تازة بريس

بمناسبة الاحتفاء الوطني بالذكرى الواحدة والسبعين لثورة الملك والشعب..

-

تازة بريس

واسعة هي ملاحم المغرب الوطني ومتباينة ملاحمها في أزمنتها وأمكنتها وآثارها وأبعادها ودلالاتها، وقد شكلت كما هو غير خاف عن مهتمين منعطفات حاسمة ومفصلية طبعت زمن البلاد ومسارها ومسيرتها السياسية، وكذا كفاح المغاربة من أجل ما هم عليه من استقلال ووحدة واستقرار وذاكرة تاريخية. ولعل من محطات المغرب الرمزية التي تظل بمكانة خاصة لدى الأجيال، ملحمة ثورة الملك والشعب التي اندلعت قبل واحد وسبعين سنة زمن الحماية، عندما تجاورت سلطات الاقامة العامة الفرنسية مداها وامتدت أياديها يوم عشرين غشت ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، الى رمز الأمة وسيادة البلاد ووحدتها المغفور له السلطان محمد بن يوسف، بإقدامها على نفيه وأسرته وإبعاده عن عرشه ووطنه معتقدة أن بجرأتها واجراءها هذا ستوقف كفاح المغاربة من اجل الاستقلال، وستفكك ما هناك من ترابط وثيق بين عرش وشعب. فما حصل كان عكس نواياها ودسائسها الاستعمارية، وكان بداية نهاية نظام حمايتها من خلال ما أبان عنه الشعب من صمود عبر تضحيات جسيمة، ووقفة قوية غير مسبوقة في سبيل عزة البلاد وكرامتها وسيادتها ومقوماتها وشرعيتها، وكذا في سبيل عودة رمز الأمة والحرية والاستقلال.

من ذاكرة فاس قبل ثلاث سنوات احتفاء بهذا الفصل من فصول تاريخ المغرب الوطني، واحتفاء بذكرى ثورة الملك والشعب التي كان خطاب طنجة الشهير فتيلها، ايذانا بقطع حبل المغرب مع نظام الحماية قطعاً نهائياً عندما قال عنه “ايريك لابون” المقيم العام آنذاك “لقد قضي الأمر في طنجة”، ومن ثمة بداية أزمة مغربية فرنسية تسارعت أحداثها صوب قطيعة طبعها تجاهل سلطات الحماية الفرنسية لحق المغرب في الاستقلال، وهو ما عزم السلطان محمد بن يوسف خوض نضال من أجله لاسترجاع سيادة البلاد كاملة. وعليه، ما أقدمت عليه من مؤامرة تجلت في عزله ونفيه، ذلك النبأ الذي تلقاه الشعب بمظاهرات عارمة ملأت كل جهات البلاد. احتفاء فاس بذكرى ثورة الملك والشعب وبما للحدث من رمزية في ذاكرة المغرب والمغاربة، استهدف ابراز دلالاته واشاعةً لِما يحتويه من قيم نبيلة لدى الناشئة، ومن اجل ايضا ما هو منشود من تلاقح وطني بين سلف وخلف. هكذا كانت المندوبية الجهوية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير بفاس قبل ثلاث سنوات، على ايقاع احتفاء خاص عبر سلسلة أنشطة اشعاعية ذات صلة، جمعت بين لقاءات تفاعلية وأبواب مفتوحة بفضاء ذاكرة المدينة، وكذا عن زيارات افتراضية مع عرض أشرطة وثائقية بتنسيق وتعاون مع شركاء محليين. فضلا عن ندوة فكرية قاربت موضوع ” ثورة الملك والشعب : تتويج وشائج الملكية والشعب”، جاءت في اطار اتفاقية شراكة مبرمة بين كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس والمندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير.

ندوة فاس الفكرية هذه في مثل هذا اليوم من شهر غشت قبل ثلاث سنوات، بقدر ما أثثها باحثون بقدر ما تكاملت وتوزعت مداخلاتها على ما هو مغازي، ناقشها عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس الدكتور سمير بوزويتة، من خلال مداخلة استحضرت ملاحم خالدة شهدها المغرب في مواجهته للتسرب الاستعماري، خاصة بعد احتلال الجزائر سنة ألف وثمانمائة وثلاثين، متوقفا عند احداث معبرة ذات طبيعة تضامنية مغربية طبعت هذه الفترة من قبيل معركة إيسلي. قبل تناوله لزمن الحماية الفرنسية من خلال وقائع أبانت بجلاء عن تلاحم وطني دفاعاً عن استقلال البلاد ووحدتها، معرجاً على حدث زيارة السلطان محمد بن يوسف لمدينة فاس بداية شهر ماي من سنة ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين،  قال عنها أنها زيارة تاريخية أشرت على ارتباطٍ بين ملك وحركة وطنية. لينتهي في مداخلته بتسليط الضوء حول حدث نفي السلطان وأسرته إلى كورسيكا ثم مدغشقر، كحدث فاصل قال عنه أنه فجر ثورة عارمة قادها الشعب المغربي، مبرزا بعض مظاهر المقاومة المغربية المسلحة وكذا الحركة الفدائية التي قادتها خلايا ومنظمات من قبيل منظمة اليد السوداء وخلية عبد الله الشفشاوني بمدينة فاس، التي لقنت المستعمر دروسا في التضحية والفداء رغم كل أشكال القمع والتنكيل وأحكام الإعدام التي أصدرتها محاكم الحماية الفرنسية في حق الوطنيين والفدائيين.

ضمن ندوة فاس الفكرية هذه احتفاء بذكرى ثورة الملك والشعب قبل ثلاث سنوات، وفي مداخلة ثانية موسومة ب ”حدث 20 غشت 1953 في مسار استقلال المغرب” للأستاذ عبد السلام انويكَة أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس-  مكناس. وبعد تثمينه لجهود المندوبية السامية لقدماء المقاومين خدمة وصيانة لذاكرة البلاد الوطنية، تطرق لجملة محطات شهدها مغرب فترة الحماية متناولا حدث نفي السلطان محمد بن يوسف، بعد أزمة علاقات مغربية فرنسية وقطيعة كذا تعنت إدارة الحماية وضغطها عليه من أجل توقيع ظهائر ومراسيم لا تخدم القضية الوطنية، مستعرضا أوجه مواجهة بين الإقامة العامة من جهة والسلطان ورجال الحركة الوطنية من جهة ثانية، مستنتجا أن ادارة فرنسا الاستعمارية فشلت فشلا ذريعا في ضرب ما جمع بين الملك والشعب من لحمة، الأمر الذي دفعها لنفي سلطان البلاد الشرعي وتنصيب بديل له بتنسيق مع معمرين ومتعاونين من المغاربة، لتنطلق بعد ذلك مقاومة شرسة في كل جهات المغرب وبين مدن وقرى، تلك التي دشنها الشهيد علال بن عبد الله في الحادي عشر شتنبر من سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، عندما اخترق صفوف موكب ابن عرفة بسيارة صدمته وهو على فرسه، ولما سقط حاول قتله بسكين لولا اطلاق النار عليه من طرف حارسه، مقاومة وعمليات فدائية أحرجت سلطات الحماية الفرنسية التي اضطرت في نهاية المطاف إلى إعلان عودة السلطان من منفاه واستقلال المغرب. من جهته بالمناسبة وعن كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس ألقى الدكتور رشيد بنعمر أستاذ التعليم العالي، مداخلة عنونها ب ”ثورة الملك والشعب ثورة دائمة ومتجددة” قارب فيها البعد التاريخي السوسيوثقافي للحدث، مشيرا إلى أن ما يربط العرش بالشعب من بيعة كانت آصرة تولد عنها تلاحم توج باستقلال المغرب. مؤكدا أن الحركة الوطنية كانت منذ نشأتها على تناغم وتوافق مع السلطان، ليصل إلى حدث عشرين غشت ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين الذي انتهى بالحصول على الاستقلال، مشيرا إلى أن ثورة الملك والشعب لم تنته مع هذا الحدث، إنما ظلت ثورة قائمة دائمة متجددة تجلت في جهود المغفور له محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما لاستكمال وحدة البلاد الترابية، ما تحقق باسترجاع أقاليم طرفاية وسيدي إفني والساقية الحمراء ووادي الذهب، كذا من خلال اوراش تنموية عدة هنا وهناك من جهات البلاد منذ الاستقلال الى اليوم.

وكانت “فاس في مواجهة الحماية الفرنسية : الأمكنة والوقائع” موضوع مداخلة ختامية لندوة فاس الفكرية بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لثورة الملك والشعب، استحضر فيها الدكتور جواد الفرخ عن المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مواقع مدينة فاس التي شهدت ما شهدت من أحداث مواجهة بين المغاربة والاستعمار، بدءًا بحدث توقيع معاهدة الحماية في ثلاثين مارس ألف وتسعمائة واثنا عشر، كذا صدمة ساكنة فاس التي ترجمت بانطلاق أول مقاومة شعبية مغربية لعلها ”أيام فاس الدامية” خلال ابريل من نفس السنة، وما تلى ذلك من تكوين جيل ممانع متشبع بفكر تحرري نتج عنه تأسيس حركة وطنية فعلية دخلت في مواجهة مفتوحة مع الإقامة العامة الفرنسية، مسجلة ملاحم بطولية في أحداث ظهير السادس عشر ماي ألف وتسعمائة وثلاثين، كذا تأسيس الاحتفال بعيد العرش وتقديم دفتر مطالب الشعب المغربي، فضلاً عن حركات احتجاجية سلمية سنة ألف وتسعمائة وستة وثلاثين وألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين وفي سنة ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين بمدينة فاس العتيقة. أما إثر نفي السلطان الشرعي محمد بن يوسف سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين – يقول الباحث-، فقد تم نقل المواجهة إلى مدينة فاس الجديدة بعد تكوين خلايا فدائية نفذت عمليات جريئة أذهلت سلطات المدينة رغم كل ما كانت عليه من أشكال ضغط وعنف ورقابة.

هذه هي ملحمة عشرين غشت ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، التي أطلق عليها السلطان محمد بن يوسف اسم ”ثورة الملك والشعب” في ذكراها الثالثة بعد عودته من المنفى، فكان رحمه الله وراء قرار الاحتفاء بالحدث وتخليده سنويا، ما لم ينقطع منذ استقلال البلاد الى الآن. وهكذا أيضا هي هذه المناسبة الوطنية المجيدة التي تروم التذكير بما خاضه العرش والشعب المغربي من نضال من اجل استقلال البلاد، فضلا عن التذكير بما ينبغي من يقضة وتعبئة دفاعاً عن حوزة البلاد من جهة وخدمة ونهوضا بكل مجالاتها من جهة ثانية.  وهكذا هي ذكرى ثورة الملك والشعب التي لا تزال رمزيتها بحاجة لحضن أكثر من أجل أجيال مغرب الحاضرِ والمستقبل، لتعميق صورة هذه الملحمة في اذهان هؤلاء من جهة، ولاطلاع الاجيال على صفحات مشرقة من كفاح السلف، وابراز ما حصل وما تم تسطيره من تضحيات وبطولات شهداء ومقاومين فدائيين، حتى تتزود بمعانيها الوطنية الناشئة وتتعرف على ما يزخر به تاريخ المغرب من ارث رمزي وحمولة مثل عليا وقيم وفاء وحب وطن. وهكذا أيضاً أحيت واحتفت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير من خلال مندوبيتها الجهوية بفاس قبل ثلاث سنوات، بذكرى ثورة الملك والشعب مستحضرة قيمة ودلالات الحدث الوطنية، مستهدفة تنوير الأجيال حول كيف كان سلف البلاد وكيف ينبغي أن يكون خلفها تجاه وطن وقضايا وطن وتحديات وتطلعات.

يذكر أن احتفاء الشعب المغربي بالذكرى الـ 71 لثورة الملك والشعب يوم 20 غشت الجاري، هو احتفاء حامل في طياته معاني وطنية حقة وتضحيات جسيمة من أجل حرية واستقلال الوطن، مناسبة ليست مجرد ذكرى تاريخية بل لاستحضار ما جمع من قيم بين العرش والشعب، ضمن في مسيرة ومشترك نحو مغرب حديث. ففي بلاغ بالمناسبة أصدرته المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، تم التأكيد على أن الذكرى 71 تجسد أروع ما سطره الشعب المغربي من تلاحم، تجلى في مواجهة المستعمر الذي حاول قمع روح البلاد الوطنية عبر نفي السلطان وعائلته في 20 غشت 1953. الاجراء والمناورة التي لم تزد كفاح الشعب المغربي إلا عزماً وإصراراً، وهو ما كان وراء بداية نهاية الوجود الاستعماري بالمغرب. هكذا تبقى ثورة الملك والشعب محطة بارزة في تاريخ المغرب الحديث، ولحظة حاسمة في النضال من أجل الحرية والاستقلال، حيث تصاعدت وتيرة المقاومة المسلحة والتظاهرات في جميع أنحاء البلاد، حتى تحقق النصر بعودة السلطان محمد الخامس في 16 نونبر 1955 وإعلان استقلال المغرب. وهكذا هي الذكرى 71 التي تأتي في سياق دولي مميز، حقق فيه المغرب انتصاراً دبلوماسياً جديداً باعتراف الجمهورية الفرنسية بمغربية الصحراء، ما يعكس قوة الموقف المغربي ووحدته في مواجهة ما هناك من تحديات خارجية.

إلغاء الاشتراك من التحديثات