تازة بريس

للاخدوج في برلمان باب المروج ..” رَّاضْ أيَمَّا ايْهَزوني رَجْلايْ…رَّاضْ ” ..

-

تازة بريس

سغيد عبد النابي

لو كانت الأرض طاووسا لكان المغرب ذيله، هذا ما راج عن وطني في الأمثلة العالمية قبل اكتشاف أمريكا. وتازة جميلة، غنية بالزراعة والمياه محاطة بالجبال والسهول وذات موقع استراتيجي، هذا ما شهد به تاجر الملك الفرنسي لويس 14 صاحب شركة الخزامى عند زيارته مولاي رشيد سلطان الطلبة. طبيعة دواوير باب المروج من ذاك الذيل الجميل الباعث على زهو الطاووس الطاغي، الفواحة بنكهات الفواكه وعبق الأعشاب الطبية لدرجة الإفتان، المستعمر الذي استقر بها كان له نصيبا من هذا الافتتان، رأى في المانزيز ما لم يره غيره من ساكنتها فإستغل ماء عيونها الزلال وانشأ مشتلا أبقى وراءه أشجارا مثمرة وارفة الظل تسيل فاكهتها اللعاب.

هو الافتتان نفسه الذي جعل القايد يبسط يده على الأرض في أول فعل تسلطي له بالمنطقة، بساط ينضح بالخضرة ويتحدى الحر ذي عشب يانع لا يصفر ولا يحوله الزمن إلى هشيم، جعل برنوخ يفضل معاقرة كؤوسه الملعونة عليه رفقة صديقه الحميم عويد، غير آبه بردود فعل الساكنة، ومن يجرؤ على برنوخ؟ الزنزانة بالنسبة اليه قصر، ولحزامه مع السكاكين علاقات وطيدة يخافه رجال السلطة ويتنجنبه الضعفاء. حتى الجغرافيا استسلمت له، يعيش في موضعه لحظات كأنه سلطان، عرضت عليه تفاصيل أخاذة، على يساره مقام سيدي احمد الزروق يذكره بتاريخ مشرق مضى من سلالة المولى إدريس الذي ابقي البرية خالدة، وعلى اليمين غابة ازدم بصمة خضراء وبينهما تلوان، اسم امازيغي يعني انسياب الماء من تحت أشجار الأجمة، وهذا يكفي لوصف طبيعة الدوار.

عند جدع شجرة تين مباركة متميزة بحجم فاكهتها البيضاء وضع برنوخ صخرة، على بعد خطوة أو خطوتين من ساقية، نبعها المازيز، معن الأرض ذات ماء رقراق منساب اتخذها كرسيا، ومعها جدع الشجرة متكأ وعلى يمينه فضل صاحبه عويد الاستلقاء ناظرا إلى زرقة السماء في الأعلى، مستمتعا بوقع نسيم عليل لين الهبوب استعدادا لقضاء وقت طويل يوصلهم كعادتهم إلى الثمالة. بداية، الشرب كان مع الأصيل، قررا أن لا يبرحا المكان حتى إنهاء كل ذخيرتهما، «قنينات الخمر، وصُرّات القنب الهندي» لو كان بإمكانهم توفير سموم أخرى لسعوا وراءها، صلبة أو رطبة لينة أو حرشاء، لا يهم، المهم تغييب العقل، الليلة سهرتهم إلى الغروب أو إلى الشروق، لا شيء يثنيهما، ذاك دأبهما حتى تخور قواهما ويصبح الكأس في اليد حملا ثقيلا، أو تخطئ يديهما الطريق إلى شفاههما، اليوم خمر..نعم، وغدا خمر،حتى نسيان الأمَرّ. وبرنوخ من جند المسيح الدجال الأوفياء، لو أذن إبليس في عالم تتجلى فيه الأرواح لرايته معهم في نفس الصف يصلون صلوات الشر و يبتهلون لأمرد الشياطين، فتح عينيه على دنيا تدنت فيها كل القيم، رأى أول ما رأى سقف بيت من قصب متراص على أعواد نخرتها الحشرات، كأنه رص على عجل، وضع على طبيعته دون تشذيب أو تهذيب، منه تدلت أوراق بدت كشرائط الزينة المستعملة في قاعات الحفلات، كلما اهتزت لريح تبعها بعينيه محركا يديه ورجليه إلى الأعلى مبتسما، مستلق يحاول الإفصاح عن مكنون فؤاده فلا يستطيع، فيحاول تحقيق رغباته عبر الصراخ أو البكاء أو الرغاء ما بقيت أمه عنه منشغلة، لو أسعفته طاقته لحبا إليهاـ أوراق القصب ـ وتعلق بها. وساهمت العناكب في جمالية الصورة بما نسجت من بيوت متفرقة في كل زاوية، وبما أرخت من خيوط لصيد فرائسها، وكلما دخلت عليه أمه ورأته نظرات مشدودة إلى السقف شاركته حركته و ساءلته لترفه عنه : “شنا اتشوف  اكبيد ؟ عجباك السقف ؟ فيه الرتيلا ؟ اولا الشريشفات؟…. عجبوك ؟ ..حمقوك؟”

تسأله أي سؤال يخطر على بالها مهما قلت أهميته لعله ينبس بحرف، وتدغدغه على بطنه وتحت إبطيه ليسمعها ضحكاته الساحرة، ثم تختم العملية بقبلات توزعها على شتى أنحاء جسمه الغض. وفي بعض الأحيان، تتمادى في الرغي فتخيفه بالحشرات والحياة الأخرى خلف القصب، خصوصا والعناكب تجرؤ على الابتعاد إلى الأرض كأنها تود الاستقرار على وجنتيه، معتمدة على تلك الخيوط الرفيعة التي تعيدها إلى بيوتها كلما تملكها الرعب. كانت الأم تستغل المشهد لترهبه، لتتخلص من صراخه مستقبلا، تحبك خيوط خرافات، منها ما بنيت على منطق، ومنها ما تبرأ المنطق منها، كأن تقول له: أن العنكبوت القادم، وراءه جيش عرمرم، وأن الحشرة الصغيرة، تعمل مخبرة لدى أخرى عملاقة، وهكذا دواليك، حتى أصبحت الحشرات من أهل البيت ملزمة بالاحترام و الوقار، بنى الفراغ بينهما ألفة غذت فيهما رغبة  تأمل الآخر، من أيامها أصبح الخوف في قلب برنوخ مجرد مزحة، وحكاية من نسج الخيال. ألف وجه أم دأب ثغرها على سرد كل الحكايات، بدءَا بالحشرات، مرورا على القصص المأثورة، وصولا إلى فاجعة رحيل الزوج الأب، ذاك الفتى الطيب الذي غصبته أكف المنون في ليلة ممطرة، تهاوت فيها حيطان البيت إتباعا كلعبة الدومينو. وبقيت الصور راسخة في ذهنه كلما ضاقت به الأرض تثار، وفاة الأب، حدث لم يستسغه بالمرة خياله، كان يتساءل في كل مناسبة كيف إختطف منه القدر حياته عنوة وهو صغير السن، ويفكر أيضا في حكمة الله من تيتمه، ويهاجس نفسه: ما حكمة الله من حرمان أمه وظلم أعمامه لهما؟

صغيرا كان يكتفي بالنظر دون تحريك ساكن، حتى لو رأى شرارات الغدر في عيون الزائرين كان يلزم الصمت احتراما وحبا لأمه، يرى وجهها يعكس كل ألوان الغضب لكنه لا يتكلم. فقدانها عذريتها باكرا، مع إحتفاظ جسمها بنضارته جعلاها تأسر مرضى القلوب في محيطها، جلهم تحرشوا بها معتبرينها لقمة سائغة. وكان ذلك يفاقم من مخاوفها وحيرتها، مما جعلها تربيه على التحمل والصبر، تكابد ظلم الآخرين لهما كي لا تفقده هو الآخر، أو تكون هي الضحية فتتركه وحيدا بلا سند، لأجله تكبدت الأمرين، في انتظار غد أفضل، ففرضت على أذنيها الصمم وابتلعت لسانها بالمرة كي لا تشعل نارا تكون فيها هي وصغيرها أول الهلكى، كانت تتوسل إليه أن لا يرد، أن يسكن الصمت، أو يدع الصمت يسكنه، لا فرق، أن لا يتصرف تـصرفا يـؤذيه، وكانت بتلك الهواجس تكبله و تحنطه كموتى قفران النحل. ومرت الأيام جميلة، رغم كل شيء، أنساه حضن أمه المآسي لفترة طبعت طفولته، كانت تنظر إليه بفرحة عارمة وهو يكبر، كلما إزداد طوله بضع سنتيمترات أوهمته بأنه على وشك أن يصبح رجل البيت، وكان يصدقها فتنتفخ رئتاه فخرا ويعيش التحول يوميا، فتحمله أجنحة الحلم إلى كبد المروءة، ويحاول ضمها إليه ضمة رجل يافع، لكنه لصغره اكتفى بالنط فوق ظهرها، فإذا وصل رقبتها تعلق بكتفيها، ثم يسقط في حضنها فتتلقفه و تدغدغه لتغذي متعتهما، كانت تجد في تلك الحركات العوض عن أشياء كثيرة، على رأسها أجهزة التواصل السمعي المرئي المنعدمة في بيتهما. وكانت تستأنس به كما يستأنس هو بها إلى أن يطرق الباب من في قلبه مرض فتثور زوابع الغضب، في دواخل الأم خاصة، ويتكدر الوجه المليح، لقد تجاوز السي العربي كل الحدود، كأنه انتظر موت أخيه ليظفر بها جسدا وإرثا. وعلى رغم كثرة الإستفزازت، كان برنوخ يخلد إلى الصمت حتى لا يزيد حال أمه سوءا، مكتفيا بنسج أحلامه، باحثا في تدفق أدريناله عن سلواه، في براءة الأطفال.. كان يعدها غير ما مرة بالانتقام لها:” راض ايما ايهزوني رجلاي…راض (راد) ، و الله الكلب اللي ما وقركش يا حتى نشمططو و لعب بعطامو شرا  فالسما”. 

كاتب وجمعوي

إلغاء الاشتراك من التحديثات