل مدخلا صغيرا جانبيا سمح له بالدخول واكتشاف بنيتها ومشاهدها وتكويناتها، تحديدا ما هناك من صواعد ونوازل فضلا عن قاعات ومجاري مياه وكائنات وغيرها. مع أهمية الإشارة هنا الى أنه منذ هذا التاريخ تم وضع سلالم حديدية للنزول الى عمق المغارة، قبل ما حصل من تهيئة خلال سبعينات القرن الماضي، من خلال بناء أدراج إسمنتية ودعائم حديدية جانبية مع عارضات خشبية لتجاوز الممرات والبرك المائية.
هكذا كانت تازة ومحيطها وجهة لمغامربن واستكشافيين لمسالك باطن الأرض، التي خلفتها أنشطة تفاعلات كميائية عبر ملايين السنين. وبفضل هؤلاء وغيرهم لاحقا سواء خلال فترة الحماية أو بعد استقلال البلاد، ارتبطت المدينة وجوارها بأنشطة الاستغوار التي كانت منطلقها ومكان بداياتها بالمغرب، خلال العقود الأولى لفترة الحماية الفرنسية على البلاد، عبر اسهامات مستكشفين باحثين استغواريين اهتموا بالحياة الاحيائية وما هو مياه وكائنات حية وتكوينات ذات علاقة بعالم الأعماق. وعليه بسجل أن الاستغوار المغربي ولد ونشأ بتازة، بحيث في سنة 1931 كان أول نزول لمغارة افريواطو ضمن مبادرات بكثير من الخطورة والمغامرة من خلال الاعتماد على حبال عادية فقط بحسب افادة الأرشيف، وهي المبادرة التي كان من ورائها خمسية استغواريين فرنسيين مقيمين بتازة، هم “biache” و “buskhowetsky” و”paille” و”groubé” ثم “laxi”.، هذا الأخير الذي كان رئيس الاشغال العمومية بتازة وعليه سميت احدى اجمل قاعات مغارة افريواطو باسمه. ويسجل أنه بعد عمل هذا الفريق الاستكشافي، جرت عمليات أخرى لاحقا صوب أعماق المغارة ابتداء من مطلع سنة 1934. سياق من المفيد فيه الإشارة بناء على ما هناك من أرشيف، الى أن “paille” الذي كان رئيسا لجمعية المبادرة بتازة، هو من نادى على”Norbert castret” وهو أحد الاستغواريين الفرنسيين الشهيرين آنذاك، من اجل رحلة استكشافية رفقة زوجته صوب المنطقة لمدة شهرا ونصف. وهي التي انتهت بتقرير له حول ما بلغه من استكشاف شمل حوالي أربعين مغارة بجبال الأطلس المتوسط، مركزا على مغارة شيكر المفتوحة على علو 1342 متر، وكذا على مغارة افريواطو الذي جعلها موضوع بحث عندما بلغ اسفل مدخلها على عمق 146 متر، وكان من جملة ما لاحظه وأشار اليه في تقريره وجود تيار هو هوائي / ريحي بارد قادم من الأعماق.
ولعل مغارة فريواطو هذه التحفة الطبيعية التي شكلت ولا تزال عنوانا حقيقيا لأنشطة الاستغوار بالمغرب، تتوفر على فوهة أو فتحة من الأعلى، بعرض يصل لحوالي خمسة وأربعين مترا، وعمق بحوالي مائة وستة وأربعين مترا. فوهة ظلت مفتوحة عبر آلاف السنين بعيدا عن أية تدخلات بشرية، وحتى مدخل المغارة الحالي ليس سوى فتحة طبيعية جانبية، تحقيق عبرها الولوج والنزول الى عمق أول بعد المدخل. وهو الذي تعرف عند الباحثين والاستغواريين، بالبئر الأول أو البئر العظيم في مغارة فريواطو. هذا دون أي اختراق لعمق المغارة، بحيث لم يتم تجاوز مسافة المائتي متر الأولى من المغارة ولأول مرة، سوى مع تجربة نوربير كاستري الفرنسي عام 1934. وتعد مغارة افريواطو هذه المعلمة الطبيعية المتفردة الأهم والأجمل وطنيا وافريقيا، فهي بتكوينات ومكونات وتشكيلات تجعلها بجمالية ذات طبيعة كونية، فضلا عن قيمة مضافة احيائية علمية خاصة. علما أنها في الأصل عبارة عن مجرى مائي عميق وقديم يعود لملايين السنين، ازداد هذا المجرى عمقا وانتقل الى ما يعرف بمغارة شيكًر المجاورة، ضمن سياق جيولوجي وتطوري ارتبط ببنية المجال ككل. وبحسب معطيات الجمعية المغربية للاستغوار التي تأسست منذ أزيد من عقدين من الزمن، والتي يعود لها فضل جملة أعمال تعريفية وتواصلية واشعاعية واستكشافية، هناك باحثون ومستكشفون يجتهدون ليس فقط لمزيد من المعرفة العلمية الجيولوجية، حول هذا المركب المغاراتي الأوسع والأهم بالمغرب وافريقيا والعالم. بل لبلوغ نقطة تلاقي باطني بين مغارتين جارتين غير متباعدين، هما افريواطو وشيكًر. واللتين يتوقع أن يكون بينهما مسلك وخيط رابط من شأنه السماح بمزيد من البحث والولوجية. خاصة وأنه عند وضع تقابل ومقارنة بين تصميم المغارتين، يظهر أنهما متقاربتين جدا وأن الفرق بينهما يكمن فقط في العلو بين الأولى والثانية. وكانت المحاولات الأولى لتهيئة المغارتين التي تعود لفترة الحماية الفرنسية على المغرب، قد شملت وضع سلالم حديدية لا تزال معالمها حاضرة لحد الآن خاصة بمغارة شيكًر. أما التهيئة الثانية التي شملت مغارة افريواطو، فقد تمت خلال سبعينيات القرن الماضي. حيث تم وضع سلسلة دروج من الاسمنت ودعائم حديدية جانبية وعارضات خشبية، سمحت بتجاوز ممرات وبرك مائية باطنية. وقبل حوالي العقد من الزمن، وفي بادرة أولى من نوعها تم إعداد تصميم تهيئة خاص بالمجال المحيط بمغارة افريواطو، تكلفت به الوكالة الحضرية لتازة عبر أطرها المتخصصة، بحيث أنجزت دراسات علمية ووثائق من طراز رفيع في هذا المجال، بقيمة انمائية عالية في أفق تنمية المنطقة سياحيا وتفعيل ما هناك من موارد ايكولوجية، من اجل ما ينبغي من استثمارات وطنية وأجنبية.
هكذا يرتب الجنوب الجبلي لإقليم تازة، على مستوى منطقة باب بودير، عين خباب، رأس الماء، أدمام، صميعة، ازراردة … من بين أهم مواقع المغرب الطبيعية المؤهلة لممارسة رياضة الاستغوار. وهنا جدير بالاشارة لنقطتين أساسيتين، أولا كون عدد المغارات التي تم اكتشافها لحد الآن بهذا المجال بلغ حوالي ثلاثمائة مغارة، منها مائة وعشرين مغارة مصنفة ومرتبة منذ الفترة الاستعمارية، ومنها من هي بشهرة محلية ودولية كمغارة افريواطو وشيكر والشعرة ذات القيمة الاستغوارية العالية. وثانيا كون الفعل الجمعوي الاستغواري المحلي من خلال الجمعية المغربية للاستغوار، لا يزال ورشه الاستكشافي مستمرا على صعيد المنطقة. وعيا بما هناك من تكوينات مغاراتية على مستوى القسم الشمالي من إقليم تازة، تحديدا منطقة تايناست ومنطقة كهف الغار ومنطقة الكًوزات … من أجل استكشافها وابراز خصوصياتها، لتوسيع وعاء العرض المغارتي الداعم لرهان سياحة الاقليم الجبلية. وتراهن الجمعية المغربية للاستغوار من أجل أفق سياحي محلي، على ما هو وظيفي عملي وشراكات مع من يهمه الشأن، من قبيل وزارة السياحة وجهة فاس مكناس، وجماعات محلية، ومركز سينمائي مغربي، ودوائر تنمية ومؤسسات اعلامية وطنية ودولية وغيرها. وهذه الجمعية بحكم حصيلة وتراكمات عملها الاستكشافي وفعلها الميداني لسنوات وسنوات، بقدر ما لديها من مقترحات بقدر ما تتوفر على وثائق رافعة لموارد الإقليم الاستغوارية، من قبيل صور نادرة وأشرطة أخدت داخل مغارات بأعماق متباينة ومسافات في باطن الأرض. تخص مشاهد ساحرة تعكس عظمة خالق وعظمة خلق، وهو ما يمكن عرضه ضمن لقاءات ومواعد محلية وطنية ودولية. من قبيل تنظيم ملتقى دولي للاستغوار والاستغواريين بالمغرب، في أفق قراءات علمية للامكانات المتوفرة في هذا المجال، وتدارس سبل التهيئة والاستثمار والتسويق والاشهار ضمن رؤية جهوية تشاركية. يذكر ختاما أنه بعد سلسلة أعمال اعلامية مرئية أثارت ما أثارت من عناية واهتمام وتتبع وطني ودولي واسع، خاصة منها برنامج مغارة وألف مغارة بالمغرب وبرنامج أمودو. تبلورت منذ فترة فكرة أهمية إحداث وكالة أسفار متخصصة في الاستغوار بتازة، علما أن إحداث هذه المنصة في أول تجربة لها بالمغرب بقدر ما هي عليه كفكرة وأفق واستشراف وتطلع ايجابي قابل للتنفيذ، بقدر ما من شأنها دعم ما هو منشود من ورش تازة السياحي الواعد .
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث