تازة بريس
روح خاصة تطبع كتابة تاريخ القرب أو ما يعرف بالتاريخ المحلي ومنه زمن المدن المغربية، تلك التي يستمدها هذا التاريخ من مجريات وقائع وتطورات. وبقدر ما تاريخ تازة هو تاريخ موقع بقدم وتأثير وتأثر باعتباره نقطة وصل لكل من الطبيعي والبشري معا وقْع فيه، بقدر ما الباحث والمهتم بتاريخ هذا الموقع يجد نفسه ويجعله اهتمامه مُقتحِما لتفاعلات غير منتهية، بصدى يتردد بعيدا في مجالات متأثرة بما تم فرزه عبر مسارات على منحى تاريخ البلاد العام. ولعل الحديث عن ممر تازة لا يستقيم دون رجوع لِما حام حول علاقته بمارين عبره منذ القدم، وعليه فإن تناول تاريخه يرتبط بمحورية موقع لكل قادم إليه ومتوجه منه. وكانت تازة بجغرافيتها قد انتصبت سداً منيعاً في وجه كل محاولات تطويع، مع مكون قبلي جعلها بردوده في علاقته بالسلطة تنتزي في مجالها دون جعل بناء كيانٍ شأناً لها، كما قبائل “صنهاجة- مصمودة- بنو مرين..” اللواتي كان لها سبق بناء أحلاف وإعلاء عصبية أمام الكل.
إشارات بأهمية تاريخية هامة استهل بها د. حسن الغرايب الباحث في تاريخ المغرب الوسيط، تقديماً لكتاب”تازة صفحات من تاريخ مدينة” الصادر عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر. مؤلف توجه بعنايته لتاريخ مدينة عتيقة خلال العصرين الوسيط والحديث، وقد جاء في ثلاثمائة واثنتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط. الكتاب يقدم تازة المدينة في عز حدثها التاريخي ضمن مسار دول مغرب هذه الفترة، مستحضراً المجال باعتباره عنصراً موجهاً للتاريخ وصانعاً لتدافعات غير منتهية في امتداد المدينة خلال فترات ازدهار وتقلصه إلى حدود أسوارها في فترات عدم استقرار. ولعل تناول منهجي لموضوع بهذا القدر من التشابك، جعل من تتالي فصول الكتاب أمراً في غاية المتعة أولا، وسبر غور تراث محلي بذكاء منقب ثانياً، ليتبين أن الانتقال مما هو خاص إلى ما هو مشترك تاريخي، بإعطائه بعده العميق عبر نبش بيوغرافيات أعلام المدينة وأحوازها، يجعل من إعادة كتابة تاريخ مدن بلادنا أمراً ملحاً لإماطة اللثام عما هو خفي من حوادث ذات صدى عبر فترات- يقول الأستاذ الغ رايب-.
وهذا الكتاب حول تاريخ تازة خلال مغرب العصر الوسيط والحديث، هو لحظة إنصات لزمن مدينة زاخرة بوقائع ومعالم وتفاعلات، تاريخها هو تاريخ إنسانية إنسان وتنوع وتفاعل وتكامل الوعي به كهوية وتراث وثقافة يقتضي استثماره كموارد زمن ورأسمال رمزي في بناء حاضر المدينة ومستقبلها. ولا شك أن مدن المغرب العتيقة هذه الذخيرة الهامة لا تزال بحاجة لأبحاث ودراسات لِما هناك من أوجه لم تدون بعد، وعلى أهمية ما تراكم في هذا الإطار فتاريخ كثير منها لا يزال مجهولاً وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالعصرين الوسيط والحديث ناهيك عن القديم. وبقدر ما لايزال ماضي عدد من المدن بمعرفة غير شافية كما بالنسبة إلى تازة، بقدر ما كانت بأدوار هامة عدة ومتداخلة جمعت بين ما هو سياسي واقتصادي وفكري خلال هذه الفترة الجديرة بالبحث والتمحيص والكشف عن عدد من التجليات.
وكانت بداية علاقة صاحب الكتاب وانفتاحه على زمن تازة وعمقها التاريخي متأثرة بمن كان من أبناء المدينة منشغلاً بهذا المجال، بداية انفتاح له تعود لتسعينات القرن الماضي مع ما رافق ذلك من سؤال وتفاعل وجمع مادة. مع ما تأسس عند الكاتب من قناعة حول أهمية البحث والتأليف وفق وعي بما هو محلي، تماشياً مع ما توجه إليه عدد من المهتمين والباحثين لتسجيل محاسن وخواص وتميز مدن نشأتهم، بذكرهم لإرثها وتراثها ومآثرها وفضلها وعلماءها وأعلامها اعتزازاً منهم بموطنهم وذاكرتهم وهويتهم قربهم. ولعل الذي يفقه قليلاً في معنى التاريخ وعلاقته بالمدن من خلال مواقعها، – يقول صاحب الكتاب- يجد نفسه بدهشة وهو يتأمل مدينة عالقة بجبل الأطلس المتوسط، مطلة من شرفتها على ممر شهير يصل شرق البلاد بغربها، حيث جوانب هامة ومتشعبة من زمن المغرب. تلك هي تازة التي توحي بعمر زمني ممتد وقدم تاريخي وعظمة معالم وعلامات، بقدر ما البحث فيها عمل وأمر مشوق بقدر ما للموضع إنسان وخواص وتفاعلات شكلت مجتمعة روح مكان. وقد تأسس كتاب”تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” على ببليوغرافيا غنية باللغتين العربية والفرنسية بحوالي أربعمائة مصد.ر ومرجع، مع تأكيد حول أصول المعلومة التاريخية بالنسبة لمدينة وموقع ضارب في القدم، على ما يمكن أن تسهم به الدراسات الأركيولوجية التي لا يزال وقعها محدودا جداً، باستثناء ما حصل حول المدينة من تنقيت لـ”كومباردو” الضابط في الشؤون الأهلية الفرنسية على عهد الحماية، ناهيك عما هو مسجل من غياب وثائق الأسر ودفاتر الأحباس والمخطوطات الخاصة بالمنطقة وغيرها.
ويأتي كتاب “تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” خلال العصرين الوسيط والحديث، تجاوباً مع نداء نبيل كان قد تقدم به عبد الهادي التازي رحمه الله الذي قال يوما، أن تازة ليست اسما لمدينة فقط بل رباط جهاد تحطمت على أبوابه سائر المناورات، ومركز عِلْمٍ أسهم في صنع رجال فكر وسياسيين ودبلوماسيين، فضلاً عما كانت عليه المدينة من تاريخ حافل بمواقف شريفة في سبيل حماية وحدة البلاد الروحية المتجلية في وحدة المذهب والعقيدة، مشيراً إلى أن على أبناء تازة تقع مسؤولية كتابة تاريخ مدينتهم، مؤكداً أن عليهم وحدهم تقع تبعة التعريف بهذه المدينة الماسة. وقد جاء زمن دولة بني مرين مَفْصلاً في كتاب “تازة.. صفحات من تاريخ مدينة” تحقيبياً، لِما طبع هذه الفترة من إشعاع وما ميز هذه الحاضرة العتيقة خلالها من بروز، وعليه جاء الكتاب موزعاً بين حدثين مؤسسين الأول منهما يتعلق بنشأة دولة الأدارسة وبيعة مولاي إدريس الأول، أما الثاني فقد ارتبط ببداية الحداثة المغربية نهاية القرن الثامن عشر على عهد السلطان محمد بن عبد الله. وقد تقاسمت الكتاب محاور أربعة متكاملة زمناً وتيمة ونهجاً، خصص الأول منها لمِا هو فزيائي شمل موضع المدينة وجوارها، أما الثاني فتناول بعض وقائع المنطقة وتطوراتها خلال العصر الوسيط والحديث منذ الأدارسة مروراً بالمرابطين والموحدين والمرنيين والوطاسيين والسعديين ثم العلويين. أما ثالث محاور هذا المؤلف فقد توجه لرصد عمارةٍ وتعميرٍ تاريخي وسياقات ذات صلة عبر فرز وتمييز بين ما هو ديني وعلمي واجتماعي ودفاعي، ليستحضر آخر محاور الكتاب بعض أعلام تازة ممن كانوا بشأن في أمر دين وفقه وتصوف ومجتمع وسياسة.
وقد اجتهد الكتاب لإبراز بعض جوانب تاريخ تازة خلال العصرين الوسيط والحديث، بناء على ما توفر من مرتكز ووثائق في غياب تأليف خاص بالمدينة خلال هذه الفترة. وحتى وإن كان فهو في حكم المجهول كمؤلَّف “تقريب المفازة إلى تاريخ تازة” لعلي الجزنائي. مما قد يكون وراء ضياع كثير من أخبار المدينة ووقائعها خلال هذه الفترة، وأن ما تبقى ليس سوى شتات إشارات هنا وهناك بمصادر تسمح إلى حدما بفكرة حول مكانة تازة في تاريخ البلاد. وكان تثمين ما هو رمزي من مقاصد هذا الكتاب الذي يدخل ضمن ما اتجهت إليه عناية باحثين ومهتمين بعدد من حواضر البلاد، باعتباره مساراً وورشاً وظيفياً مفتوحاً تجاه ما هو محلي وإقليمي وجهوي كرهان ترابي. مع أهمية الإشارة إلى أن تازة هي بزمن مشرق ومجال وتاريخ فكري وعلمي وسياسي واجتماعي ودفاعي .. كذا بعمران وأعلام وعلماء وتجليات جمعت بين تميز ونبوغ عبر العصور، لايزال في حاجة ليس فقط لمزيد من البحث والتعريف بل أساساً لحسن تدبير وحكامة استثمار باعتباره رأسمالا رمزياً للمنطقة بجعل موارد الزمن في قلب نماء وتدبير مجال.
ويطرح كتاب “تازة .. صفحات من تاريخ مدينة”، سؤال درجة الوعي بتراث وتاريخ المدن المغربية العتيقة عموما ومنها تازة من حيث حمولتها الحضارية التي تجمع بين اتساع وامتداد وتفرد، وكذا سؤال درجة حماية وتأمين ما هو ذاكرة وهوية ضمن المحلي من الزمن المغربي، وما هو غنى وتنمية قائمة على عبق شواهد وتحف ماضي المدن المغربية. وكما هو حال عدد من مدن البلاد العتيقة باتت المكتبة التاريخية المحلية بتازة منتعشة بفضل جهد ثلة من أبنائها إلى حين مزيد من البحث والدراسة والاضافة والإغناء. ويبقى أن لتاريخ مدن المغرب العتيقة فرص سانحة وله أخرى أيضاً تخص كتابته، وكونه مقيد بالكتابة هو تأكيد لهذا وذاك، خاصة عندما تلتقي حقيقة الكتابة بحقيقة وقائع وشواهد ويلتقي ما هو تاريخ بما هو وجود ووجدان، كما بالنسبة لكتاب “تازة.. صفحات من تاريخ مدينة. وهو ما يظهر من خلال صورة غلاف له اختير له قلب أجمل تحف تازة، ثريا جامعها الأعظم المتفردة، حيث عبقرية صانع عن مغرب العصر الوسيط وحيث روعة إبداعع وجمال هندسة وزخرفة.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث