تازة بريس
عبد الاله بسكًمار
لسنا في حاجة إلى تأكيد الدور المركزي والهام للمجتمع المدني، في تثمين الحفاظ على الذاكرة الجماعية للبلاد، بمختلف تعبيراتها وأشكالها المادية والرمزية .وضمن اهتمامات مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث، والذي وضع في أجندته تثمين النشاط العلمي في مجالي التراث المادي واللامادي لتازة، وتشجيع المبادرات الهادفة إلى التوظيف الأمثل لهذا التراث، تعزيزا للهوية الوطنية وتعميقا للخصوصية المغربية، التي تجلت عبر مراحل التاريخ والحاضر معا، ومن خلال أشكال ومظاهر وتعابير شتى أبرزها المجال العمراني والمآثر التاريخية، أي كل ماله علاقة بالرأسمال المادي والرمزي والذي بات جزء منه مهددا بفعل عوامل شتى أبرزها: زحف العمران الحديث واكتساح العقار لكل الفضاءات المفتوحة، دون مراعاة تصميميْ التهيئة والإنقاذ وكذا التصاميم التوجيهية وغياب تصورات شمولية لإدماج المآثر التاريخية في النسيج السياحي الجهوي والوطني.
وتبعا لكل ما سبق واستشعارا لمسؤولية المجتمع المدني، كشريك أساسي مع المؤسسات المعنية وكقوة اقتراحية معا، قام المركز في وقت سابق من هذه السنة بصياغة ورقة شاملة حول المعالم التاريخية والطبيعية بإقليم تازة، عبر تشخيص لواقعها الحالي مع اقتراح توصيات ومجالات التدخل والتثمين والإنقاذ وذلك في إطار الترافع القانوني، ضمن فعاليات الائتلاف المدني التازي وعبر خطوات منهجية تتميز بالكفاءة والإنتاجية والاستمرارية وتجاوز مسلكيات المجتمع المدني الكلاسيكي، المحكوم بإكراهات وحيثيات معروفة، وقد تم نشر الورقة إياها على نطاق واسع في الشبكة العنكبوتية، الشيء الذي يعتبر في ذاته خطوة هامة وأولية ستتلوها أخرى بحول الله، في المجالات القانونية والتوعوية والاجتماعية ثم الاقتصادية باعتبار الدور الوظيفي للمآثر التاريخية في تعزيز الأنشطة السياحية وخلق فرص التشغيل والاستثمار.
ووجب التذكير هنا بتثمين المركز لكل الإسهامات والجهات التي يلتقي معها في نفس الأهداف، وهو معبأ باستمرار لتفعيل المبادرات التي تتماشى وأجندة المركز والائتلاف، بما في ذلك أنشطة الحياة المدرسية والمؤسسات والإطارات الشبابية وخاصة أنشطة وبرامج المديرية الإقليمية للثقافة بتازة باعتبارها شريكا أساسيا للمجتمع المدني في هذا المجال .ضمن فعاليات شهر التراث وأيام تازة الثقافية التي نظمتها مديرية الثقافة بنفس المدينة، شهدت بعض معالم تازة التاريخية زيارة استطلاعية تثقيفية وفق ذات البرنامج يومه 9 ماي 2023 ويدخل نفس النشاط ضمن تعريف الناشئة التازية بجزء من الذاكرة المحلية الزاخرة بالمعالم والمحطات المتميزة في تاريخ المنطقة والبلاد ككل، وكان مقدم ومنشط هذه الجولة المعرفية الاستطلاعية الأستاذ الباحث عبد السلام انويكة عضو مركز ابن بري والائتلاف المدني التازي وصاحب العديد من المؤلفات التاريخية والتراثية حول تازة والأحواز .
انطلقت جولة التراث من ضريح أحد أعلام تازة الأفذاذ والموجود جنوب شرق المدار العتيق ويتعلق الأمر بإمام القراء المغاربة وصاحب منظومة الدرر اللوامع علي بن بري التازي التسولي (660- 730ه) وقدم الأستاذ انويكًة للحاضرين سيرة هذا العلم وما خلفه من مصنفات في القراءات والتوثيق والفقه وعلم العروض، وبعض هذه المصنفات ما زالت في عداد المخطوطات التي تنتظر التحقيق، كما تعرض الأستاذ انويكًة لمحطات سيرة هذا العلامة، وخاصة توليه تأديب ولي عهد السلطان أبي سعيد عثمان المريني وتقلده مهام الكتابة لدى نفس السلطان، بعد أن كان منتظما في سماط عدول تازة وموثقيها البارزين، وعرف عنه أيضا جودة الخط والبراعة في النظم والنثر، فضلا عن منظومته السابقة التي طارت شهرتها عبر العالم الإسلامي .انتقل الحاضرون بعد هذه الوقفة إلى موقع باب القبور الأثري والذي كان يعد إلى عهد الحماية البوابة الرئيسة لتازة العتيقة من جهة الجنوب وعبره دخل الجيش الفرنسي الاستعماري وقوات أفريقيا إلى تازة في 17 ماي 1914 وهو من أبواب تازة القديمة التي تعود إلى العصر المريني .
كانت المحطة الموالية باب الشريعة، غرب الموقع السابق وهو الباب الوحيد الذي و رد في المصادر القروسطية كالقرطاس وتاريخ العبر، وهنا قدم الأستاذ انويكًة تفاصيل تاريخية مهمة حول هذا الباب، ليتوجه الجميع نحو فضاء الذاكرة التاريخية بالمشور عبر زنقة الأندلس ودار المخزن، إذ تعرف التلاميذ على كل تلك المعالم وخاصة الفضاء إياه الذي كان في الأصل ماريستانا مرينيا ثم تحول إلى سجن احتضن زعماء الحركة الوطنية سنة 1930 وأخيرا إلى متحف وفضاء للذاكرة تابع للمندوبية السامية للمقاومة وأعضاء جيش التحرير . يشار إلى أن الزيارة إياها كان من المفترض أن تشمل أيضا المدرسة الحسنية المرينية، لكن وضعها الحالي الملتبس والناتج عن احتلالها غير المشروع واللاقانوني بل وإغلاقها أمام العموم من طرف إحدى جمعيات السماع، فوت على الحاضرين التملي بالمعمار الأندلسي المغربي الذي عرف تألقه خلال عصر صدر دولة بني مرين من خلال المساجد والمدارس والفنادق والزوايا أو ما كان يطلق عليه وقتذاك النزالات . وقد خلفت هذه الجولة التراثية صدى طيبا لدى الحاضرين سواء بين التلاميذ أو لدى موظفي إدارة الثقافة بتازة، على أن تستمر نفس المبادرات المنتجة والبناءة سواء عبر برامج المديرية أو من خلال مبادرات المجتمع المدني .
* رئيس مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث