تازة بريس
شبه إجماع يكاد يكون حول تدني المنظومة التعليمية الجامعية المغربية والواقع لا يرتفع -يقول- الدكتور مصطفى نشاط، الذي قضى معظم مساره المهني بالجامعة المغربية، وقد ارتأى بسط تجربة له مع تركيز على أهم أعطاب الجامعة من خلال ورقة حول واقعها، مشيرا الى أننا لسنا أمام توعكات قطاع في حاجة إلى ترقيعات تقنية، بل أمام أزمة متشابكة قد لا يمكن تجاوزها دون الإجابة عن السؤال المركزي التالي: أي مواطن وأي مشروع مجتمعي نبتغيه من وراء إصلاح التعليم العالي؟ تكاد الإصلاحات التي أقدمت عليها الوزارة الوصية باختلاف التوجهات الحزبية للوزراء الذين كانوا على رأسها تتشابه من حيث خطاباتها. فكلها نصت على تجويد الجامعة والمقاربة التشاركية وربطها بمحيطها، فكل برامج الإصلاح، أوصت بضرورة ملائمة التكوينات مع حاجيات سوق الشغل ليندمج الخريجون في محيطهم الاقتصادي والاجتماعي، والظاهر أننا أمام معادلة في حاجة إلى مراجعة ، لأن الأصل في مقاصد التحصيل بالجامعة ليس هو مهننته، بل إعداد الطلبة بمدّهم بالمهارات والمعارف، فيكون من الأصح أن ينفتح المحيط على الجامعة وليس العكس.
لكن يبدو أن الغائب الأكبر في كل تلك الإصلاحات هو كيفية ترجمة تلك الخطابات على أرض الواقع، وتحديد آليات الاشتغال في ظل تشخيص الوضعية والمصادر المالية . قليلا ما تم تقويم حصيلة الإصلاح السابق من حيث نجاحاته وإخفاقاته وأسبابها للدخول في الإصلاح اللاحق. إلى أي حد خضعت مسؤولية تنزيل مختلف الإصلاحات للمحاسبة؟ وهل أعطيت الأسبقية للأولويات؟ خلال مدة اشتغالي بكلية الآداب بوجدة، درّست حصتين فقط بأحد المدرجات الهائلة يسمى مدرج علال الفاسي، وقد أغلق لعدة سنوات بتقديم مبررات مختلفة وهو في حالة مهجورة؟ ألم يكن من الأجدى تخصيص الأموال التي رصدت له لمرافق حيوية أخرى؟ ناهيك عن إيلاء الأهمية أكثر لجوانب قد تكون ثانوية كتزيين واجهة المؤسسة وحديقتها قد يكون تزويد المكتبة بالمصادر والمراجع والتشجيع على النشر أولى من الزيادة في جمالية المؤسسة.
تقديم الأولويات على حساب الثانويات من مسؤولية الهياكل الممثلة للكلية- الشعب ومجالس الكلية.. غير أن السائد أكثر، هو أن الجامعة ومن خلالها باقي المؤسسات التابعة لها تشتغل في تبعية تامة لرئيس الجامعة. لما نشأت الجامعة بالغرب الأوربي منذ العصر الوسيط، قامت على استقلالية هيئة التدريس بها وفي عمقها، لا تعني مكان التدريس والتحصيل بل هيئة مكونة من الأساتذة والطلبة غير تابعة لباقي الأطراف المُسيّرة للشأن العام وتتمتع بهوية مستقلة. والأخطر أن الجامعة قد تتأثر بمزاج بعض رؤسائها- بطبيعة الحال بعيدا عن أي تعميم- فتسقط بين براثن الزبونية والمحسوبية. إن كل تسيير مبني على الولاء ويغيّب عنه الاستحقاق محكوم عليه بالفشل. بدعوى مشروعية الطموح، يتم التسابق حول مناصب رئاسة الجامعة وعمادة الكليات في غياب الكفاءة والاستحقاق لدى البعض، بينما يفضل ذوو الكفاءة والاستحقاق والاستقامة الانسحاب بهدوء. فأين نحن من طينة أولئك العمداء ورؤساء الجامعات الذين تقلدوا المسؤوليات قبل إصلاح 2003 وشهد الجلّ بكفاءتهم وحنكتهم وتكوينهم الأكاديمي وتألق إنتاجاتهم العلمية ، بل وتقدمهم في العمر بما يعنيه من نضج وتراكم للتجارب؟. وأسوق هنا مثالا عن العبث الذي ساد الفضاء الجامعي بعد لم يعد تبوء تلك المناصب يتم بتعيين من السلطات العليا بالبلاد، وأصبح مفتوحا أمام الجميع، ويخضع الاختيار- ولو بإجراء مقابلات- في الغالب لحسابات حزبية.
لم تحظ شعبة التاريخ بكلية الآداب بوجدة بماستر منذ حوالي عشرين سنة، وبادرت- يقول- مع أحد الزملاء قبل ثلاث سنوات بإعداد ملف طلب الاعتماد للماستر الذي ظفرت شعبة التاريخ به. وبعد جلسات ماراطونية وشفافة من الفريق البيداغوجي للماستر، تعتمد معايير مضبوطة في اختيار الطلبة المستحقين للولوج إلى الماستر ، تدخل رئيس الجامعة بكل الوسائل لفرض انضمام خمسة طلبة من اتجاه طلابي معين إلى لائحة المستحقين للماستر. أمام عجز العمادة عن حل المشكل ، قام الفريق البيداغوجي بعقد لقاء مع طلبة ذلك الاتجاه للاستماع لتبريرات مطلبهم، وكم كان اشمئزازي من طلبة نعرف جيدا مستواهم، من قبيل أننا مناضلين وأننا فقراءوكم تألمت أن تسللت الانتهازية لبعض الطلبة وقبلوا التطبيع مع الفساد وضرب مبدأ تكافؤ الفرص، والحالة أننا طوال مسارنا المهني عملنا على تكريس القيمة التي تجعل الجزاء من جنس العمل والمجهود. كنت دائما أعتبر أن دور الأستاذ لا ينحصر في تدريس المعارف والمهارات، بل يقرنه بإشاعة القيم السامية بين طلبته، فالأستاذ مدرس ومربي في الآن ذاته. ولا ريب في أن منظومة التعليم بالمغرب تشهد بصفة ملموسة تراجعا قيميا فظيعا، لعل من أبرز تجلياته تبخيس دور المدرس في المجتمع..ولعل من أوخم العواقب المترتبة عن تبخيس أدوار المدرس، أن الثقة انتفت من المنظومة التعليمية، وهذا ما نحن سائرون على خطاه، فلا حياة في مؤسسة فُقدت الثقة بها . إن ما يحز في الأنفس أن تبخيس أدوار المدرس، أفضى إلى ما نحن معاينوه من إشاعة ثقافة التفاهة والإسفاف على حساب الثقافة البانية.
وقد طلع علينا كل إصلاح بهندسة جديدة للمواد المدرسة وتوزيعها وبوصفات جديدة في التقييم ومنذ إصلاح 2003-2004، يعمل في الجامعة المغربية بنظام الفصول والوحدات والمجزوءات، قُسّم العام الجامعي إلى فصلين وتضمن الحصول على الإجازة ستة فصول، تستوجب من الطالب استيفاء جميع مجزوءاتها وإن بالمعاوضة. حينما نتتبع التوزيع الزمني للدراسة إلى انعقاد الامتحانات والإعلان عن النتائج، نلاحظ أن زمن التحصيل محدود جدا و لا يسمح بالتراكم المعرفي، وكثير من الأساتذة يتفاجؤون بالإعلان عن تاريخ الامتحانات، وهم ما يزالون في مقدمات الدروس ومداخلها .ففي أحسن الحالات، لا يتعدى عدد الحصص المدروسة الثمانية إلى العشرة، إن لم يكن أقل من ذلك ما إذا تخللت الفصل مقاطعات وإضرابات. وبعدها ينسحب الطلبة من أجل الإعداد للامتحان وقد يصل الإعداد إلى الشهر، ثم تلي ذلك فترة إجراء الامتحان التي قد “تأكل “الشهر كذلك ما بين الدورتين العادية والاستدراكية. وبعملية حسابية، فزمن التحصيل ما بين الفصلين، أي خلال السنة الجامعية ، كلها لا يتعدى الثلاثة أشهر، وأما باقي زمن السنة، فيستهلك في إعداد الطلبة للامتحان وفي عملية تصحيح الأساتذة لأوراق الامتحان وفي إدخالهم النقط على الحاسوب، وأكثر من ذلك في تصحيحات النقط والردود على استفسارات بعض الطلبة، بل واستجداءات بعضهم الآخر، بما أن النظام التعليمي فسح أمامهم المجال لتقديم استجداءاته، بين من توفي أحد والديه ومن يطالب بصفر ليعيد الامتحان الاستدراكي ومن يدعي أن مجزوء الأستاذ هو ما تبقى له من أجل أن يستوفي هذا الفصل أو تلك الوحدة .
ألم تتكرس بذلك قيم الاتكال والاستجداء، بينما في النظام السابق كان يعلن على النتائج بتوقيع أساتذة المواد المبرمجة آخر السنة الجامعية دون وجود أي مجال لمراجعة النقط. وقد تقتطع الفصول الخريفية من زمن الفصول الربيعية لسبب من الأسباب عطّل إحدى العمليات، مما يعني تأخيرا في انهاء الفصول الربيعية مع نهاية السنة الجامعية، وقد جرت العادة في كثير من السنوات أن تجرى امتحانات الدورة الاستدراكية الربيعية مع بداية السنة الجامعية الجديدة، وتلك مفارقة غريبة ، فعوض ان تدشن بدرس افتتاحي، تدشن بإجراء امتحانات متأخرة. ومن أعطاب هذا الإصلاح تنصيصه على تنظيم مراقبة مستمرة كوسيلة في التقويم. وإذا كانت هذه الوسيلة ممكنة بالمؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود، فأكاد أجزم – من خلال تجربتي- باستحالة العمل بها بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح، مثل كليات الآداب والعلوم الإنسانية بحكم ارتفاع أعداد الطلبة، وإلّا فإنه ضرب لتكافؤ الفرص ومجال لممارسات الغش..لقد قلّص نظام الفصول كثيرا من زمن التحصيل، وغلّب الأعمال الإدارية على أدوار الأساتذة على حساب أبحاثهم وهمومهم العلمية. و يبدو لي أن تجاوز العمل بنظام الفصول يفرض نفسه لأن الآمال التي علقت عليه للتخفيف من الهدر الجامعي، لم تتحقق، بل زاد من حدة المشكل. في إحدى السنوات يوم كنت منسقا لشعبة التاريخ، قمت بمحاولة لتتبع مآلات الطلبة بعد أن يسجلوا في سنتهم الأولى، وتبين لي أن نسبة تسعة بالمائة فقط تمكنت منهم من الحصول على الإجازة في ثلاث سنوات. بينما “عشّشت” نسبة كبيرة منهم من أجل ذلك لفترة قد تصل إلى ست أو سبع أو ثمان سنوات. ويبدو أن بعض الأساتذة يتحملون مسؤولية هذا الهدر الجامعي، إذ ظلوا يشتغلون بمنطق النظام القديم وذلك بإعداد “بوليكوبات” ضخمة ورثوها عن تدريسهم في ذلك النظام لما كانت السنة الجامعية تنطلق في شهر أكتوبر وتنتهي بشهر ماي، ويظل الطالب رهينة مادة أحد الأساتذة، وقد تكون المادة الوحيدة التي يجتازها لسنتين أو لثلاث سنوات من أجل استيفاء كل الفصول والحصول على الإجازة. إن مقارنة بسيطة بين مستوى الطالب الجامعي ما قبل الدخول في إصلاح سنة 2003- 2004 وما بعده، تنطق بوجود اختلالات واضحة بمنظومتنا الجامعية.
ونظرا لضيق زمن التحصيل وصراع الأستاذ مع الوقت لتقديم حمولة معرفية للطلبة تسعفه في تهييئ أسئلة الامتحانات، فإن المراهنة تبقى على الكمّ وليس على الكيف. ومن المضحكات المبكيات أنه أمام هذه الوضعية، لم يتوان بعض الأساتذة في كليات الآداب عن تقديم الامتحان QCM”على شكل أسئلة متعددة الاختيار والحالة أن درسا مثل الدرس التاريخي، يتأسس على التحليل والتركيب والنقد. وقد يتخرج الطالب ويحصل على الإجازة دون أن ينبس ببنت شفة في القسم أو المدرج، سيما إذا كان الأستاذ من الميّالين إلى الإملاء. حاولت أن تكون طريقتي في التدريس مبنية أساسا على الحوار، إن في النظام التعليمي السابق أو بعده، ولا أنكر أن عدد الطلبة ممّن تخرجوا من الجامعة، و لم يسمع صوتهم هم أكثر، منذ الدخول في إصلاح 2003. وأكاد أجزم أن مستوى منظومة التعليم الجامعي آخذة في التراجع منذ بداية الألفية الثالثة، ومستوى الطالب المغربي بعدها ليس هو ما كان عليه قبلها. وانعكست هذه الوثيرة المتسرعة في التحصيل التي جاء بها إصلاح ليسانس، ماستر، دكتوراه LMD الذي حدّد في 8 سنوات على مستوى التعليم الجامعي، علما بأن هذا النظام مستورد من التجربة الفرنسية، وتم تنزيله هناك في مرحلة سابقة من خلال سياق وأدوات اشتغال خاصة بفرنسا. فهل تكفي مدة 3 أو 5 سنوات لإنجاز بحث يحمل صفة الأطروحة الأكاديمية بما تقتضيه من جدّة في التصور ونبش مصدري ومرجعي واختمار في التفكير؟. قد لا نستغرب قضاء بعض الأساتذة في النظام القديم مدة جاوزت 12 سنة في إنجاز أطاريحهم التي ظلت تفرض جودتها و صعب تجاوز نتائجها .
والمتتبع لمختلف الإصلاحات التي أقدمت عليها الوزارة الوصية، يلاحظ استحضارها لمعضلة اللغات الأجنبية، فالطالب يصل إلى الجامعة بعُدّة ضعيفة على مستوى التواصل واللغات الأجنبية والتعبير. ويبدو أن حل المعضلة يتم بشكل مبتسر، طالما أنه لا يعود بجدورها إلى مرحلة ما قبل الجامعة. أنجب الطلبة الذين درستهم بشعبة التاريخ كانوا يعانون من ضعف عُدّتهم في اللغات الأجنبية، ويعزون ذلك إلى الأعطاب الموجودة في المنظومة التعليمية ما قبل التحاقهم بالجامعة. لا بد من حلول شمولية لمسألة اللغات الأجنبية عبر كل أسلاك التعليم، وإلّا فالأمر لا يعدو أن يكون سكبا للماء في الرمال. والأدهى أن مستويات الطلبة في اللغة العربية نفسها في تراجع خطير، وقد أسهم في استفحالها غزو وسائل الاتصال التي جعلتنا أمام لغة هجينة. الظاهر أن التركيز على الجوانب التقنية لإصلاح التعليم العالي، جعلنا نخلف الوعد بعد نهاية كل إصلاح، وتظل المنظومة قابعة في قاعة انتظار في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، وأحيانا يطغى الارتجال على بعض محاولات الإصلاح ، فتذهب الأموال سدى كما هو مع نظام الباكالوريوس الذي لطالما هُلّل وطُبّل له ، ليتم مؤخرا بجرة قلم التخلي عنه. إن كل إصلاح فوقي لا ينصت لأهم الفرقاء المساهمين في المنظومة التعليمية، وأقصد بهم مجاوري الطبشور محكوم عليه سلفا بالفشل، فهم الأدرى بمشاكل القطاع وبالحلول الممكنة لتجاوز أعطابه، بل إن أي إصلاح يهم قطاع التعليم باعتباره قاطرة التنمية والتطور، يجب أن يخضع لنقاش مجتمعي. ويمكننا بالمصادر المالية المتاحة لأي إصلاح، أن نحقق أهم الأهداف المرجوة منه، إن واكبه ترشيد في النفقات ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعيدا عن الحسابات الحزبية والسياسية، وعن اعتبار المسؤول عن القطاع الناجح في مهامه كيفما كانت مرتبته، هو من تمر ولايته بدون اضطرابات، حتى لا يغدو تاريخ إصلاحات التعليم الجامعي ببلادنا مقرونا بالفشل والاختلالات، مع ضرورة الإشارة إلى أن بعض الجوانب من تلك الإصلاحات، حمل نتفا إيجابية قليلة يجب استثمارها نحو الأفضل.
لا ينكر أهمية الإنتاج العلمي لبعض الأساتذة الجامعيين المغاربة وجودته إلّا جاحد، لكن التصنيفات العالمية للجامعات العالمية التي تطلع علينا كل سنة وترتيب الجامعات المغربية بها، يشي بوجود اختلالات بالبحث العلمي بالمغرب، وآخر تلك التصنيفات تصنيف شنغهاي لأفضل 1000 جامعة في العالم الذي غابت عنه كل الجامعات المغربية. لعل أول مؤشر وسبب في الآن نفسه لهذه الوضعية، تواضع الميزانية المخصصة للبحث العلمي، حيث لا تتجاوز 0،08 من الميزانية العامة للدولة ومقارنة بسيطة مع ميزانية البحث العلمي لدول أخرى قطعت أشواطا ملموسة في التنمية والتطور، تتضح أن البحث العلمي بالمغرب لا يندرج ضمن الأولويات.
ودون رغبة في جلد الذات فالمكاشفة تقتضي الاعتراف بأن البحث العلمي ليس ممّا يحظى باهتمام بعض الأساتذة ، فأدوارهم تقتصر على تقديم دروس متقادمة وغير مُحيّنة وكفى، وبعضهم اعتبر الحصول على شهادة الدكتوراه نهاية البحث، ولم يصدروا بعدها أي منشور مقالة أم كتابا. يجب الاعتراف بأن الجامعة المغربية تحتضن أساتذة باحثين يزاوجون بين التدريس وممارسة البحث العلمي وأساتذة مدرسين يشتغلون كأنهم بمجرد ثانويات كبيرة. كما أن ما تقدم عليه بعض المختبرات التي لا نعرف منها سوى أسماءها من أنشطة علمية، لا يتجاوز الطابع الاحتفالي ولا تترك وراءها أي منتوج مكتوب، وإن حصل فيصعب إدراجه ضمن الإنتاج الجادّ والجيّد. وممّا يضعف من جودة الإنتاج العلمي بتلك المختبرات، أنها في أدبياتها تنص على العمل الجماعي، بينما على أرض الواقع نلاحظ على بعضها طغيان العمل الفردي، فكل يغني على ليلاه، بينما لا مناص للبحث العلمي المتطور من العمل الجماعي لأن فلسفة أي مختبر يجب أن تنصب على قضايا مركزية، تتقاطع في الاشتغال عليها كل الفرق المكونة للمختبر. وزادت شبكة ترقية الأساتذة في تردي إنتاج بعض المختبرات، ذلك بأن بعض الأساتذة أصبحوا يتسابقون للحصول على شهادات تدعم ملفهم العلمي، دونما أن تكون تلك الشهادات تعبر فعلا عن جدية وجودة في الأنشطة العلمية التي يقومون بها. وتكشف مواقع معظم الجامعات المغربية ضعف الحيز الذي يشغله البحث العلمي لديها، ففي الغالب أنها تتزين بصور الرؤساء أو العمداء. إن ما يلاحظ أن بعض الأساتذة بمؤسسات جامعية نجدهم حاضرين بمختلف الأنشطة العلمية، ولو كانت بعيدة عن تخصصاتهم، فهم هناك، كما نعبر عنه في دارجتنا” يسخنوا الطرح”. إن إنتاج الفكر رهان وطني وليس ترفا، وهو منوط بتقديم مشاريع تضيف إضافات نوعية لخدمة الوطن والمجتمع.
وممّا زاد في رداءة المنتوج العلمي ما جاء به الإصلاح الجامعي بشبكة ترقية الأساتذة – كما سبق القول- ، حيث أصبح بعضهم يتهافت بكل وسيلة من أجل الحصول على شواهد تؤكد حضوره العلمي، ولكم هي النوادر التي يتندر بها عن سقوط بعضهم في الإسفاف لتضخيم ملفه العلمي، كالإشارة إلى أنه كان ينوي المساهمة في تظاهرة علمية ما، لكن ظروفا منعته من ذلك….ناهيك عن شيوع التكرار في بعض ما ينتج، بل والسرقة العلمية التي اجتاحت البحث العلمي، دون تفعيل صارم للبرامج المضادة لهذه الآفة .لا يمكن للبحث العلمي أن يتطور في ظل مظاهر للتسيب، ولنستحضر كيف أن المانيا سحبت درجة الدكتوراه من وزيرتها السابقة للأسرة، بعد ثبوت سرقتها العلمية لبعض المقاطع ولو أنها صرّحت بأن الأمر لم يكن مقصودا.
نحتاج إلى مجلس أو وكالة أو لأي مؤسسة وطنية- لا يهم اسمها- تجمع خيرة الكفاءات من مختلف التخصصات لتقييم الإنتاج العلمي باستقلالية وتجرد ودون محاباة. كما نحتاج إلى استراتيجية واضحة في نشر هذا الإنتاج لأن هاجس النشر ممّا يقض مضاجع الباحثين…. وإذا كانت مصادر التمويل من أهم أعطاب البحث العلمي، فيبدو لي أن الحاجة ماسة لوضع آليات لانخراط القطاع الخاص في هذا التمويل، ليشتغل الأستاذ الباحث في أجواء الأريحية. لمّا نتتبع التصنيفات التي تصدر عن الجامعات في العالم ، نلاحظ أن جامعة هارفارد تأتي دائما في المقدمة – للإشارة فهي أقدم جامعة بالولايات المتحدة الأميركية ، أسست عام 1636 وأخذت اسمها من أحد المتبرعين يدعى جون هارفارد- والسرّ في ذلك أهمية التمويل الذي تتلقاه من الحكومة ومن الأثرياء على شكل مشاريع استثمارية ووقفية .كما يجب التفكير في وضع آليات جديدة لتحفيز الباحثين الجادين على العطاء. لقد لاحظت أن أكثر المهتمين بتاريخ المغرب الوسيط – مجال اهتماماتي الأكاديمية – هم أساتذة غادروا الجامعة في إطار المغادرة الطوعية ، أو أحيلوا على التقاعد ، واستمروا في العطاء، علما بأن وضعية معظمهم ظلت مجمدة في إطار نظام مجحف للترقية، حكم عليهم أن يظلوا سجيني الوضعية الإدارية التي جمدوا فيها لأكثر من عشر سنوات. وسيظل المغرب من المتذيلين للتصنيف العالمي للبحث العلمي، ما لم نعمل على إعادة تأهيل الأستاذ وتكوينه ، خاصة من حيث امتلاك أهم اللغات العالمية كاللغة الإنجليزية التي تكتب بها الأبحاث ذات الإشعاع العالمي.