تازة بريس
عبد السلام انويكًة
تعميما للفائدة لدى الباحثين والمهتمين عموما بحقل الانسانيات، تحديدا منها مجال التاريخ ودروبه من قديم وحديث ومعاصر. ومن اجل ما ينبغي من تلاقح بين تجارب وايقاعات وتجليات وأزمنة الفعل البحثي الطلابي الجامعي المغربي بين الأمس واليوم، وحول التاريخ ومناهجه على هامش ما يجري اليوم في بعض الجامعات من تدن في المستوى العلمي والسلوكات الغير المقبولة، والتي لا تشرف أحداً بتعبير الأستاذ الدكتور العربي كنينح الباحث في تاريخ المغرب المعاصر وزمن فاس وجوارها من القبائل تحديدا منها قبيلة بني مطير، ومن منشورات وأوراق ومساحات هذا الأخير عن صفحته على الفيسبوك. ارتأت جريدة تازة بريس نصا له في الأصل هو تقرير كان قد تقدم به لنيل دبلوم الدراسات العليا (وما أدراك ما دبلوم الدراسات العليا في ذاكرة وأمس الجامعة المغربية) في التاريخ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط مطلع ثمانينات القرن الماضي، تقرير تقدم به لهذا الغرض أمام لجنة علمية غنية عن التعريف من حيث بصمتها وهيبتها واسهاماتها وتراكماتها العلمية البحثية في حقل تاريخ المغرب ولفائدة الخزانة التاريخية الأكاديمية المغربية، ويتعلق الأمر بالأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية الحالي، والأستاذ ابراهيم بوطالب وكذا الأستاذ محمد مزين رحمهما الله.
ورقة الأستاذ العربي كنينح :
” يسرني أن أقدم للطلبة الباحثين من مستوى الماستر والدكتوراه في حقل االتاريخ، ولعموم القراء والمثقفين المهتمين بعلوم الإنسان بصفة عامة، هذه الوثيقة التي يعود تاريخها إلى 25 مايو 1984 . ويتعلق الأمر بالتقديم الذي قرأته يومئذ أمام لجنة المناقشة بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ. وكانت هذه اللجنة مكونة من السادة الأساتذة : إبراهيم بوطالب رئيسا، وأحمد التوفيق مشرفا، و المرحوم العربي مزين عضوا. ويحمل هذا البحث عنوان:” آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بالقبائل في القرن التاسع عشر ( نموذج قبيلة بني مطير)” والمنشور سنة 2003 . وهذه الوثيقة ذات قيمة مرجعية يمكن لطلبة اليوم الوقوف من خلالها، على جدية ومستوى الرسائل الجامعية التي كانت تنجز قبل منتصف الثمانينيات، أيام الزمن الجميل في التعليم، ومقارنتها بما يقدم الآن في مؤسسات التعليم العالي اليوم لأخذ العبرة قصد النهوض بهذا القطاع من جديد الذي أصابه النكوص والوهن المترتب عن عوامل يصعب حصرها في هذا المقام.
“السادة الأساتذة أعضاء اللجنة المحترمين زملائي الأساتذة إخواني الطلبة، إن الدراسة التي أضعها بين أيديكم اليوم، مساهمة في الكشف عن بعض جوانب المجتمع المغربي في القرن 19. ويتناول موضوعها تحليل آثار التدخل الأجنبي في المغرب على علاقات المخزن بقبيلة بني مطير في النصف الثاني من نفس القرن. ومن المعلوم أن المغرب في هذه الفترة من تاريخه، قد تعرض لضغوط عسكرية، واقتصادية، ومالية متصاعدة من قبل الامبريالية الأروبية انعكست آثارها بصورة عميقة على بناه الاقتصادية، والاجتماعية وعلى علاقات الدولة برعاياها في مختلف جهاته. كما شهد تطورات سريعة ومتلاحقة، وعرف أيضا أحداثا متتالية تمثلت في انتفاض الكثير من القبائل وخروجها عن سلطة الدولة. وقد احتلت قبيلة بني مطير حيزا بارزا في تلك الأحداث انتهت بحصار المخزن في كل من فاس ومكناس في ربيع 1911 وتدخل فرنسا لرفع ذلك الحصار وإعلان نظام الحماية على المغرب. وإذا كانت حولياتنا التاريخية قد اكتفت بالإشارة إلى تلك الانتفاضات ، و أحجمت عن ذكر الأسباب الحقيقية التي تكمن وراءها ، فإن المصادر الأجنبية المعاصرة قد عزت أسباب تلك الفورات بصفة خاصة، إلى طبيعة من طبائع تلك القبائل، وإلى نوع العلاقة التي كانت قائمة بينها وبين المخزن، وذلك بغية التشهير بسياسة الدولة المغربية وتشويه سمعة رجالها، وقلما ربطت الأحداث التي عاشها المغرب في ذلك الوقت، بأسبابها الموضوعية المتمثلة في التدخل الأروبي بشتى أشكاله، في شؤون البلاد الداخلية، وانعكاساته على أوضاع المخزن المالية وعلائقه السياسية .
إن تاريخ المغرب في القرن 19، بالرغم من قصر المدة التي تفصلنا عنه، مجهول في كثير من جوانبه ولا نعرف عنه سوى القليل. كما أن انعكاسات آثار التدخل الأجنبي على تطور بناة الاقتصادية ، والاجتماعية، والسياسية، في ذلك الوقت، لم يحظ لحد الآن بدراسات علمية من شأنها أن تكشف عن التطورات التي جدت في المغرب ،وأثرت بالتالي، في تركيب بنى مجتمعنا في ذلك التاريخ. وبالإضافة إلى ذلك، تظل أجهزة الدولة وتنظيماتها السياسية، والإدارية، والاقتصادية ، وعلاقاتها برعاياها مجهولة بصفة عامة. ويحاول هذا البحث رصد العوامل المختلفة التي تحكمت، في القرن الماضي، في سيرورة مجتمعنا وتشكل بنياته ، من خلال دراسة قبيلة بني مطير، كنموذج، والتي تمثل شريحة من شرائحه .وأشير هنا إلى أنه قبل أن يستقر اختياري على هذه الحقبة بالذات، سبق لي أن قمت بدراسة علاقة الدولة بنفس القبيلة ولكن في فترة الحماية. فقد شرعت في تحضير هذه الرسالة ابتداء من اكتوبر عام 1979 تحت إشراف الأستاذ إبراهيم شحاثة حسن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. وكان موضوعها وقتئذ: ” بنو مطير وإدارة الحماية 1912 – 1930″ . وقد تم اختياري لهذه الفترة بالذات بإشارة من المشرف السابق، وبناء على علم مسبق بوجود وثائق كثيرة محفوظة في مصلحة الجيش الفرنسي التاريخية بقصر فانسان بباريس تهم الموضوع Service Historique de l’Armée de Terre,) (Château de Vincenne). إلا أنه بعد المضي في الدراسة، وبعد توصلي بتلك الوثائق، تبين لي، أن ما كنت أعلق عليه الآمال، ليس سوى تقارير طبوغرافية وعسكرية تتعلق بعملية التهدئة والمعارك الحربية التي خاضها بنو مطير وسائر قبائل الأطلس المتوسط لمقاومة الغزو الفرنسي بين سنتي 1912 و1920 . كما اتضح لي من خلال الدراسة التمهيدية التي قمت بها ، أنه ليست هناك وثائق ومصادر وطنية في الموضوع يمكن الاستعانة بها للكشف عن حقيقة ما كان يجري في المنطقة.
إذاك بدأت أفكر إما في تغيير الموضوع، أو التخلي عن هذه الفترة ودراسة حقبة أخرى سابقة لعام 1912 . وصادف هذا التردد انتهاء مهمة الأستاذ المشرف السابق بالمغرب ومغادرته للكلية. فاستمرت في البحث في نفس الموضوع ولكن هذه المرة، في الفترة السابقة للحماية، وبالضبط في النصف الثاني من القرن 19، واضعا نصب عيني إما أن أجد شيئا أو أغير الموضوع. فأخذت أنقب عن الوثائق والمصادر الوطنية في مختلف المكتبات المغربية، بعد أن حصلت لدي قناعة من خلال التجربة الأولى، بأنها هي الأساس لكتابة تاريخ البلاد، ولا يمكن الاستغناء عنها. فعثرت، مع حسن الحظ على عدد كبير نسبيا من المراسلات والوثائق التي كان يتبادلها السلاطين مع ممثليهم في بني مطير، ثم اطلعت على عدد من الكنانيش والسجلات والحوالات المحفوظة بالخزانة الحسنية. فبدأت تتكون لدي بالتدريج فكرة عامة عن دواليب الدولة وهياكلها الإدارية وتنظيماتها السياسية. كما بدأت أنفذ شيئا فشيئا إلى واقع ما كان يجري في المغرب في ذلك الوقت، من خلال تصفحي وقراءتي لعدد من الوثائق المخزنية، سواء منها التي تتعلق بالموضوع أو تلك التي تتطرق لمواضيع تهم قضايا مختلفة ومناطق متعددة من البلاد. وبعد حصولي على ذخيرة لابأس بها من الوثائق الوطنية، انتقلت إلى البحث في المصادر الأخرى، المطبوعة والمخطوطة منها، مدفوعا بفكرة مسبقة بأن وثاق الدولة لا يمكن أن تعكس سوى وجهة نظر رسمية .وهذا اعتقاد خاطىء ، لذا فأنا مضطر إلى التنقيب عن مصادر وأصول أخرى يمكن من خلال مقارنة ما جاء فيها من معلومات حول الموضوع بما ورد في الوثائق المخزنية، الوقوف على حقيقة ما كان يجري في هذه المنطقة. فاطلعت على عدد من الحوليات التاريخية وكتب التراجم والمناقب والأنساب والرحلات وكتب الجغرافية وغيرها، وبعد ذلك بدأت أقرأ في المصادر الأجنبية الصادرة قبل عام 1912، وهي قليلة من حيث العدد بالمقارنة مع ما كتب في عهد الحماية.
وفي صيف عام 1981 زرت باريس وبحثت في أرشيفات مصلحة الجيش الفرنسي التاريخية، وصورت منها عددا لا يستهان به من التقارير والوثائق التي كان يبعث بها الضباط الفرنسيون الذين استقروا بالمغرب منذ سنة 1877، وبدأوا يشرفون على تدريب الجيش المغربي ابتداء من ذلك التاريخ. ثم اطلعت على بعض كنانيش وزارة الخارجية الفرنسية ب كي دورسي ((Quai d’Orsay، وبحثت أيضا في بعض الخزانات المتخصصة، مثل مكتبة متحف الإنسان ( Musée de l’homme) المتخصصة في الدراسات الإفريقية، وثائق دول ما وراء البحار، ومركز الدراسات العليا لإفريقيا وآسيا المعاصرة C.H.E.A.A.M) ( والمكتبة الوطنية. وقد استهدفت من وراء هذا التنوع في المصادر والمراجع، سد النقص والثغرات الموجودة في مصادرنا الوطنية من جهة ،وحتى لا أسقط في نظرة أحادية الجانب للوقائع والأحداث، من جهة ثانية. وأثناء قيامي بالبحث عن المصادر والمراجع، كنت أجري، بموازاة ذلك، اتصالات ببعض المطيريين في عين المكان، لأهمية الرواية الشفوية في استجلاء بعض الغموض، والتحقق من نطق بعض الأسماء والألفاظ الأمازيغية. كما استجوبت عددا من المسنين الفاسيين والمكناسيين الذين لا تزال أحداث عام 1911 عالقة بأذهانهم ، ويتذكرونها بكثير من الأسى والأسف. وبعد ذلك اتصلت بأستاذي أحمد التوفيق وعرضت عليه الموضوع، وسجلته من جديد بهذه الكلية في نونبر 1981 تحت عنوان:” بنو مطير والمخزن (1873 – 1912). ولم أغير العنوان القديم بالعنوان الحالي، إلا عند الطبع بإشارة من الأستاذ المشرف، بعد أن اتضح لنا أنه أنسب للموضوع من العنوان السابق.
وقد اعترضتني في جمع مادة هذا البحث، صعوبات كثيرة، منها ما هو إداري، ومنها ما يتعلق بطبيعة مصادرنا التاريخية، كانعدام الفهارس، ورداءة الخطوط، وعدم ترتيب الوثائق وتصنيفها، ومناهج مؤرخينا في الكتابة والتأليف. إلا أن هذه المعاناة علمتني الصبر والأناة وهما صفتان يجب أن تتوفرا في كل باحث ولاسيما الباحث في حقل التاريخ. وإلى جانب المشاق المتعلقة بعملية الجمع والسفر والعراقيل الادارية، وجدت أيضا صعوبة كبيرة في فهم نصوص ما حصلت عليه من وثائق ومستندات. فوثائقنا غامضة ولا تبوح بسهولة بأسرارها. وتتمثل صعوبة قراءة الوثائق في الشكل والمضمون. فالمصطلحات والعبارات الواردة في نصوصنا، عبارة عن ألغاز يصعب فكها وحلها، وتحتاج إلى قاموس تاريخي خاص لشرحها. وأتمنى أن يساهم كل الباحثين، في المستقبل، في وضع وإخراج هذا القاموس إلى الوجود ليستفيد منه الباحثون والدارسون، وليدفع بعجلة البحث التاريخي إلى الأمام. وبالإضافة إلى ذلك يجد الباحث صعوبة كبيرة في النفاذ إلى محتوى الوثائق والنصوص، بسبب عدم وجود دراسات علمية كثيرة مساعدة يمكن الاستعانة بها لفهم حقيقة ما كان يجري في المغرب. إذ لم يحظ تاريخ بلادنا لحد الآن بدراسات علمية كثيرة يمكن الاعتماد عليها للكشف عن طبيعة مجتمعنا وخصائصه. فالبحث التاريخي في المغرب لازال في بدايته، وهنا تكمن صعوبة الرعيل الأول من الباحثين في هذا الحقل. فعليهم تقع مهمة اختراق فجاج هذه الغابة الوعرة المسالك، وعليهم تقع أعباء وضع الأسس الأولى لانطلاق عملية البحث التاريخي في البلاد. ولا تخلو المصادر الأجنبية من صعوبات، وتكمن المعضلة هنا بصفة خاصة في الكشف عن الزيف ووضع اليد على الأبعاد الاديولوجية في كتابات المؤرخين الأجانب. فجل الذين كتبوا عن تاريخ بلادنا من رجال السياسة المرموقين وبعضهم وفد من الجزائر وتونس مزودين بتجربة واسعة في ميدان الإستعمار ، وعلى إلمام كبير بالأساليب السياسية الكفيلة بخدمة أغراضهم وتحقيق مشروعهم الإستعماري.
لقد سرت في كتابة هذ االبحث على منهج يعتمد على الوصف والتحليل تارة، على الاستنتاج والاستقراء في كثير من الأحيان ولم أعتمد على رؤى أو نظريات مسبقة لتحليل مختلف الموضوعات التي تعرضت لها في هذه الدراسة. فقد انطلقت أساسا من استنطاق النصوص واستقراء الواقع، لصياغة النتائج التي توصلت إليها. وفي هذا الصدد تعمدت الإصراف في إدراج النصوص متوخيا غايتن إثنتين، الاستشهاد والبرهنة على ما أردت استخلاصه من جهة و الإسهام في نشر الوثائق ليستفاد منها في المستقبل في دراسات مشابهة من جهة ثانية . وكان بالإمكان الاكتفاء بالإشارة فقط إلى مضامينها ومراجعها، إلا أن مجرد الكشف عن الوثائق ونشرها في شكلها الخام، في هذه المرحلة على الأقل التي لا يزال البحث التاريخي في المغرب في بدايته، يشكل في نظري مساهمة في غاية الأهمية في دفع عجلة البحث في هذا الميدان إلى الأمام، حيث لازالت القيود مضروبة على الوثائق ولازالت بعض الأسر تمتلك عددا كبيرا منها وتحرم الباحثين من الإستفادة منها.
إن الفترة التي يدور فيها موضوع هذا البحث، تميزت بأزمة مالية واقتصادية متصاعدة، عرف المغرب خلالها تحولات عميقة في بناه الاجتماعية والسياسية وهياكله الإدارية. وقد نجمت تلك التطورات عن تزايد الضغوط الأروبية بسبب التحولات الاقتصادية السريعة والثورة المادية الهائلة التي كانت تشهدها أروبا في النصف الثاني من القرن 19. وقد حاولت هذه الدراسة تتبع آثار تلك الضغوط على أوضاع المخزن المالية وعلى علاقته برعاياه بقبيلة بني مطير. كما استهدفت رصد التطورات التي طرأت على بنية المغرب الاجتماعية والاقتصادية ، والسياسية، المترتبة عن ذلك . وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة أبواب، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة. تناول الباب الأول دراسة تطور قبيلة بني مطير في الزمان والمكان. فتعرض للأسباب المادية والسياسية التي كانت تكمن وراء ظاهرة زحف قبائل الجنوب بصفة عامة نحو الشمال، وتطلعها باستمرار، منذ بداية العصور الحديثة، إلى الوصول إلى السهول والهضاب الشمالية، تلك الهجرة التي لم تفتر موجتها إلا مع بداية القرن التاسع عشر. وتطرق الفصل الثاني لوصف إطارهم الجغرافي. وعالج الفصل الثالث كيفية انتظام المجموعات داخل القبيلة. فأبرز التحليل الأسباب السياسية والإقتصادية التي كانت تتحكم في القرن الماضي، في توجيه علاقة الأفراد والمجموعات داخل القبيلة . كما تصدى لتتبع الدور الذي لعبه المخزن في تشكيل مرفلوجيتها الاجتماعية، ذلك الدور الذي أغفلته الكثير من الدراسات السسيولوجية الأجنبية التي نظرت إلى المجتمع المغربي نظرة سكونية، وقلما تنبهت إلى العوامل التاريخية، والمادية ، والسياسية التي تحكمت في تشكيل البنية الإجتماعية للمغرب ككل. وفي الباب الثاني، تعرضت هذه الدراسة لنشاط المطيريين الاقتصادية . فتطرق الفصل الأول منه لتحليل التطورات التي طرأت على ديموغرافية القبيلة، ورصد الأسباب الطبيعية، والاقتصادية، والسياسية التي أثرت على نموها، وحجمها، وتشكيل بنيتها السكانية. وتطرق الفصل الثاني لوصف نشاطهم الفلاحي، فخرج التحليل بملاحظة هامة تتمثل في كون النشاط الفلاحي لكثير من القبائل، قد تأثر في القرن الماضي بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية، بالعلاقة السياسية التي كانت قائمة بين المخزن وهذه القبيلة أو تلك. وفي الفصل الثالث، تطرق التحليل لنشاطهم التجاري وأمكن من خلاله، الوقوف على الأسباب المختلفة التي كانت تعرقل حركة المبادلات التجارية بين المدن والبوادي بصفة عامة، كما أبرز نفس الفصل تأثير الغزو التجاري الأروبي على موارد السكان، وعلاقاتهم بتجار المدن المجاورة. وفي الباب الثالث، تعرض هذا البحث لوصف حياتهم الاجتماعية، فتطرق الفصل الأول منه، لدراسة تراتبهم الاجتماعي، وخرج التحليل باستنتاج يتمثل في كون الضغوطات الجبائية ، وعلاقة الدولة بمختلف فئات السكان، قد لعب في القرن الماضي، دورا حاسما في تصنيفهم إلى فئات اجتماعية متباينة، على خلاف بعض الدراسات التي انطلقت من الثروة العقارية، والنفوذ المستمد من السلطة الدينية والزمنية، لرسم معالم الهرم الاجتماعي للمغرب في ذلك التاريخ. ودرس الفصل الثاني والثالث من نفس الباب، حياتهم الدينية والثقافية، وتتبع التحليل المؤثرات الاقتصادية، والسياسية التي تحكمت في صياغة قوانين عرفهم الجماعي، والظروف الاجتماعية ، والتاريخية، والسياسية التي طبعت أنماط ثقافتهم . وخصص الباب الرابع لدراسة علاقة المخزن برعاياه، وتصحيح عدد من الأنظار التي تكونت حول سياسته تجاه محكوميه من خلال بعض الدراسات الاستعمارية التي كانت تحاول تشويه مقاصد الدولة وطمس دور رجالها. وقد قسمت هذا الباب إلى خمسة فصول ، تطرق الفصل الأول لوصف مختلف الأدوار السياسية والمالية التي كان يضطلع بها ممثلو المخزن المحليين في القبيلة، وعالج التحليل نوع العلاقات التي كانت تربطهم بحكوميهم من جهة، والتزاماتهم تجاه المخزن المركزي من جهة ثانية . وفي الفصل الثاني والثالث منه، تطرقت هذه الدراسة لوصف مختلف الأصناف الجبائية التي كان يأخذها المخزن من القبيلة، كما تتبعت آثار الضغوط الأجنبية على الدولة وانعكاساتها بالتالي، على علاقاتها الجبائية، والتسخيرية برعاياه في قبيلة بني مطير. وفي الفصل الرابع من نفس الباب حاولت هده الدراسة، وصف انتفاضات بني مطير، ورصد الأسباب المختلفة التي دفعت هذه القبيلة إلى التمرد على سلطة الدولة في كثير من حقب هذه الفترة. وفي الفصل الخامس، تتبع هذا البحث السياسة التي سلكها المخزن لكسب واستمالة هذه القبيلة وتهدئة الأوضاع في المنطقة بصفة عامة.
إن هذا البحث لم يكن ليتم لولا الدراسة التي قام بها قبلي أستاذي أحمد التوفيق حول قبيلة إينولتان في القرن19. فقد وجدت فيها المرشد الأمين، واستفدت من منهجه القويم والسليم. فقد وضع أمام الباحثين الجدد، بأطروحته المذكورة، نموذجا مثاليا لكتابة الأبحاث التاريخية . وهو بذلك وضع أيضا مقياسا للمستوى الذي ينبغي أن تصل إليه الرسائل الجامعية. ولا أقول هذا مدحا أو تملقا ، وإنما اعترافا بفضله ودوره في إخراج هذا البحث. ولاشك أن السادة الأساتذة أعضاء اللجنة المحترمين، قد وقفوا في بحثي هذا، على بصمات منهجه في التقسيم والتبويب والتحليل وطريقة صياغة النتائج. وفي هذا السياق أشكره شكرا جزيلا على قبوله الإشراف على هذا البحث، وعلى تشجيعاته. كما أشكر الأستاذين إبراهيم بوطالب والعربي مزين على قبولهما قراءة هذا العمل ومناقشته، والشكر موجه ايضا للحضور الذي شرفنا هذا اليوم ووفد من مختلف مدن المغرب.”
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث