تازة بريس
عبد السلام انويكًة
كانت ولا تزال سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بجدل معبر في الوسط العلمي البحثي الأكاديمي وكذا الحقل الدبلوماسي منذ نشأة الدولة، وعليه ليس سهلا إبداء الرأي حول ما هو تاريخي سياسي اقتصادي وعلائق ذات صلة. اللهم أهل الشأن من دارسين باحثين مؤرخين ممن هم بتتبع واهتمام وقراءات وأرشيف ومعرفة شافية. سياق جاء فيه مؤلف جامعي مؤسس موسوم ب ”العلاقات المغربية الأمريكية دراسة في التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب”، ذلك الذي صدر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط، في طبعة أولى للباحث الدكتور محمد بنهاشم أستاذ التاريخ المعاصر سابقا بكلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز بفاس.
إن تاريخ المغرب ارتبط عموما بدول أجنبية كانت لها مصالح فيه، وهو ما جعل تاريخه معها منذ أقدم العصور تاريخ مواجهات وأزمات وحروب. خاصة وأن موقعه الجغرافي وبعديه البحري الأطلسي والمتوسطي، جعلا منه نقطة تقاطع لمصالح أجنبية عدة وحلبة صراع بالنسبة لها. بهذه الاشارات التاريخية وغيرها استهل المؤلِّف تقديما مركبا لكتابه هذا، مشيرا الى أن الدول الأروبية عموما سعت منذ مطلع العصر الحديث لاستعمار المغرب وفرض الوصاية عليه، وهو ما ظهر وتأكد خلال الفترة المعاصرة، آخذا مشروعيته مما تم توقيعه معه من اتفاقيات فضلا عن مواثيق دولية وقعت بشأنه. وأن جهود المغرب ومحاولاته لإستغلال الوضع من اجل إطالة وتمديد عمر استقلاله باءت بالفشل، مضيفا أن فرنسا التي استعمرت الجزائر نهاية عشرينات القرن الماضي لم تكن مستعدة للتخلي عنه لفائدة أية قوة أخرى. وأنه رغم كل وسائلها لإبعاد خصومها عنه معتمدة أساليب ترغيب وترهيب، لم تستطع إلغاء الرهن أو الضمانة الدولية عليه. وهو الوضع الذي استغلته الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن مشروعية وجودها به، وهو ما بلغته وحصلت عليه بفعل معاهداتها معه والأوفاق الدولية الموقعة بشأنه.
ويسجل الباحث بنهاشم أنه رغم كل هذه التطورات والوقائع التاريخية والسياسية، لم تحظ العلاقات المغربية الأمريكية من قبل الباحثين والدارسين بنفس العناية والدراسة والبحث والتحليل، التي أحيطت بعلاقات المغرب مع دول أروبا. علما أن المغرب كان أول بلد اسلامي وعربي ربط علاقات مع الولايات المتحدة، لدرجة كادت أن تجعله طرفا في قضايا أمريكية، كما بالنسبة للحرب الأهلية والحرب الأمريكية الاسبانية حول جزيرة كوبا. هذا فضلا عن كونه كان أولا مجالا لتطبيق مبدأين من أهم مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك هما مبدأ مونرو والباب المفتوح، وثانيا منطقة لأكبر إنزال في شمال افريقيا ضد دول المحور، قبل أن يتحول الى واجهة لحرب باردة ضد المد الشيوعي في الشمال الافريقي، وحليف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، مع أهمية الاشارة هنا الى أن سنة 1786 كانت هي تاريخ توقيع أول معاهدة صداقة وسلم بين البلدين.
في مؤلف”العلاقات المغربية الأمريكية دراسة في التمثيل الدبلوماسي” الذي يعد عملا بحثيا مؤسسا رفيع المستوى، تتبع الأستاذ بنهاشم مسار بدايات الوجود الأمريكي في حوض الأبيض المتوسط، منذ أن كانت الولايات المتحدة مستعمرة بريطانية، الى غاية عقدها لاتفاقية سلم مع المغرب في يونيو من عام 1786 . مع تركيز له على زمن السلطان محمد بن عبد الله الذي فتح فيه المجال لدخول الأمريكيين للموانئ المغربية، وعلى فترة المولى سليمان التي شهدت تعيين أول قنصل أمريكي بالمغرب. ولم يغفل الحديث حول طبيعة العلاقات الأمريكية مع باقي بلدان الشمال الافريقي، على أساس أن العلاقات المغربية الأمريكية لا يمكن فهمها دون وضعها في اطارها المجالي المتوسطي والشمال الافريقي. مشيرا الى أن نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر، شكلت بداية حقيقية لسياسة خارجية أمريكية كان أول مبادئها مبدأ مونرو. وهي الفترة التي تزامنت مع بداية التحرشات الأروبية بالمغرب، والتي ظهر فيها الدور الأمريكي بمظهر سلبي رغم اتفاقية الصداقة الموقعة بين الجانبين، ورغم أن المغرب كان بدور ايجابي فيما يتعلق بقضايا أمريكية كالحرب الأهلية فيها. بحيث كانت سفن الكنفدراليين تؤسر عند دخولها لميناء طنجة، الاجراء الذي كاد أن يجعل المغرب طرفا في قضية أمريكية داخلية. ومن جملة الاشارات التاريخية والسياسية التي وردت في المؤلف، أنه بعد منتصف القرن التاسع عشر تبين أن الولايات المتحدة ليست سوى جزء من الحلف الأروبي. في زمن اصبح فيه المغرب يعيش تبعات ومشاكل ما منحه من امتيازات للدول الأجنبية، خاصة ما يتعلق بالتمثيل الدبلوماسي والقضاء القنصلي والحمايات القنصلية.
سياق عام جعل المؤلِّف يخصص جانبا هاما منه لمقاربة قضايا التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب تحديدا اشكالية الحماية القنصلية، علما أن السلطان الحسن الأول طلب رسميا حماية أمريكية، تلك التي رفضت بحجة أن الولايات المتحدة ملتزمة بمبدأ مونرو، وبدعوى ايضا عدم رغبتها في الزج بنفسها ضمن تعقيدات السياسة الأروبية. واذا كانت الولايات المتحدة- يضيف صاحب المؤلف- قد حصلت على شرعية وجودها بالمغرب عبر اتفاقية 1786 والتي تم تجديدها عام 1836، فإن ما زاد من توسيع هذا الحق هو ما عقد من أوفاق ومؤتمرات دولية بشأن المغرب، مثل ما حصل من خلال المجلس الصحي أو ما يعرف بمجمع العافية، ثم فنارة رأس سبارطيل بطنجة ومؤتمري مدريد والجزيرة الخضراء. وقد جاء في المؤلف أن العلاقات المغربية الأمريكية لم تكن ببعد سياسي فقط، بل بتوجهات اقتصادية منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر. من خلال ما أقيم من مشاريع اقتصادية في هذا الاطار، من قبل بعض الأمريكيين بقصد تنشيط العلاقات التجارية بين البلدين. وأن وجهة النظر الأمريكية والألمانية المتقاربة حول المغرب، كانت وراء تحالفهما وانسجامهما في اللعبة الدولية آنذاك. ويضيف الأستاذ بنهاشم أنه بعد وفاة السلطان الحسن الأول وانتقال العرش لابنه المولى عبد العزيز، دخل المغرب مرحلة ضعف شديد طبعته الفتن وتقاسمه تراجع اقتصادي وتهافت استعماري. فترة كانت – يقول – بنكهة خاصة لدى الأمريكان، بتحوله الى موضوع انتخابي ووجهة باهتمام أمريكي. من خلال مثلا دعوته للمشاركة في المعرض الدولي بسان لوي بالولايات المتحدة الأمريكية، وتناول حياة السلطان عبد العزيز من قبل اليوميات الصحفية الأمريكية.
ولم يغفل الأستاذ بنهاشم الحديث حول العلاقات المغربية الأمريكية، عن الموقف الأمريكي من عقد الحماية الفرنسية على المغرب في عهد السلطان عبد الحفيظ. مؤكدا أنه موقف أكد فعلا أن الولايات المتحدة، كانت الدولة الوحيدة التي بقيت حجر عثرة في طريق فرنسا. بعدما تم ابعاد القوى المنافسة لها كما ألمانيا وايطاليا وابريطانيا، وبعد ما قامت بعملية “بيع من الباطن” لاسبانيا بمنحها محمية داخل محمية بشمال المغرب. مشيرا الى أن الولايات المتحدة لم تعترف بحماية فرنسا على البلاد ولم توقع أي ميثاق معها بشأنه، محتمية بضمان مصالحها ومصالح مواطنيها ومحمييها بالمغرب وبشرط الدولة ذات الأفضلية. بل ورغم عودة فرنسا لطرح الموضوع من جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، رفضت الولايات المتحدة كل محاولة بدعوى أن المسألة تحتاج لموافقة الكونكًريس، بحيث ظل الأمر على ما هو عليه معلقا الى غاية استقلال المغرب عام 1956.
وكان تأصيل العلاقات المغربية الأمريكية وابراز أهمية مساهمة كل طرف فيها، مع نوع من التركيز على قضايا الانشغال الأهم لدى الجانبين، أو التي كانت مثار خلاف بينهما في حدود ما توفر من معلومة ووثائق تاريخية. هو ما خلص اليه الباحث في عمله البحثي هذا. مؤكدا أنه لازالت هناك مساحة اشتغال هامة حول قضايا هي في حاجة للتنقيب والبحث والدراسة والتمحيص، كما الشأن بالنسبة للمشروع الاقتصادي الأمريكي بالمغرب والمسألة اليهودية في العلاقات، والسياسة المتوسطية للولايات المتحدة الأمريكية والموقف الأمريكي من المقاومة المغربية. خاصة محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي أفادت بعض الوثائق حوله، عن مشاركة فيلق أمريكي الى جانب الفرنسيين خلال حرب الريف. اضافة الى دور القواعد الأمريكية في ترسيخ الوجود الأمريكي بالمغرب، وعلاقة الأمريكيين بالحركة الوطنية المغربية بعد 1944، التي اعتمدها الأمريكان لمزاحمة الوجود الفرنسي بالمغرب. لينتهي الباحث من رحلة بحث في العلاقات المغربية الأمريكية، الى أن ما تمت الإشارة اليه من قضايا بحث عالقة هو ما ينبغي أن يتوجه اليه عمل باحثين حرفيين. وأما بالنسبة اليه فقد نفض الغبار عن الأرشيف المتعلق بها، كاشفا عن بعض أوجه العلاقات المغربية الأمريكية من خلال التمثيل الدبلوماسي. والمؤلف الذي اعتمد ببليوغرافيا متباينة جمعت بين عشرات المراجع الأجنبية والعربية، وبين مخطوطات محفظات بمآت الوثائق ذات القيمة الدبلوماسية في الفترة ما بين 1879 – 1912. يبقى كتاب ”العلاقات المغربية الأمريكية دراسة في التمثيل الدبلوماسي الأمريكي بالمغرب” للأستاذ محمد بنهاشم مرجعا بقدر كبير من الأهمية العلمية والقيمة المضافة المنهجية، ذلك أنه منهجا ومثنا ومقاربة وحصيلة علمية وتوثيقا وترتيبا وتحليلا، يشكل اضافة نوعية غير مسبوقة للمكتبة الجامعية المغربية، وبخاصة لفائدة جناحها المتعلق بحقل تاريخ المغرب وعلاقاته الخارجية خلال فترة دقيقة من زمنه المعاصر، تلك التي توزعت تطوراتها بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث