تازة بريس

أولاد باب المروج بين تازة العليا والسفلى وتنظيف حال كهف اليهودي ..

-

تازة بريس

سعيد عبد النابي

حضر عنيفيزة مع الأصيل في مهمة رسمية، اقتضت تنظيف أرضية كهف اليهودي وكنسها مع بسط صفحات من الورق المقوى ثم جمع الأعواد. تواجد المكان وسط غابة صغيرة امتدت كحزام اخضر فصل بين المدينتين يسر له الأمر، لم يأبه بمن صعد أمام عينيه أو بمن نزل، كان منشغلا في عمله.. كي لا يلام على تقصير.. نفس ساكن تازة السفلى كانت تشتاق لكل شيء في تازة العليا، الأزقة الضيقة وعبق الطناجر المتسلل الى الخياشيم من المطعم الصغير، كأنه خادم صاحب المحل يخرج لاعتراض سبيل المارة واستدراجهم الى الداخل، أو كأنها فاتنة تمارس الغواية على الضعفاء، من كان خاوي الوفاض لا يملك ثمن زلافة حريرة، على الأقل كان يمر ولا يتحرر من اسر النكهات حتى يبتعد عن المحل باميال، اما الملعق فكان لا يكفيه الاكل بنهم إنما يبقى في صراعه مع الصحن حتى يلعق ما بقي فيه لعقا. المتاجر كانت مفعمة بالسلع المختلفة مرصوصة على الواجهتين، ودار سينما “اطلس” تعرض الأفلام الهندية حينا والصينية حينا آخر، كأنها أنشئت لخدمة ثقافة الحب والعن في نفس الآن، تأثيرها على الشباب كان عجيبا يستمر أسبوعا بعد المشاهدة، ترى المهتم بعروضها إما شاردا مفكرا في الخير، لدرجة يذرف معها الدموع، أو متماديا في حركات مجنونة بالأيادي والأرجل، مقلدا أصوات الشاشة بكشوم بكشوم  مسميا العملية بدق التشنضيل.

أما نفس ساكن تازة العليا، فكانت تواقة لأنوار الشوارع الممتدة كالأشرطة السوداء، الحدائق الغناء الفنادق الفخمة الحانات المنتشرة في كل حي، ووجوه الفرنسيات وقوافل الأخوات الراهبات العاملات في المستشفى، ودارين للسينما ماجستيك وكوليزي، بعرض الأخيرة فيلم البؤساء كسرت الروتين فانتشر بين الناس اسم البطل وداع صيته  جان فال جان، كيف رفع العربة بكتفيه كأنه يمتلك قوة العمالقة، كيف أصلح العجلة المكسورة دون عون من احد، وكيف ألان الحديد بقبضة يده، كسيدنا داوود عليه السلام، العديد أحبوا شخصية جون كابان، العديد انبهروا وتأثروا، إلا إدريس كبير المساطيل كانت القوة تذكره بصدمة علال.. ثقلها باق لا يزال ضاغطا على قلبه، يكتم أنفاسه. وانى له بصبر ايوب ؟ وأنى له بحكمة لقمان؟ وكيف يتجاوز محنته؟ .هاته هي الأسئلة التي كانت تلح عليه بشكل عجيب …. لما وصل مطيطو الكهف وجد عنيفيزة قد حوله إلى استوديو، لم تنقصه سوى الستائر والسجاد وبضع كاميرات ليظهر كتلك الخيام الخليجية الخاصة بالدردشة والسهر، كانت الساعة تدق في السادسة مساء والشمس تختفي وراء جبال تازكة، حمرة الشفق تقتفي أثرها كالذيل وفي السماء الصافية تلألأت نجوم، وعلى الأرض تناثرت مصابيح ثابتة للمحلات والمنازل، أو متنقلة للسيارات، كان يختلط الأمر على البعض أمام تلك الجمرات المتنقلة، بحيث لا يستطيع أحدهم التمييز، بين سجائر المدخنين، وتلك الحشرات المضيئة المسماة برايقة..

ضرب امطيطو على كتف عنيفيزة شاكرا وهو يردد : ايكوت عليك اجمي .. ايكوت .. ماشي نهجروا ديورنا على هذ القبال ..معبرا عن فرحه ، فتحركت شفتي الأخير، وقد تهلل وجهه بالرضى والامتنان، وكله عزم على إنجاح سهرة الليلة ، سهرة؟ ام سمر؟ كل اللقاءات السابقة كان يسبقها موضوعها كعنوان نص أدبي، إلا لقاء هذه الليلة، قيل له : وجد الكاف… وتركوا الوساوس تنهش أفكاره هو اجتماع، بلا أدنى شك وأوامر سيتلقاها المساطيل، لا مناص وانتظار يفسد الدم… بعد إتمام العمل. لكن ادريس لم يتأخر، حضر بعد الغروب مباشرة، رفقة صاحبيه، حاملا بين سبابة كفه الأيمن و إبهامه، سيجارة، و في اليسار كيسا من الخيش، تسلمه امطيطو وهو ينثر التحايا على الثلاثة، بأسمائهم، ادريس، اللطيف، بو عودة، ثم نظر إلى المحتوى بعيون زائغة كشفت احتمالا واحدا، أن يكون هو طباخ الشلة، لا حظ البعض امتعاضه، وهو يرمي بالكيس جهة الموقد، والإحباط كقطران أسود يغلف كامل جسده، سيكلفه الوضع العودة الى بيته، لجلب طنجرة وصحن كبير، ان هو اكتفى بخضر لا تصلح سوى للسلطة، وصرخ صرخة قوية، خنقتها سحب الوجوم و التفكير.. وافينك المصيبة فينك.

كانت الأجواء مرطبة بنسائم الربيع العليلة بعد انصرام أيام العجوز الباردة، إلا ان النار كما ذكر عمي احميدة، الله يذكره بالخير في يوم بارد عاصف، حين وصل الى الموقد,..قال : الحبيبة و لهلا يخطيك علي .. لا دنيا و لا آخرة …النار، لابد من دفئها، لذلك أشعلوها المساطيل، للطبخ و التدفئة و الجمر، كما أوقدها أجدادهم قبلهم، في الجاهليات الأولى وزادوها التقديس..عدد أفراد الشلة سيتضاعف حتما، بعضهم سيأتي بلا أدنى شك محملا، وتعشم امطيطو اللحم من تأخر الخدير، كان لعنة على الطيور والأرانب .. وكل شيء حي، تواجد ليلا في الخلاء. كان الذهول يسيطر على ملامح الثلاثة، والرغبة في السكر جامحة، وصفعة علال كوميض البرق، تكشف أعصاب المخ، ودقات القلب كقصف الرعد ساعة اللعنة، لن يتحقق لهم فخر، الا بنصر، يحققون به الثأر .. في أعذب مذاقاته، بدا كبيرهم ناكس الرأس، ينخر دواخله اليأس، كأنه ما نام البارح، ولا غمض له جفن، أمد التفكير في علال سيطول.. سيطول كثيرا، هذا ما يوحي به الحال، صورة حمل الزحش من ساقه تراوده ليل نهار، في اليقظة يفكر في أمر لا يصدقه عقل، وفي الليل تتسلل إليه الصورة عبر كوابيس سدت في وجه الأحلام الأبواب، كل الأحلام، رجل يضرب أعداءه بحماره؟ ربما لم يكن في كامل وعيه، عليه ان يلاقيه ثانية.. وهو صاح مدرك متمتع بكامل قواه العقلية..

كاتب وجمعوي

إلغاء الاشتراك من التحديثات