تازة بريس

الحق في الصحة بين المواثيق الدولية ونصوص التشريع المغربية ..

-

تازة بريس

عبد اللطيف جنياح

يعتبر الحق في الصحة من أهم الحقوق الأساسية للإنسان، متمثلا في حق كل إنسان في التمتع بالصحة الجسدية والعقلية والنفسية دون أي تمييز،  والذي نصت عليه مختلف المواثيق والدساتير الدولية، وهو ما ترتب عنه التزام الدول الأعضاء في المنتظم الدولي بملاءمة تشريعاتها الوطنية مع مقتضيات هاته المواثيق.

وهكذا نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 25 منه على أنه لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة له ولأسرته، ويشمل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية اللازمة، وأن له الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش لظروف خارجة عن إرادته، وأن للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وأن ينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية.

وفي نفس السياق نص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 12 منه على إقرار الدول الأطراف في هذا العهد على حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه، وأنه يتعين على هاته الدول اتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق، وذلك من أجل العمل على خفض معدل موتى المواليد ومعدل وفيات الرضع وتأمين نمو الطفل نموا صحيا، وتأمين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، والوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها، وتهيئة الظروف التي من شأنها تأمين الخدمات الصحية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.

وتعزيزا لِما تم التنصيص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حول إقرار الحق في الصحة، صدر إعلان ألما آتا المنبثق عن المؤتمر الدولي للرعاية الصحية المنظم من طرف منظمة الصحة العالمية بتاريخ 12/ 09/ 1978 بالعاصمة السابقة لكازاخستان، الذي حمل الحكومات مسؤولية رعاية صحة شعوبها، وحثها على اتخاذ إجراءات صحية واجتماعية لتحقيق الرعاية الصحية الأولية، وسن نظم صحية وطنية شاملة، تشمل سياسات واستراتيجيات وخطط وطنية لإطلاق واستمرار خدمات الرعاية الصحية الأولية ولتحقيق العدالة الصحية.  

وواضح من خلال الإعلان المذكور أن الرعاية الصحية الأولية تعتبر المدخل الأساسي لتحقيق الصحة للجميع، من خلال ربط النظام الصحي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن مفهوم الصحة حسب هذا الإعلان يتعلق بالعافية الجسدية والعقلية والاجتماعية ولا يقتصر على الخلو من الأمراض، وباعتبار أن الحق في الصحة يندرج ضمن الحقوق الاجتماعية الأصلية للإنسان، لهذا ركز الإعلان ألما آتا على أنه ليس من المقبول سياسيا واقتصاديا واجتماعيا اختلال ميزان العدالة الصحية بين الناس.

وإذا كان المغرب قد صادق على المواثيق الدولية المكرسة للحق في الصحة، فإن التساؤل يبقى مطروحا حول مدى ملاءمة تشريعاته الوطنية لهاته المواثيق انطلاقا من الوثيقة الدستورية والتشريعات العادية المنظمة  للولوج إلى العلاج، وحول مدى ضمان هذا الحق واقعا، وتجدر الإشارة في هذا الشأن إلى التنصيص الوارد في تصدير دستور 01 يوليوز 2011 على مبدأ سمو المواثيق الدولية والتزام المغرب بالعمل على ملاءمة التشريعات الوطنية مع هاته المواثيق، والتزامه أيضا بحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها التجزيء.

وفي هذا الإطار نصت المادة 31 من الدستور المغربي الجديد على عمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين من الحق في العلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من طرف الدولة.

 غير أن الملاحظ أن الإقرار بالحق في الصحة بموجب المقتضى الدستوري المذكور، لم يرق صراحة إلى درجة ضمان هذا الحق  للاقتصار فقط على  التنصيص على تعبئة الوسائل المتاحة لتيسير الاستفادة من الخدمات الصحية في إطار المسؤولية المشتركة للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، دون التنصيص على ضمان هذا الحق ، كما يلاحظ أنه قد صدرت قبل المقتضى الدستوري سابق الذكر عدة قوانين تناولت بعض جوانب الحق في الصحة منها القانون 65.00 المتعلق بمدونة التغطية الصحية الأساسية، الصادر بتاريخ 03/ 10/ 2002 الذي نص في ديباجته على أن حماية الصحة تفرض على الدولة التزاما بتوفير الخدمات الصحية الوقائية مجانا لفائدة جميع المواطنين أفرادًا وجماعات، بالإضافة إلى سهرها على تنظيم مجال تقديم خدمات طبية نوعية.

وفي نفس السياق صدر بتاريخ 09/ 12/ 2022 القانون الإطار عدد 06. 22 المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية الذي نسخ القانون الإطار عدد 09. 34 المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات، والذي نص في ديباجته على استحضار المواثيق الدولية التي تنص على الحق في الصحة وخصوصا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودستور منظمة الصحة العالمية وأهداف الألفية، وميثاق  الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، كما نصت المادة 02 منه على أن نشاط الدولة في المجال الصحي يهدف إلى العمل على تحقيق الأمن الصحي وحفظ صحة السكان من الأمراض والأوبئة والأخطار المهددة لحياتهم، وضمان عيشهم في بيئة سليمة، ونصت نفس المادة على الأهداف المطلوب تحقيقها والمتمثلة أساسا في تيسير ولوج الساكنة إلى الخدمات الصحية وتحسين جودتها، وضمان توزيع متكافئ ومنصف لعرض العلاجات على مجموع التراب الوطني، كما نصت المادة 05 من نفس القانون على مسؤولية الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص في تحقيق الأهداف الصحية المنصوص عليها في المادة 02 من قانون الإطار عدد 06. 22 المومأ إليه أعلاه.

والملفت للانتباه أن الإشراف على تفعيل التدابير المتخذة في المجال الصحي تنفيذا لالتزامات الدولة حول تكريس الحق في الصحة، قد أسند لعمال الأقاليم وولاة الجهات، وهو ما يبرز وصاية وزارة الداخلية على الولوج إلى العلاج وتدبير هذا الأمر بعقل أمني، كما هو واضح من القانون عدد 14. 112 المنظم للعمالات الصادر بتاريخ 07/ 07/ 2015 الذي نصت المادة 79 منه على أن العمالة تمارس اختصاصاتها الذاتية داخل نفوذها الترابي في ميدان تشخيص الحاجيات في مجالات الصحة والسكن والتعليم والوقاية وحفظ الصحة، كما نصت المادة 86 من نفس القانون على أن العمالة تمارس المهام المشتركة بينها وبين الدولة في مجال تأهيل العالم القروي في ميادين الصحة والتكوين والبنيات التحتية والتجهيزات.

وفي نفس السياق نصت المادة 94 من القانون 14. 111 المنظم للجهات الصادر بتاريخ 23/ 07/ 2015 على نقل مجال الصحة من اختصاصات الدولة إلى اختصاصات الجهة، وموازاة مع ذلك صدر بتاريخ 24/ 07/ 2015 المرسوم التنظيمي عدد 562. 14. 2 للقانون الإطار عدد 09. 34 الذي نص في المادة 53 منه على أن والي الجهة يتولى رئاسة اللجنة الجهوية لعرض العلاجات، والتي تضم في عضويتها جميع عمال عمالات و أقاليم الجهة وإلى جانبهم المديرية الجهوية للصحة وبعض المكونات الأخرى.

أما بالنسبة للجماعات الترابية فإن اختصاصاتها الذاتية في ميدان الصحة المنصوص عليها في المادة 83 من القانون 14. 113 المنظم للجماعات الترابية تنحصر في إحداث وتدبير المرافق والتجهيزات العمومية اللازمة لتقديم خدمات القرب ونقل المرضى والجرحى، كما تقتصر اختصاصاتها المشتركة مع الدولة المنصوص عليها في المادة 87 من نفس القانون على صيانة المستوصفات الصحية الواقعة داخل نفوذها الترابي.

أما بخصوص المديريات الجهوية للصحة فينحصر دورها في تنفيذ السياسات العمومية والاستراتيجيات القطاعية في مجال الصحة على صعيد الجهات، في حدود نفوذها الترابي وفي حدود الاختصاصات المفوضة لها من طرف وزير الصحة مع مراعات خصوصيات كل جهة، وذلك وفق ما هو منصوص عليه في قرار وزير الصحة عدد 16. 003 الصادر بتاريخ 04/ 01/ 2016 بشأن إحداث وتحديد اختصاصات وتنظيم المصالح اللاممركزة لوزارة الصحة، في حين تتولى مندوبيات وزارة الصحة بالعمالات والأقاليم بعض المهام الإدارية والتقنية المحصورة والمنصوص عليها في المادة 17 من نفس القانون.

واضح إذن أن الوثيقة الدستورية قد أقرت الحق في الصحة لكنها لم ترق إلى درجة التصريح بضمانه وحمايته ، فضلا عن أن التشريع الوطني في المجال الصحي اتجه نحو تنظيم الولوج إلى العلاج والاستفادة من الخدمات الصحية، مع جعل مسؤولية تدبير المجال الصحي مشتركة بين الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، تحت إشراف وزارة الداخلية كما هو منصوص عليه بالمادة 57 من المرسوم التنظيمي عدد 562. 14. 2 للقانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية وعرض العلاجات.

ومن المعلوم أن الولوج إلى العلاج بالمستشفيات العمومية والاستفادة من الخدمات الصحية يتم عبر نظام الأداء، مع حصر الاستفادة من نظام المساعدة الصحية في الفئات الأكثر هشاشة، وهو ما يبقي قاعدة عريضة من المواطنين من ذوي الدخل الضعيف والمتدني أو الدخل المحدود ملزمة بتحمل مصاريف علاجها  رغم ضعف قدرتها الشرائية، فضلا عن إبقاء الفئات الوسطى عرضة لجشع المقاولات الطبية المستثمرة في القطاع الصحي المحدثة بموجب القانون 13. 131 المتعلق بمزاولة مهنة الطب، الذي تم تغييره وتتميمه بمقتضى القانون 21. 33 الذي فتح المجال الصحي أمام استثمار الرأسمال الأجنبي.

ومن المؤكد أن المنظومة الصحية في المغرب لم تسعف في تحقيق الأمن الصحي، وتجاوز أزمة القطاع الصحي، باعتراف المجلس الوطني لحقوق الإنسان كمؤسسة دستورية في تقريره الصادر بتاريخ 22/ 04/ 2022، الذي رصد من خلاله معيقات النهوض بقطاع الصحة متمثلة في غياب مسار علاجات منتظم وواضح، وهو ما يؤدي إلى هدر فرص التشخيص والعلاج ويؤثر سلبا على صحة وحياة الأفراد ، بالإضافة إلى ضعف التمويل الصحي الذي يتراوح بين 06 و07 في المائة من الميزانية العامة بدل المعيار المحدد من طرف منظمة الصحة العالمية كحد أدنى في 12 في المائة، كما أفاد التقرير وجود نقص حاد في الأطر الطبية متمثلا في الحاجة إلى 32 ألف طبيب و 65 ألف مهني صحي، كما أفاد التقرير أيضا أن المواطنين المغاربة يتحملون أكثر من 50 في المائة من المصاريف الطبية، وأكثر من 63 في المائة باحتساب المساهمات في التغطية الصحية، معتبرا ذلك عائقا حقيقيا أمامهم في الولوج إلى العلاج، كما وقف التقرير على ظاهرة هجرة الأطباء والأطر  الصحية، موضحا أن عدد الأطباء المغاربة الذين يمارسون مهنتهم خارج أرض الوطن يتراوح بين 10 آلاف و14 ألف طبيب. 

وإذا كان التقرير قد خلص إلى المطالبة بوضع استراتيجية وطنية للصحة كجزء من السياسة العامة للدولة، واقترح الاستناد إلى مفهوم الدولة الاجتماعية، وتجاوز المقاربة القطاعية، وضمان الأمن الإنساني، وتعزيز الجهوية وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، مع تشديده على أن الصحة  إشكالية مرتبطة بالتنمية وركن أساسي منها، فإنه لا يمكن تحقيق أي نهوض بالقطاع الصحي دون دمقرطة المؤسسات وتفكيك اقتصاد الريع المعيق لأي إقلاع تنموي، والتوقف عن الإذعان لإملاءات المؤسسات المالية العالمية، واسترداد سيادة الدولة على القطاعات الحيوية والاستراتيجية.

إلغاء الاشتراك من التحديثات