تازة بريس

تغول الفساد بالمغرب .. و الوضع لا يحتمل المزيد من الفساد في المغرب ..

-

تازة بريس

بعكس ما قد توحي به واقعة اعتقال البرلماني محمد مبديع (الوزير السابق، والقيادي في حزب الحركة الشعبية)، والتحقيق معه بعد اتهامه بالتورط في ملفات فساد مالي وتبديد أموال عمومية، فإن الأمر لا ينبغي أن يفهم منه، مع ذلك، أنه إشارة لنهاية آفة الفساد المستشري في المغرب. فقد تعود المغاربة، كلما اشتدت الأزمة وضاقت سبل الحل أو الانفراج، على لجوء الدولة إلى “رأس كبيرة” ونحرها من الوريد إلى الوريد على مذبح أخلاقيات المسؤولية والمحاسبة. لا يمكن، بأي حال من الأحوال، قبول «المتابعة الموسمية» لبعض المسؤولين بشبهة الفساد المالي أو الأخلاقي، واستعراض سجل الاتهام على جميع الحوامل الإعلامية، فقط لإطفاء غضب القلقين من حقيقة الأزمة الاجتماعية، ولصرف انتباه المواطنين الغاضبين من استفحال تدهور القدرة الشرائية أمام اشتداد غلاء الأسعار. لا ينبغي القبول على وجه الإطلاق بتحويل «الفساد» إلى مجرد فرقعة إعلامية تنتهي أسباب إطلاقها بعودة الغضب إلى غمده، وبانصراف المواطنين إلى «بؤسهم اليومي»، ما دامت الدولة تعمل من أجل محاربة الفساد والمفسدين، وتضرب بيد من حديد على ناهبي المال العام…على العكس من الاستعراض، إن ما جرى ينبغي أن يكون فاتحة حقيقية لعهد جديد من المحاسبة الصارمة، وربطها بالمسؤولية، وخاتمه معلنة لعهد التسيب الذي كان فيه الفاسدون يعيثون في الأرض فسادا، تماما كما لو كان المغرب بلا دستور وبلا تاريخ  وبلا أخلاق، وبلا مؤسسات رقابية أو قانونية.

لقد وضعت قضية البرلماني مبديع “الحاكم المطلق في الفقيه بنصالح” المغرب مرة أخرى أمام فرصة لا ينبغي أن تتبدد ضمن اعتبارات غير قانونية أو توافقات «سياسية» تسيء لسمعة القضاء، ولصورة المغرب في المنتظم الدولي الذي تسعى بعض أروقته المؤثرة، وخاصة داخل البرلمان الأوروبي، إلى تشويه بلادنا بغاية الابتزاز وإرغام المغرب على العودة إلى «صف التبعية الكولونيالية» والاكتفاء بممارسة المناولة لصالح «ماما فرنسا». نعم لدينا كل العوامل التي بإمكان المغاربة أن يفخروا بها، سواء من جهة التوسع النسبي لمجال الحريات الفردية والجماعية، أو من جهة ما تحقق من نهوض اقتصادي وصناعي متدرج، أو من جهة إرساء شروط الاستقرار. لكن كل ذلك لا يمنع من الإقرار بأننا نعيش بمرارة وبؤس امتداد أخطبوط الفساد، وتجذره في العقليات والممارسات، خاصة على مستوى إدارة الشأن العام. بل الأنكى من ذلك أن عناصر من ذلك الأخطبوط صارت ترسخ أيديها وأرجلها في عمق دائرة السلطة، في أبعادها المحلية والجهوية، وعلى صعيد مجلسي النواب والمستشارين، والوزارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، مسنودين بأحزاب لا «كبدة» لديها على الوطن والمواطنين، ولا عقيدة قيم أخلاقية راسخة في المجتمع أو في التاريخ، مستفيدين في ذلك من تواطؤ الإدارة والمراقبين، وذلك في ظل عقلية السند السياسي والحصانة البرلمانية و”عظم خوك آ البخاري”. لقد تمدد هذا الأخطبوط، لا ليمعن فقط في إرباك القيم الأخلاقية التي نسعى كمغاربة إلى ترسيخها سياسيا وإداريا، وفي تلويث النخب، بل كذلك في “الصعود” بالمغرب إلى الهاوية، أي إلى مراتب الصفوة الأولى من المجتمعات الفاسدة. وسنعطي بعض الأمثلة على هذا الصعود المأساوي، وطبعا لن نستشهد ببلدان مثل سالفادور أو الصومال أو غيرهما من الدول الطافحة في الفساد المالي والسياسي، لأننا على يقين أن هذه الدول لا تنتمي- وما ينبغي لها- لأفقنا المغربي، بل مع الأسف إن لنا أفقا آخر يضعنا ضمن المجتمعات الأربعة الأوائل في سلم الفساد على الصعيد الدولي:

أول هذه الدول أوغندا، التي يتورط فيها حاليا ثلثا أعضاء الحكومة في جرائم الفساد،  وثانيها هي البيرو، حيث يتابع الرئيس بيدرو كاستيلو بالتورط في جرائم الفساد، تماما كما هو حال 5 رؤساء سابقين هناك.  ثم يأتي لبنان الذي يتآكل بفعل الطائفية المذهبية والانقسام السياسي لتتضاعف أزماته بفعل انتشار الفساد وتقلباته، وتقاطع شبكاته مع مافيا العمل السياسي الماسكة بزمام البلاد. وفي المرتبة الرابعة يأتي المغرب (يا للعار) والحال أن المغرب قطع أشواطا في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد منذ سنة 2015، كما وضع قاعدة تربوية لتعميم ثقافة حقوق الإنسان، والشفافية، ومكافحة الرشوة والفساد، فضلا عن إرساء آلية لرصد ظاهرة الفساد في المغرب، وتعزيز مسؤولية السلطات العمومية المشاركة في التنفيذ، من خلال إجراءات، من بينها جمع المعطيات حول موضوع الفساد في القطاعين الإداري والخاص، ووضع لوحة بيانية لإظهار التقدم المحرز وأوْجُه القصور في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية.

فهل تُشَرِّف المغرب والمغاربة هذه الرتبة الوضيعة وضاعة الفاسدين والمختلسين وناهبي المال العام والمزورين والنصابين واللصوص وقطاع الطرق وجميع أنواع المافيات؟ ثم هناك الأسئلة الأكثر إلحاحا: كيف يمكن للمغرب أن يستعيد الصدارة في رتب الشرف”، وليس الفساد؟ هل يقبل المغرب أن يضيع الفرصة مرة أخرى للقطع مع الفساد والمفسدين وناهبي المال العام؟ إن أولى الطرق للقطع مع مرحلة الفساد وإنهائها، في تقديرنا، هي إعادة تجديد مساطر القضاء لتصبح الأحكام في مستوى ما يقترف من جرائم على مستوى الفساد المالي والإداري. فمعلوم أن زمن العدالة الخاص بجرائم الأموال في المغرب بطيء جدا، ومسالك اتخاذ القرار وتداول الملفات بطيئة ومعقدة، حيث بوسع هذا المسلك أن يمتد على طول عقد من الزمن. والسؤال هنا هو: كيف يعقل أن يدان المفسدون ليودعوا في السجن، فيما تظل الأموال المنهوبة تحلق في الهواء بأجنحة متعدد الأنساب والرواد؟ نازلة محمد مبديع تساءل مجتمعنا في وقتنا الراهن؛ فهل نجعلها فرصة لملاحقة جميع الفاسدين، أيا كانت مواقعهم أو أنسابهم أو ثرواتهم، ونتدارك الزمن المفقود، أم أن زمن الفساد والفساد سيظل قدرا لا محيد عنه يطاردنا إلى ما لا نهاية؟ إذا لم تتسلح بلادنا بالإرادة الحقيقية لمحاربة الفساد ووضع حد لتغوله، فإن واقعة اعتقال مبديع ستكون مجرد «كاميرا خفية» لا صلة لها لا بالحقيقة ولا بالواقع، وهذا ما لا نتمناه لبلادنا لأن الوضع لا يحتمل  المزيد من الفساد، أما إذا كان الفساد يُواجَه بالمقالب فتلك مصيبة أخرى.

عن جريدة انفاس بريس

إلغاء الاشتراك من التحديثات