تازة بريس
عبد السلام انويكًة
قَدَرُ معالم تازة الأثرية أن تكون بما هي عليه من إهمال ولا مبالاة وتجاهل وعبث تدبير وسوء تقدير، وعلى ما هي عليه أيضا من محدودية وعي بتراث سلف اللهم ما يخص الواجهة من أجل واجهة لا غير كما هو غير خاف عن متتبع، وكأن امر موارد زمن المدينة هذه هي بلا معنى لشدة ما هناك من استخفاف وقلة تثمين وحضن واعتبار، خلافاً تماماً لِما هو عليه الأثر الانساني ورمزيته وقيمته في دول الغرب، لمِا يحضر هناك من تأطير قانون وعلم وإعلام كذا من تحسيس وتثمين وحماية وحسن استثمار، على قلته أحياناً ومحدودية نوعيته وضعف امتداده في الزمن، فضلا عما لمعالم التراث هناك أيضا من أهمية في نماء مجتمع ورخاء عيش وزياد ثروة فضلا عما هو مال واعمال وازدهار.
حول تراث المغرب المادي واللامادي وما هناك من تنوع متفرد وغنى في هذا المجال، وحول واقع حال هذا التراث وما ينبغي من درجة عناية وحماية واعتبار، ندرج بمختصر مفيد حالة وصورة من حالات وصور الأثري التاريخي، حالة تقتضي تأملا وسؤالا يخص شاهدا شامخا ضاربا في زمن تازة وشاهدا شهيرٍاً في المدينة ب”البستيون”، وهو حصْن سعدي نسبة لكيان سياسي حكم المغرب في الماضي(الدولة السعدية)، معلمة تاريخية توجد على ما توجد عليه من واقع هجمة وتخريب غير مسبوق، حصن تاريخي دفاعي طبعه وضعٍ كان بقلق شديد وحديث واسع لرأي عام منذ حوالي أربع سنوات، حول ما بات يهدد هذا الأثر الذي يعود للقرن العاشر الهجري، باعتباره واحداً من أعظم تحفِ عمران تازة العتيقٍ منذ قرون. حصن سعدي شامخ يبدو بحكم علوه من بعيد بلونه المميز وشكله وحجمه، حصن تاريخي ومعلمة مادية وذاكرة شاهدة على جانب من جوانب من تاريخ المدينة، هو الآن مهدد ببناءٍ غريب عليه وبجنبه وعلى كل محيطه في مكان اركيولوجي البناء فيه محرم بقوة القانون، بناء غريب عبارة عن خزان ماء ضخمٍ ملامس لهذا الحصن السعدي التاريخي، قد يكون بعواقب وخيمة على أركان وتوازن تحفة أثرية متفردة هي واحدة من أهم ما تفخر به المدينة، وقد بدأت هذه العواقب تظهر من خلال سلسلة تشققات باتت واضحة وفق ما سجله رأي عام متتبع.
حول حصن تازة التاريخي السعدي الذي يدخل ضمن مباني المغرب الأثرية، لن نتعرض لِما كان عليه من مَهمةٍ دفاعيةٍ ارتبطت بالمنطقة قبل قرون من الزمن، فقط أهمية الاشارة لِما طبع فترة حكم الدولة السعدية بالمغرب بداية العصر الحديث، من أطماع تركية في البلاد انطلاقاً من الجزائر وهو ما تطور الى احتلال أجزاء من شرقها آنذاك، في اطار توسيع النفوذ بشمال افريقيا ضمن صراع استعماري امبراطوري بحوض المتوسط الغربي. ولِما طبع موقع تازة المتحكم في ممر استراتيجي (ممر تازة) وما جعله بأهمية في الحد من هذه الأطماع التركية التي كانت تهدد أمنَ البلاد واستقرارها، وعليه تم بهذه المدينة تشييد حصن دفاعي منيع متفرد بها عُرِف ولا يزال بالحصن السعدي ثم ب ”البستيون” لاحقاً، وهو بناية أثرية شاهدة على وقائع تاريخية وتفاعلات وعلى أهمية ما كانت عليه تازة من أدوار أمنية دفاعية خلال مغربِ هذه الفترة.
وحصن تازة السعدي هو معلمة شامخة لصيقة بوجدان ساكنة المدينة وهويتها وذاكرتها، تم تشييدها زمن دولة السعديين في موقع مطل على منخفض ممتد شرقاً وفق انتقاء مجالي دقيق، وذلك من أجل أدوار إعداد واستعداد ورقابة وتعبئة لهذا الحصن بخلفيات تذكرها مصادر تاريخية عدة. بناية دفاعية ذات شكل مربع بارتفاع يصل عشرين مترا وبطول في جوانبها يبلغ ستة وعشرون مترا، مع برج منيع بباب يفتح على واجهتها الغربية، فضلاً عن غرف خاصة بإطلاق نيران مدافع انذاك اضافة لمخازن مؤونة جند وعتاد ومستودعات ماء وغيرها. و”حصن تازة السعدي” هذا الذي كان يحتوي على خط مدفعي محاط ببرجين صغيرين، يعد إرثا عمرانياً دفاعياً وواحداً من أهم منشآت المدينة التاريخية كذا نموذجاً يعكس ما شهدته عمارة دولة السعديين الدفاعية من عناية. ولعل تحصينات تازة التي لم يكن باستطاعتها ايقاف توغل الجيوش التركية ذات التجهيز الجيد بالمدفعية آنذاك، هو ما دفع السلطان أحمد المنصور السعدي لتشييد حصن بها أكثر قوة وقدرة واستيعاباً لمدافع بخطوط أمامية، في مكان بانتقاء ترابي دقيق جعل “حصن تازة” بوضع منيع مساعد على القصف من جهة وفي حمايةٍ منه من جهة ثانية.
وبما أن حصن تازة السعدي هذه المعلمة الشاهدة على جانب من تجليات تاريخ المدينة الدفاعي، هي بمثابة فضاء أثري يجمع كل مواصفات مركب ثقافي مفتوح في الهواء الطلق بقيمة استتيقية متفردة. ووعياً بما تفتقر له المدينة من فضاءات ثقافية مفتوحة مؤثثة بما هو أثري مادي رافع وداعم للعروض، ووعياً برهان وحلم تازة السياحي المنشود منذ عقود في التنمية المحلية، وتنفيذاً لرسالة ملكية تقول بإمكانية وضع هذا الحصن تحت تصرف اللجنة المغربية للتاريخ العسكري، والتي من شأنها ترميمه وتخصيص اعتمادات لازمة لصيانته حفاظاً على طابعه التاريخي وتاهيله كفضاء ثقافي سياحي. وتطبيقا لظهير شريفٍ مُحدثٍ للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري رقم 1.99.266 والصادر في 3 ماي 2000، انعقد قبل حوالي سبعة عشرة سنة اجتماع في هذا الشأن بمقر عمالة تازة، حضرته هذه اللجنة المحدثة والحامية العسكرية بتازة والمندوبية الاقليمية للثقافة والجماعة الحضرية للمدينة، وكان محور اللقاء تمحيص مسألة تفويت هذا الحصن للجنة المغربية للتاريخ العسكري في أفق جعله بوضع أكثر حماية وتنمية وفائدة تنموية.
وعليه خلال دورة جماعية عادية صيف 2004 دعماً منه لرهان وأفق انعاش ما هو سياحي وثقافي واعادة تاهيل هذه المعلمة الاثرية ذات القيمة التاريخية، صادق مجلس جماعة تازة على تقسيم الرسم العقاري عدد (10892- ف) الى رسمين، وتخصيص جزء من هذا الرسم لهذا الحصن السعدي مساحته 689 م2، ونقل ملكيته للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري ووضعه رهن تصرفها مع تولي هذه الاخيرة عمل صيانته واستغلاله لأهداف ثقافية وسياحية. إلا انه ومنذ ابرام الاتفاق وتحقيق تفويت هذه المعلمة الأثرية، ظل حال حصن تازة السعدي على ما هو عليه كما كان منذ قرون. فلا عمل تأهيل ولا مبادرة ترميم ولا شيء يثبت أن هذا الفضاء حصل به أمر جديد داعم تدبيري مثير للانتباه في هذا الشأن. كل ما هناك استمرارية مشهد يعكس ما كان ولا يزال عليه من لامبالاة وإهمال، شأنه في ذلك شأن محيطه الاركيولوجي بأكمله، اللهم باب حديدي تم وضعه لعزله نهائياً عن كل زائر وباحث ومهتم .. وهنا سؤال جدوى مبادرة بقدر ما هي بدون اجراءات داعمة للتنمية المحلية، بقدر ما زادت من تعميق تعثرٍ وتأخرٍ حاصلٍ في التنمية المحلية.
الآن بعد هذه احلام حدث تفويت هذه المعلمة الأثرية بتازة للَّجنة المغربية للتاريخ العسكري، يوجد حصن تازة السعدي هذه التحفة والذاكرة وجها لوجه مع ضرر طارئ مهددٍ لوجودها وأركانها ومكوناتها بسبب بناء ضخم ملامس ومشوه للمكان في شموليته، بناء خاص بخزان ماء ضخم غريب الشكل والصورة، أثار ما أثار حول قانونية اقامته في مكان أثري اركيولوجي محرم فيه البناء قطعاً بقوة القانون، وأثار ما أثار حول أين هي وزارة الثقافة ومسؤوليتها مما يحصل حماية للمباني الأثرية فضلا طبعا عن جماعة محلية ممثلة للساكنة، وحول أيضاً مدى احترام هذا الخزان المائي لقوانين التعمير الجاري بها العمل عندما يتعلق الأمر ببناء في مواقع بطبيعة أثرية رمزية أركيولوجية. عِلما أن حصن تازة السعدي الأثري مصنف وفق ظهائر ومراسيم منذ فترة الحماية، بل من المعالم الأساسية التي ارتكز عليه تصنيف تازة في شقها العتيق كتراث وطني، فضلا عما تحتويه التوجيهات والخطب الملكية السامية حول أهمية حماية التراث والمباني الأثرية والتحف الوطنية، لِما تعكسه وتحتويه من هوية ورمزية مغربية وذاكرة أصيلة جماعية.
ولعل من المفيد الاشارة الى أمرين هامين مادام اننا بصدد معلمة تاريخية وأثرية مِلكاً لكل المغاربة كتراث رمزي مشترك، أولاً ما ورد حول “حصن تازة السعدي” من قِبل مؤرخين معاصرين لحدث تشييده، منهم أبي فارس عبد العزيز الفشتالي صاحب مؤلف”مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا”. والذي أشار لِما ميز أعمال السلطان احمد المنصور الذهبي في العمارة الدفاعية من ضخامة وفخامة ومناعة وحصانة، ولِما افتتح به بداية حكمه من تشييد لحصون قل نضيرها في البلاد، ولِما أحيط به هذا البناء من خيرة أهل المعرفة بالتشييد من عرب وعجم، مؤكداً أن “حصن تازة السعدي” كان بالعناية والشكل والفخامة والمناعة نفسها. وثانياً كون السلطات الفرنسية أثناء فترة الحماية عندما أقدمت على بناء معسكر لها بجوار هذا الحصن وهو معسكر شهير محلياً ب”لاكروا”، تركت مسافة حوالي خمسين متراً بين هاذين المكونين في احترام تام لقيمته التراثية ولمساطر عمل التعمير في أماكن ذات طبيعة أثرية. عِلماً أن “حصن تازة السعدي” هو بموقع غير بعيد عن كيفان بلغماري التي شهدت أولى الدراسات الأركيولوجية خلال فترة الحماية، تلك التي انتهت الى حقائق علمية هامة تخص تاريخ المنطقة والمغرب القديم، إثر ما تم العثور عليه من أدلة ورسوم وبقايا مواد وعظام تعود لفترة ما قبل التاريخ لدرجة الحديث عما سمي بقرية نيوليتيكية بالمكان.
قليل فقط من كثير متشعب يخص حصن تازة السعدي وهو يئن تحت رحمة ربه ويستغيث، لِما هو عليه من هجمة في تحدِّ لقوانين عمل التعمير، ما قد يكون بأثر وخيم وطمسٍ لمَعْلمٍ شاهدٍ على عظمةِ تاريخ مدينةٍ وجبلٍ وسَلفٍ وأجيالٍ ووطنٍ، إن لم يتم إنقاد ما يمكن إنقاذه قبل فوات أوانٍ، ويطوي كل شيءٍ زمن ونِسيانْ وتذوب ذاكرة جَمعٍ وإنسانْ. بل الذي يسجل والحالة هذه هو استرجاع الجماعة الحضرية لتازة لهذه المعلمة الأثرية، التي كانت تحت تصرف اللجنة الخاصة بالتاريخ العسكري طيلة سبعة عشرة سنة. إنما السؤال الذي يطرح هو بأي تم استرجاع هذه البناية الأثرية من جديد، وهل كما خرج دخل كما يقال أم هناك أمور لابد من تسجيلها والاشارة اليها وتحميل المسؤولية في شأنها، علماً أن الجماعة المحلية تمثل الساكنة ورأيها العام ورهاناتها في حماية تراثها ومعالمها التاريخية، وتحقيق تنمية محلية تستمد قوتها وأساسها من المكون الأثري في هذا المجال. وعليه، على أي أساس تم استرجاع هذا الحصن بعد تفويته، وعلى أية خبرة اجرائية قانونية حصلت عملية الاسترجاع، علماً أن هذه البناية الأثرية التاريخية حاليا مهددة ببناء إسمنتي ضخم مقزز مشوه للمكان لا طعم ولا لون ولا رائحة ترابية له، بل لا محل له من الاعراب الترابي والقانوني والجمالي فقط ما بات مشوهاً لمجال ومثيراً لسؤال.
ولعل من باب توثيق وانصاف وارشيف، أهمية الاشارة الى أن ما تعرض له حصن تازة السعدي الأثري، من تشويه وهجوم واستخفاف وتطاول وقفز على قوانين منظمة ومساطر خاصة مؤطرة للمباني الأثرية، تم في حينه تشكيل تنسيقية اقليمية للدفاع عن المآثر التاريخية للمدينة من قِبل عدد من الغيورين، سطرت آنذاك برنامج اشتغال وتواصل وتعبئة وترافع منذ حوالي الأربع سنوات، فكانت أولى لقاءاتها بتاريخ 23/ 04/ 2018 بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بتازة، تفعيلا لما ينبغي من تحسيس ومواكبة وأنشطة احتجاجية دفاعا عن هذا البرج والحصن التاريخي، إثر استهدافه لتصفيته نهائيا من قِبل الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بتازة، عندما اقدمت على بناء خزان ضخم للماء محاد له وفي منطقة محرمة للبناء بقوة القانون، هذا فِي خرق سافر للقوانين والتدابير والاجراءات الجاري بها العمل والخاصة بالتعمير وحماية المآثر التاريخية.
بل كانت تنسيقية تازة للدفاع عن المآثر التاريخية، اطاراً لتعميق النقاش حول واقع هذه المعلمة الاثرية ومن خلالها كل ارث المدينة المادي التاريخي ، من خلاله ما حصل من زيارات ووقوف على وضع متردي لحصن تازة السعدي “البستيون” وعلى حجم وفضيحة ما يهدده من اضرار بسبب بناء غريب مشيد بجانبه.
بل استحضرت تنسيقية تازة هذه أيضا طيلة محطاتها منذ أربع سنوات، ما تحظى به المباني الأثرية من حماية تشريعية تنظيميا ومؤسساتيا، كذا ما على عاتق المجتمع المدني والاعلام من مسؤولية تاريخية في الدفاع عن ارث تازة وتأهيله. وعليه، اصدرت عدداً من البيانات بقدر ما ثمنت يقضة رأي عام محلي ومجتمع مدني صوب ما يستهدف هذا الحصن من تخريب غير قانوني، بقدر ما طالبت بإزالة خزان الماء المشيد بالتماس، وإدانة قرار تشييده كذا سلوك التحدي الصادر عن الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء بتازة، لما واصلت أشغال البناء رغم توصلها بأمر فوري لإيقاف الأشغال. فضلاً عن مطالبتها القائمين على الشأن القضائي بما ينبغي من مساءلة زجرية، ودعوتها المنتخبين بتحمل مسؤوليتهم تجاه ما يهدد تراث الساكنة الثقافي والطبيعي، كذا جميع الإطارات النقابية والحقوقية والهيئات السياسية والجمعوية المحلية وعموم المواطنين، لدعم كل اشكال النضال الى حين تحرير حصن تازة السعدي مما يهدد كيانه وهويته ورمزيته حفظا لشموخه وذاكرته.
مركز ابن بري للدراسات والابحاث وحماية التراث