تازة بريس
عبد السلام انويكًة
من أعمدة مغرب القصة القصيرة الحديثة ومعه العالم العربي، موسوعة بتجربة كتابة رفيعة تعود بدايتها لستينات القرن الماضي. طاقة تخييلية ابداعية رهيبة بتقدير مهتمين وباحثين وأدباء مبدعين مغاربة وعرب، مع ما طبعه من شغف قراءة لكل سرد وشعر ومساحات نصوص حول هذا وذاك من أفق تعبير بما في ذاك نصوص مسرح. يسجل ما لنصوصه القصصية من فسيفساء روح جامعة لفنون بما فيها فن حياة، فضلا عن زمن معيش وحس مشهد وتماسات ألم ووجدان وحفل ..، وهذا الذي لم يكن بأي حلم لمجد أدبي ولا موقع، نحلةٌ تزن هنا وهناك هي الكتابة في وعيه. وأما القصة فهي جدل ذات بسراديب ولادة عدة، ما هو قيصري منها غير مرحب به لديه. عالم قصته ما كان عليه ومعه جيله من هموم قضايا كبرى، وقد جمعت بين فكر وزخم ابداع عربي وعالمي فضلا عن اديولوجيات ونظم تعبير وتنظيمات. لا اهتمام له بما قد يبحث عنه غيره من صدى، وأن قارئا واحدا يشبهه ويُمتعه ما يكتب يكفي لاستمرارية كتابته. ما اشتهر به من خط قصة وخيط تحرير اعتبره جنسا أدبيا راقيا ضمن ما هناك من لون، وكل مزاج ذاتي في تقديره قد يكون سر ما له من قصة مع القصة، معتبرا ما يكتب انفلات من رمزية سلطة مجتمع وثقافة ومكون نفسي، فضلا عن إرث مشهد ووعي وسيرورات. وأن الكتابة بالنسبة اليه حريّة تعبير عن أيّ شيء وعن كل شيء بأيّ شكل وبكلّ شكل، وأنها سعيُ لحرية ليس ضروري وجودها للكتابة بل حبها وطلبها والدعوة اليها أيضا حرية.
ذاك هو الأديب والقاص المتميز ابن تازة وجبلها الشامخ الأستاذ أحمد بوزفور، الذي أثثت مساره كتاتيب قرآنية تمكن فيها من حفظ القرآن الكريم، قبل انتقاله الى فاس حيث القرويين الى حين حصوله على شهادة الباكلوريا أواسط ستينات القرن الماضي. ومن ثمة التحاقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس حيث تابع دراسته لمدة أربع سنوات، انتهت بحصوله على شهادة الاجازة في الأدب العربي وما أدراك ما شهادة الاجازة خلال هذه الفترة الطافحة من زمن مغرب ما بعد الاستقلال، حيث مساحة ورش وتطلعات على عدة مستويات بما في ذلك تطلعات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي كان مجاله الحيوي، الى حين نيله شهادة استكمال الدروس في الأدب المغربي الحديث مطلع سبعينات القرن الماضي. ليلتحق بعد ذلك بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حيث عمل أستاذا للشعر الجاهلي وقد طبعه بها ما طبعه من تميز وكفاءة درس جامعي. قبل أن يشد رحاله صوب وجهة أخرى حيث كلية الآداب والعلوم الانسانية عين الشق بالدار البيضاء، وقد توالت في رحابها وزمنها اصداراته القصصية والنقدية، من قبيل “الغابر الظاهر”(مجموعة قصصية) “صياد النعام” (مجموعة قصصية)،”النظر في الوجه العزيز”، “ققنس”، “قالت نملة”، “نافذة على الدّاخل” ثم “إني رأيتكما معًا”.. الخ، ثم “تأبط شعرا” الرسالة التي نال بها دبلوم الدراسات العليا أواخر ثمانينات القرن الماضي.
ولعل صاحبنا الفاضل ابن تازة أحمد بوزفور حفظه الله، بمسيرة ومسار أدبي وبصمات غير خافية عن باحثين مهتمين متتبعين وقراء، فضلا عن موقع ووقع خاص في اتحاد كتاب المغرب منذ عقود من الزمن. وعليه، فما هو عليه من اسم وحضور لافت معبر في مشهد المغرب والعالم العربي الأدبي، جعله أحد أركان الهوية الأدبية المغربية والمغاربية والعربية. بقدر ما هو له من تأثر بأعمال الكاتب المغربي محمد زفزاف رحمه الله، بقدر ما كان عليه من طموح لإخراج ما بجعبته وكيانه من هبة وموهبة سرد قصصي، ترجمه في أول نص له يعود لمطلع سبعينات القرن الماضي. وهو الطفل المتشبع المتشبث بهوية قرية، بما هي عليه هذه القرية من عوالم جبل وكوخ وشجر وحجر وواد وكائن، وغير ذلك مما أثث قوافي قصصه، وهو الذي يرى أن الأديب حينما يكون قاصا، يكون فردا ولسان حال فرد وليس جماعة.
هكذا هو بوزفور الأديب والقاص أو يكاد متفردا في عوالم تخيله، متوخيا صنعة واتقانا لمنجزه لغة واسلوبا وايقاعا وخيالا. بين المدينة والبادية حيث تازة، حاك رائد القصة القصيرة المغربية والعربية هذا بعض شخوص واثاث قصصه. وهو الذي لم يخف كون دخوله المدينة أفقده حريته، وأن ما كان عليه من بادية كان مجالا خصبا لحرية وحلم. ورغم ما كان عليه من مدينة هنا وهناك بين تازة وفاس والرباط والدار البيضاء .. الخ، ظل وفيا لقريته دون اية مودة للمدينة. ولعل مما ارتبط برائد القصة القصيرة المغربية والعربية أحمد بوزفور قبل عقدين من الزمن، رفضه جائزة وزارة الثقافة رغم قيمتها المادية المغرية. لاعتبارات جمعت في تقديره بين واقع حال بلاد وعباد وطبيعة سياسة واقتصاد وانسان وعيش ومعيش وحاجة..، محتجا على قبول جائزة في ظل واقع حقوق انسان وديمقراطية، وما هناك من تفاوت وتدني أجور وتدهور وضع ثقافي وتفشي أمية وانخفاض نسبة قراء. فضلا عما قال من اهمال يعاني منه رفاق دربه في الكتابة، باعثا بذلك لخلفه من اهل القصة بإشارات داعيا لعنايتهم بالقصة أولا وأخيرا وليس غير القصة. هذه بعض سفريات نصوص ومسار الأديب أحمد بوزفور الذي تربع على عرش قصة مغرب وعالم عربي، وبعض ما بلغه أيضا من موقع أدبي وشرفة كتابة كانت بقدر عال من القيمة المضافة للخزانة المغربية والعربية، لِما احتوته هذه الكتابة وما تأسست عليه من قضية وحلم ورسالة..، وما طبعها من تجريد بات بمكانة خاصة، بقدر ما جمعه هذا التجريد من واقعية وتكوينات ذاكرة، بقدر ما تعايشت فيه عناصر ذات فضلا عن طبيعة محيط وعلاقة بآخر دون حوار، وكذا أسئلة زمن سلطة واسطورة كانت بما كانت عليه من موجة وسحر حياة.
يبقى أحمد بوزفور ابن تازة/ الجبل، أديب ومثقف عميق وقاص مبدع رفيع المستوى، بل مدرسة شامخة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. اسم وعنوان ببصمة خاصة في مجال القصة القصيرة وطنيا، مغاربيا ثم عربيا، ومن ثمة ما كان عليه من صدى كبير واشعاع رافع لتازة وللمغرب وللقصة القصيرة التي ارتبطت به وبموقعه وتوقيعه ومواعيده. مبدع/ جبل ومقام يستحق من كل تازة وجوارها من جبال وتلال وغابات وشلالات وأودية وتاريخ وتراث وانسان وحاضر ومستقبل… كل اجلال واكبار ومحبة وتقدير. ومعه ثلة شعراء وزجالين وروائيين مرموقين من أبناء المدينة، انبتوا ما انبتوا بها من أثر جمالي جعلها واحة ابداع طافح بظلال ممتدة تذكرها ذاكرة موطن ووطن.