تازة بريس
عبد السلام انويكًة
منذ بداية مغرب العصر الحديث وزاوية الهادي بن عيسى على مستوى عدد من مدن البلاد بوقع معبر مؤثث ممتد، نظراً لِِمِا كانت عليه من نفوذ روحي ومريدين. ولعل مؤسسها هذا عن القرن العاشر الهجري هو بغموض وروايات، لِِما طبع حياته وزمنه من وقائع وما ورد عن حفدته حول صراع بين زاويته والسلطان مولاي اسماعيل لمَا تكاثر مريدوها وألزِم شيخها على مغادرة مكناس، بحيث قيل أنه لما كان في طريقه لمنفاه كانت معه قربة كلما نفخ فيها وهو يسير كلما كان سلطان البلاد ينتفخ، وهو ما اضطره لطلب عودته فكان كلما اقترب عائداً تحسنت حالته.
والعيساوية كما هو غير خاف عن مهتمين باحثين، متفرعة عن الشاذلية والجزولية كغيرها من الصوفية المغربية، تقوم على وصية وأوراد وأحزاب وحضرة وليلة ثم موسم يبدأ إعداده أربعين يوماً قبل عيد المولد النبوي يوم تجمع بمكناس حجاً لقبر الشيخ، وكثيراً ما يقوم”المقدمين” بالمدن ذات الطوائف المنتمية بجمع تبرعات استعداداً لهذه الرحلة. وعند تجمعهم يوماً قبل المولد النبوي تنصب خيامهم غير بعيد عن ضريح مكناس، لتبدأ تجليات احتفاء وتراث وتصوف وأهازيج، قبل انطلاق حج وموكب بأعلام طوائف مع ما يتقاسم الحفل من عروض ومشاهد وتمثيل، هذا قبل تقديم هدايا لشيخهم بعد صلاة العصر وقبل إعلان بداية الموسم من قِبل أحد الحفدة.
وتعد قبيلة “مختار” غرب المغرب التي يعود أصل تسميتها لرواية ذات صلة بالهادي بن عيسى أكثر اعتناقاً للطريقة العيساوية، تلك التي بغرائبيتها وتمثلاتها وواقعيتها هي بحاجة لمزيد من تحليل وبحث بعيداً عن حكي ورواية وارث شعبي.، والذي كثيراً ما يزيد من تسطيح الظاهرة والتباسها بجعل ما فيها من تداخل بين دين وخرافةٍ وذهنيات وتصوف وتراث وكائِنٍ سائدٍ من عادات وتقاليد. وتذكر المصادر أن لأهل مكناس عناية خاصة بالشيخ الكامل باعتباره اعتقاد لا يبلى قشيبه مع الزمن، وأنهم جعلوه بموسم كبير يعقد كل عيد مولد نبوي تحضره طوائف سائر مناطق البلاد، دون الاشارة الى ما بات مخالفاً للطريقة لدى من يقول بالتبعية كسلوك وتجليات. ولعلها تجاوزات أثارت اهتمام السلطان المولى سليمان من خلال رسالة شهيرة له حول مواسم وبدع، ورد فيها ما يتعلق بعيساوة وما كانوا عليه من حماقة وجهالة ولهو محذراً من الاقبال عليها. وقد تميز عيساوة في موسمهم بمحاكاتهم لحيوانات مفترسة، حيث يجعل العيساوي من نفسه ذئباً يعوي مع لباس يحاكي به حلية ذئب بذنب ملتوي، ثم يدور على الناس طلباً للزيارة. ومنهم من يجعل نفسه جملاً فيرغو كرغاء الجمال ويجعل شيئاً بفمه يلوكه وريقه ينزل على صدره وعلى الأرض، ومنهم من يجعل نفسه سبعاً وغيره. والى جانب ما يسجل من سلوك غير منسجم هناك طوائف عيساوية يشهد لها بسلامة نهجها أينما كانت، بل فيها من فقهاء وعلماء واتقياء وزهاد وأهل خير وورع. ولعل من المفاهيم والتسميات التي تحكم الطريقة والتي لا تزال جارية هناك الشيخ والمقدم والقطب والسر، أضف الى ذلك ما يعرف به الهادي بن عيسى من “أحمر العين” و”شائب الدراع” و”فحل الفحول” و”ابن عيسى العربي.
وقد حظي موضوع التصوف وطرقه بعناية عدد من المستشرقين فكان ما كان من بحث وتأليف، علماً أن ما جاء به هؤلاء لا يعني أنه كان سليماً في مجمله. ولا شك أن الصوفية المغربية وزواياها تشكل حلقة هامة في مسار زمن البلاد الثقافي، تلك التي لا تزال بحاجة لانصات أوسع من قِبل دارسين، فإليها يعود فضل فقهاء وعلماء وحفظة وأهل ذكر وصلاح. ومن الزوايا الأقوى التي كانت بالمغرب الى غاية بداية القرن الماضي، نذكر التيجانية والدرقاوية والناصرية والقادرية والوزانية والكتانية والعيساوية، وعندما نتحدث عن هذه الأخيرة فإننا نتحدث عن ايقاعٍ وتعبيرٍ وأسلوب حركةٍ ورمزيةِ إشاراتٍ وقولٍ خاصٍ، حيث كل شيء يبدأ بطيئاً ليختمر ويتصاعد الى غاية حس بغيب روحي وفقدان توازن. وكانت العيساوية دوماً بحضن جعلها بما هي عليه من امتداد وتأثير وتجاوب وتأثيث متفرد يرتب أهم وأعمق وأجذب لون ايقاعي في المجتمع المغربي دون منازع لحد الآن، بل كانت العيساوية بنوع من امتيازات واحترام من خلال ظهائر سلطانية تخص توقير شيوخها ومريديها ومقراتها.
إطلالة فقط واشارات خاطفة حول زاوية الهادي بن عيسى دون إثارة ما هو محتوى وتاريخ وتفاعلات وأدوار نفسية واجتماعية وسياسية..، ودون تساؤلات تخص حساسية الموضوع اجتماعياً ثقافياً سياسياً وأمنياً، ارتأينا أنها بأهمية لتسليط بعض الضوء حول واحدة من أعرق طوائف المغرب العيساوية، يتعلق الأمر بالطائفة العيساوية التازية باعتبارها تراثاً رمزيا محليا بذاكرة هامة بناء على ما هناك من ارشيف، من باب تعريف وتنوير معتمدين على ما توفر من وثائق ورواية شفوية، بقدر ما هي بغنى كبير واشارات بقدر ما تثبت ما كان عليه عيساوة تازة من تميز ونشاط وقوة ومريدين، خاصة في وسط حرفيي المدينة الى جانب تهامة ودرقاوة.
ويستشف من تقرير “دومنثيري” الفرنسي الذي اتيحت له فرصة رصد تجليات احتفاء الطائفة العيساوية بتازة، من خلال تتبع عن قرب لطوافها السنوي الروحي بالمدينة العتيقة خلال فترة الحماية، وما ارتبط بهذا الطواف من تعبير ومشاهد وسلوك وتراث ممتد. كان ذلك ذات يوم بساحة مشور المدينة رفقة الباشا هاشم السملالي والقائد امحمد. وللاشارة فإن طواف عيساوة تازة لهذه الفترة كان بايقاع خاص مرتبط بصدى طبول وآلات غيطة، اضافة لِما هناك من اثارة مرافقة تعبيرية تخص فسيفساء أعلام الزاوية بألوان متباينة متمايلة، هذا رفقة جمعٍ واسعٍ من مريدين بأزياء خاصة وترتيب وتصفيف وبهاء بتأثير روحي ونفسي. ولعل المثير الغرائبي الذي ارتبط بهذا الموعد الروحي السنوي بتازة هو ما يُعرف ب”لَفْرِيسَة”، التي أثارت جدلاً واسعاً في صحافة هذه الفترة مما دفع بسلطات الحماية الى منعها نهائياُ بالمغرب منذ سنة ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين.
ومما ميز تقليد طواف عيساوة تازة السنوي ارتباطه بوقفة مشور المدينة، حيث كانت تحضر لحظة ما يُعرف ب”الفريسة”. ففي احدى طوافات السنوات الأولى لفترة الحماية على المغرب حضر باشا المدينة وذبح شاة ووضعها رهن اشارة من عُرفوا ب ”الفَرَّاسَة” عن الطائفة، وقد تسارع هؤلاء اليها محاولاً كل واحد منهم أخذ نصيبه من لحم وأحشاء وعظام وجلد..، هذا الى جانب ما كان يُقَدَّم لهم من قطع لحم من قِبل متتبعين ومتفرجين من أعلى سطوح بيوت مجاورة كما يتبين من خلال صور ارشيف. لحظة كانت تتبع برقصات عيساوية وتعبير يجمع بين حركةٍ وجسدٍ وأنغام واشارة وكلام على امتداد مسار الطواف. كل هذا وذاك رفقة عازفين ومجموعات منتظمة في صفوف جنباً الى جنب، وهم يرفعون أياديهم وينزلونها مشكلين هِلالاً ويسيرون مرة الى الأمام ومرة الى الخلف، مع قفز وتفاعل على ايقاع عيساوي تراثي خاص وفق خطوات منتظمة مع سيرهم وسير تغيرات وانتقالات نغمهم.
وفي خضم تفاعلهم الاحتفائي الروحي السنوي كان عيساوة تازة يرفعون أياديهم بحركات مباغثة عنيفة مع تحريك رؤوسهم، وكان موكبهم يضم صفاً ممن يضرب على الطبول من وراءه آخر ممن يعزف على الغيطة وهم راكبون على فرسان مدربة بسروج لامعة. هكذا كان يتم السير الى غاية بلوغ مقر الزاوية رفقة أعلام بألوان تحمل علامات وكتابات ونقوش ورموز وشعارات ذات تعبير خاص، ومن ألوان الأعلام التي تميز بها عيساوة تازة هناك الأخضر والأحمر، مع أهمية الاشارة الى أنها كانت مزينة بكرات نحاسية في رؤوسها هِلالات لامعة من فضة.
وكان مسار موكب طواف عيساوة تازة بقدسية خاصة وكل من يمر عبره ينبغي أن يكون حافي القدمين، وكثيراً ما كانت مخالفة التقليد تدفع مريدي الزاوية للتقدم الى مرتكبها ونزعه ما كان يحمل من مواد جلدية تعبيراً عن عدم رضاهم. ومما طبع طواف عيساوة تازة لهذه الفترة قلة من يتابعن الموعد من النساء، لكنهن غير ممنوعات منه بدليل ما كان يحصل بشكل معزول من قفز لامرأة مسنة نصف محجبة في لحظة من لحظات الحفل، معبرة لدقائق برقص أصيل عن تأثرها بايقاع هذا الموعد الروحي. علماً أن النساء ممن يسهم في تدبير أمور الطائفة من خلال ”مقَدْمَاتْ”، يتكلفن بجمع ما يسمى ب”زْيَاراتْ” عن نساء المدينة لتنظيم الطواف وتوفير كلفة سفر وهدايا رمزية لضريح الشيخ بمكناس، مع ما يميز أنشطة الطائفة العيساوية التازية من عدم اختلاط بين رجال ونساء خلافاً لما كان سائداً بغرب البلاد.
وحول مسار الطواف العيساوي التازي السنوي يمكن الحديث عن انطلاقتين كانتا معمول بهما منذ زمن، ولعل مسار هذا الطواف كان بعلاقة مع ما هو حرفي تجاري من مواقع بالمدينة، وبأهم بيوت الأسر التازية الميسورة لجمع تبرعات وزيارات الزاوية. فطواف الصبيحة كان يبدأ من مقر الزاوية بدرب مولاي عبد السلام والذي لا يزال قائما لحد الآن غير بعيد عن جامع تازة الأعظم وضريح سيدي عزوز، باتجاه زنقة القلوع حيث ضريح سيدي عبد الله الى غاية المكان الشهير ب ”صب الماء”، والذي يتم الانتقال منه الى باب الزيتونة ثم عبر زنقة سيدي بلفتوح الى قبة السوق قلب المدينة، وعبر العطارين يتم التوجه الى زاوية سيدي امحمد بن اسعيد الحلفاوي البرنسي بساحة أحراش، ليتم أداء صلاة الظهر بها والاحتفاء بقرب عيد المولد النبوي، علماً أن طواف عيساوة تازة كان يقام أسبوعاً قبل هذا الموعد الروحي الذي يحظى بمكانة خاصة عند المغاربة.
أما طواف المساء فكان يبدأ من هذه الزاوية ذات الموقع الرمزي بمدخل المدينة، باتجاه باب الشريعة ذات الرمزية الخاصة في تاريخ تازة، ومنها عبر مسجد الأندلس الى ساحة المشور قبالة مدرسة بني مرين الحسنية التاريخية العثيقة، حيث كانت يجري ما يعرف عند عيساوة ب”الفَرْسَة” التي انتهت عام عما ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين بقرار من سلطات الحماية كما سبقت الاشارة لذلك. ومن “الفَرَّاسة” التازيين الذي اشتهروا بالعملية هناك البوذالي العلوي الذهبي الشهير ب”خبو”، وهذا التعبير السلوكي المقزز كان يتم بساحة المشور لا غير والناس هم من كان يقدم الفريسة التي هي إما “عنزي” أو ”غنمي”. طقوس سابقاً ووقفة احتفالية روحية رمزية لاحقاً منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، كان يتوجه بعدها طواف عيساوة تازة المسائي الى زنقة سيدي علي الدرار ثم زقاق الحاج ميمون، قبل أن يأخذ طريقه الى درب الزاوية اليجبشية ومنها الى زقاق الوالي، بحسب مكان استقبال الطواف وإكرامه والبيت الذي تطوع لهذه المهمة، وهو تقليد كان يختلف من سنة لأخرى بحسب الأسر التازية ورغبتها واستعدادها.
يذكر أنه قبل خمسينات القرن الماضي كان طواف عيساوة تازة المسائي السنوي ينتهي في ضريح باب الريح الشهير شمال المدينة، المعلمة التي كان يتم إنزال الأعلام على أسوارها وقراءة الفاتحة، قبل شد الرحال لمن يكون على استعداد من المريدين باتجاه ضريح الشيخ بمكناس. فمن هذا المكان المطل على ممر تازة كان ينطلق ركب تازة الأول، والذي لما كان يصل الى وادي سبو على مقربة من فاس كان يقوم بنصب الخيام في انتظار ركب ثان قادم من تازة في اليوم الموالي. وعندما كان يلتحق الثاني بالأول كان يتم تنظيم ما يُعرف بخرجة عيساوة تازة الثانية، وعند الاقتراب من باب الفتوح كانت تبدأ دقة عيساوة اعلاناً بدخول موكب تازة لمدينة فاس. وعند بلوغ مكناس كان الوفد التازي ينزل ببيت أسرة “الدْريسِيين” التي تنحدر من الشيخ الهادي بن عيسى، بدرب قرب ضريح سيدي قدور العلمي بالمدينة العتيقة، تقليد واقامة استمرت بهذا البيت لعقود، حيث كانت تقام به ليالي عيساوية تازية على امتداد ثلاثة أيام متتالية، وفي اليوم الثاني لعيد المولد النبوي بعد صلاة العصر وانطلاقاً من هذا البيت، كان يتم التوجه الى قبر الشيخ من أجل الزيارة وقراءة الحزب.
وحول تراث تازة العيساوي ورمزية صوفيته وأعلامه بالمدينة، من المفيد الاشارة لإسم “علال الريح” و”المختار بن شلال” رحمهما الله والذين كانا “مقدمين” للطائفة بتازة قبل فرض الحماية على المغرب، والمختار بن شلال هو جد الحاج التهامي انويكًة العيساوي رحمه الله. وحتى تسمح له سلطات الحماية لهذا الأخير بممارسة نشاطه فرضت عليه عدم تدخله في السياسة، ما تم قبوله حماية لزاوية عيساوة التي كانت مهددة بالزوال. وعلى امتداد سنوات الحماية انتقلت الزاوية الى أسرة شيبوب، وهي أسر تازية اصيلة كان”مقدم” الزاوية منها الى غاية استقلال البلاد. لتنتقل مهمة”مقدم” الزاوية لأسرة الغوتي التازية الأصيلة أيضاً الى غاية سبعينات القرن الماضي. لتأتي تجربة قدور الشواي ك”مقدم” الى حدود أواسط الثمانينات، ثم الحاج التهامي انويكًة مقدما للزاوية الى حين وفاته عام ألف وتسعمائة وستة وثمانين، ليتحمل هذه المهمة نجله الأكبر المقدم محمد انويكًة الى غاية اليوم على امتداد حوالي ثلاثة عقود.
وحول خصوصية عيساوة تازة داخل خصوصية الزاوية، يمكن الحديث عن ايقاع عيساوي متميز شهير ب ”المجرد”، وهو عبارة عن دقة أو موسيقى دون تعبير ولا كلام أحياناً في اطار حضرة عيساوية تازية. وفي الطواف العيساوي التازي السنوي من التميز نذكر أن هناك ما فوق خمسة مما يعرف عند أهل الشأن ب ”بوجناجن” (نحاس)، ثم ما بين ثلاثة الى أحد عشرة عازف على آلة “الغيطة” بحيث في الموكب التازي يكون عدد الغياطة نفس عدد الأعلام كتقليد قديم. ومن تميزهم في الموكب ركوبهم على فرسان مدربة منسجمة مع الايقاع ويوجدون عادة خلف موكب الطواف، الذي يرتب وفق تدرج في مقدمته نجد الأعلام ثم ما يعرف ب ”الحَضَّارَة” والطبالة وبوجناجن، ثم الغياطة بصدى تفاعلٍ يجمع الأول بالأخير من الحفل.
ولعل من تجليات تراث الطائفة العيساوية التازية وتفاعلها الروحي المحلي منذ عقود، ما ينبغي استمراره حماية لذاكرة المدينة الثقافية وإرثها الرمزي اللامادي، هناك “الحضرة” التي كانت تقام كل يوم جمعة من خلال ما يُعرف بالذكر والتحير، ثم “الليلة” التي عادة ما تنظم من قِبل أسر مريدين عيساويين أو أحد الذين يعانون من مرض ما أو من الأسر التي رزقت مولوداً جديداً..، وعادة ما تكون الليلة بايقاع روحي خاص بدءاً مما يعرف ب ”الدخلة”، ولعله مكان يجتمع فيه مقدم الزاوية مع مريدين حاملين لأعلام غير بعيد عن بيت الحفل وهم يقرأون”سبحان الدايم”، قبل استقبالهم بثمر وحليب وشموع رغبة من أهل البيت في بركتهم ودعائهم..، لتتم قراءة الحزبين والانتقال للتحير على نغم طبولٍ وغيطةِ دقةٍ عيساويةٍ أصيلةٍ مؤثرة. مع أهمية الاشارة الى أن عيساوة تازة هؤلاء، كانوا يحيون لياليهم مجاناً اللهم ما كان يُقبل من “تبرك” و”زيارة” لأسر ميسورة.
وشأنها شأن باقي طوائف سائر مدن ومناطق البلاد، كانت ولا تزال الطائفة العيساوية التازية تفضل إحياء حفلات بطبيعة روحية ابتهالية صوفية استعراضية انجذابية، اسلوب روحي كان يحضر ما هو خاص من ليالي أسرية “الليلة”، ناهيك عن مساهمة عيساوة تازة فيما هو حفلات تراثية ومواسم ذات علاقة بشهر رمضان وعيد المولد النبوي وغيرهما. وكانت ليالي تازة العيساوية بتقاليد وقدسية خاصة لِما كان يطبع أداءها الروحي ودرجة تأثيرها وقبولها وتفاعلها، كذا ما كان يملأها من خُلقٍ وولعٍ وطهارةٍ وجمْعٍ مبارك. وتذكر رواية أحد المعنيين(إ- ب) أن جده من أصول مراكشية كان ضمن الطائفة التازية عازفاً على “القرقبات”، وفي حفل قبل بداية “ليلة” إلتمس مقدم الزاوية ممن هو غير طاهر بالانسحاب من البيت، ولما بلغت الليلة ذروتها خرج رجل ليسقط بباب البيت مغماً عليه، ليظل طريح فراشه لفترة كان فيها مريدو الزاوية يزورونه ويدعون له بالشفاء، ليصارحهم أنه لم يكن على طهارة وأنه خجل من الاستجابة للنداء حتى لا يقال عنه شيئاً فحصل ما حصل.
وبقدر ما كانت تازة بمكانة وفعل وتفاعل تراثي عيساوي، بقدر ما كان يتقاسمها عيساوة ودرقاوة وتهامة (أهل وزان)، بحيث الانتماء للزاوية كان أمراً روحياً واجتماعياً، لمِا كان لـ”المقدم” من دور في تعاون وتآزر وحل لنزاعات مريدين… ومن مجموع 21591 من المريدين العيساويين بالبلاد الى غاية ثلاثينات القرن الماضي، كان بتازة لوحدها حوالي ألفي مريد أغلبهم من الحرفيين وهو ما يؤكد أن المدينة كانت بدينامية حرفية معبرة، تكفي الاشارة الى أن آخر حرفي عيساوي عن الدباغين بتازة هو قدور انويكًة الذي توفي في سبعينات القرن الماضي. وحول مسألة خلف الزاوية في لقاء مع “المقدم” الحالي محمد انويكًة أشار الى أنه بالشكل الروحي أمر غير موجود بينما شكلاً فحدث ولا حرج في اشارة الى أن عدم التعليق ربما ابلغ من التعليق حول واقع شأن، مضيفا أن من لا شيخ له في التراث الصوفي المغربي لا واقع ولا مستقبل له. وعن موارد وقف الطائفة أشار الى أن ما كان منذ مطلع القرن الماضي لم يبق له أثر، وما هو الآن محدود جداً فضلا عما هو عليه من تعثر وتعقد.
ولعل طائفة عيساوة تازة برئاسة”المقدم” انويكًة باعتبارها مكوناً من مكونات الأثاث التراثي الثقافي الأصيل بالمدينة، هي واحدة من مجموع أربعين طائفة عيساوية أصيلة قائمة بالمغرب على ايقاع زمن صوفي ممتد، حافظة لأسس زاوية شيخها ولهوية تعبيرها الخاص ورمزيتها، ضمن واقع وتمثلات وعي وذاكرة وتراث لامادي. وعلى أساس قِدم الزاوية بتازة فإن طائفتها هي بأرشيف هام وموقع خاص في ذاكرة المدينة ووجدان أهلها، من خلال إسهامها وتجليات احتفائها وحمايتها لهذا الارث الثقافي اللامادي، كذا ما تعمل على ترسيخه من قيم تسامح وتآزر وتعاون وصلاح وخير واحسان ومودة وتعايش، هذا فضلا عما تحييه من ليالي بطبع تراثي أصيل خاص وفق ايقاعها الموسيقي المتميز. ولعل ما هي عليه من وقع وعمق في هذا المجال جعلها بورشة خاصة بصناعة واصلاح الآلات الايقاعية العيساوية، وهو ما لا يوجد سوى في ثلاثة مدن مغربية عتيقة أخرى هي فاس ومراكش وأزمور.
تبقى زاوية الهادي بن عيسى وطوائفها بالمغرب بما في ذاك طائفة تازة هذه الذاكرة المحلية التي حظيت باستقبال وتبرك وتكريم ملكي قبل سنوات، بما هي عليه من هويةٍ وتميز وأصولٍ وعمقٍ تاريخي مغربي في زمن عولمة وتدفق قيمٍ وسلوك وثقافات. فضلاً عما يتقاسمها من زمنٍ ونشأةٍ وأسسٍ وشيخٍ وفقهاء وعلماء، وأهل ذكرٍ وحفظةٍ ورمزيةِ أضرحةٍ ونصوصٍ وأشكال تعبيرٍ ونشوةٍ وجذبٍ وحكيٍ ومشتركٍ.. عابرٍ لمكانٍ وزمان، كذا ما أسهمت به ولا تزال من أدوار رمزية بتجليات عدة ومتداخلة على امتداد قرون.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث