تازة بريس
غير خاف ما لفعل المجتمع المدني الرصين من أدوار رافعة على عدة واجهات وعلى أكثر من مستوى، بما في ذلك ما هو فعل وتفاعل مجاور لمؤسسات بحثية أكاديمية تروم إعداد وتأهيل وتأطير وتكوين التجارب ومن ثمة موارد بشرية، بما يسمح بولوج غمار مجالات عدة منها ما هناك من استحقاقات علمية فكرية فضلاً عما هو بعلاقة مع كل تنمية مجتمعية. ولعل من المفيد لكل فعل مجتمع مدني يراد له أثراً وفعلاً من جهة وقاطرة ببرامج عملية وظيفية من جهة أخرى، أن يقوم على ما ينبغي من خطة عمل وأهداف بمعالم واضحة واقعية ذات مدخلات وتدابير ومخرجات، تستمد روحها وكيانها فعليا وتفاعليا من مرجعية دستورية قانونية، تجعله بادراك جيد لمهامه ولِما يمكن أن يسهم به ليس فقط من اشعاع بل ايضا من خلق وتشارك وتلقيات، ضمن حلقات معرفة ومهارات منفتحة استشرافية تبصرية مستدامة. ولا شك أن من المهم بالنسبة لأي فعل جمعوي ايضا استيعاب ما هو بصدده، بتحريكه لوعيه وانتقاله مما هو نظري مغلق وضيق صوب ما هو إنجاز ومن ثمة ما هو منشود من أثر.
وعي جمعوي جهوي ضمن هذا السياق تأسس عليه أول ملتقى جهوي للمؤرخين الشباب قبل سبع سنوات، ذلك الذي نظم ربيع سنة ألفين وستة عشر من قِبل جمعية روافد بفاس، بتعاون مع جامعة سيدي محمد بنعبد الله بفاس والمدرسة العليا للأساتذة. موعد علمي جمعوي تأسس على شعار“المؤرخ في قلب نهضة الشعوب”، تكريما لعلمين علميين وعميدين مفكرين باحثين مقتدرين، كل من الدكتور عبد الرحمن طنكول والدكتور ابراهيم أقديم. وكانت افتتاحية هذا الموعد والفكرة غير المسبوقة”ملتقى جهوي لمؤرخين الشباب”، كلمة باحالات واشارات رمزية بقدر كبير من الأهمية تجاه المجتمع المدني والباحثين الجدد بالجامعة المغربية عموما، وتجاه ما هو اعتراف وتلاقح بين سلف وخلف، تحدث فيها الدكتور عمر صبحي رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس آنذاك، عما كان عليه المحتفى بهما من جدية أغنت تدبير المؤسسة الجامعية بفاس سواء على مستوى تطوير عرضها العلمي أو من حيث ما هو حكامة فعل اداري وبيداغوجي. في شق علمي لملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا، قبل سبع سنوات، كانت هناك اسهامات باحثين متخصصين عن عدة مؤسسات جامعية مغربية.
وكان سؤال الأدب والأديب والبحث العلمي والتجديد وعلاقة المؤرخ والأديب، من خلال تجربة كل من الباحثين عبد الله العروي وأحمد التوفيق وغيرهما ممن اهتم بالرواية والتاريخ، هو ما توزعت عليه ورقة الدكتور عبد الرحمن طنكول عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر مهراز بفاس ورئيس جامعة ابن طفيل بالقنيطرة سابقا. أما الدكتور محمد بن هاشم الباحث في التاريخ وإحدى العلامات التي طبعت الدرس الجامعي بفاس تحديدا بكلتي ظهر المهراز وكلية سايس بفاس على امتداد عقود من الزمن، فقد تحدث للمؤرخين الشباب في هذا الموعد عما هناك من تفردات لمدرسة تاريخية مغربية مقارنة بأخرى عربية اسلامية مشرقية، من خلال قراءته ومقاربته لمسألة الجيل والتاريخ ولنماذج من مؤرخين وباحثين مغاربة، تباينت اهتمامهم وتخصصاتهم بين زمن قديم ووسيط وحديث ومعاصر وراهن بحسب أولويات وسياقات عدة ومتداخلة. مع وقفة تأمل له حول ما هو محلي وعام في تاريخ المغرب وما هو جزئي وكلي فيه، دون اغفال جهود واهتمامات استهدفت الرد على انتاج فكري تاريخي استعماري باعتماد مناهج عدة، مؤكدا أن المدرسة التاريخية المغربية كانت بزعامات وأنها في عمقها هي مدارس وليست مدرسة واحدة.
من اسهامات ومداخلات ملتقى فاس للمؤرخين الشباب هذا ايضا، تلك التي تقدم بها الدكتور سمير بوزويتة الباحث في التاريخ وعميد كلية الآداب والعلوم الانسانية سايس فاس حاليا، صاحب جملة اصدارات علمية في حقل البحث التاريخي والقضايا العلائقية الوطنية، منها مؤلف”مكر الصورة” و ”تاريخ العظام البشرية في مغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين” وغيرها من المؤلفات الأخرى. مساهمة تمحورت حول سؤال فعل المؤرخ وتفاعل المؤرخ ومتاهاته من خلال اثارة جملة سياقات ومكونات، من قبيل تمثلات هذا الأخير وانشغالاته عند تأهبه صوب التاريخ، ومن قبيل رهانه من تفاعله مع ثابت ومتحول وذاتٍ وتجارب قائمة. هكذا تم استحضار الانسان كمفهوم مهيكل للزمن التاريخي باعتباره مختبرا منبعا لأسئلة المؤرخ، وكذا وعي تاريخي بفترة وسياق وتأثير من خلال تجربة ابن خلدون الذي كتب عبرته قاصدا تجاوز عقبة بلوغ حقيقة تاريخية. حيث ظهر معاصرا برغبة في أن يكون شاهدا على زمن تاريخي بسؤال لا انتماء له زمنا ومكانا، الى جانب سؤال علاقة التاريخ بالفلسفة تحديدا عند تحول المؤرخ لفيلسوف، وعندما يكون التاريخ صانعا للمؤرخ والمؤرخ صانعا للتاريخ وأثناء وجود المؤرخ بين حق وماض وحقيقة وسياسة وقيم. ولم يغب عن نقاش المؤرخ ومتاهاته ما يهم تجرده ومهنيته وتماساته وما ينزعج به عن ماض واقع، كذا موقعه من وقائع ماض ومسافات فاصلة وتقييم وبرهانية ووثائق ووارث وموروث.
وعن كلية الآداب والعلوم الانسانية بمكناس في مداخلة علمية لفائدة مؤرخين شباب، تحدث الدكتور رشيد بنعمر عن البحث التاريخي في المغرب، مسارا واقعا حصيلة ورؤية بين السياسي والمهني. مشيرا الى أن البحث في حقل التاريخ كإشكال هو قضية منظومة، وأن بداياته تعود لزمن الحماية بالنظر لِما تم إحداثه خلال هذه الفترة من مؤسسات ومعاهد وغيرها، وأنه بعد استقلال البلاد تأسست أولى الجامعات بكل من الرباط وفاس حيث بدأت اولى الأعمال العلمية الانسانية والاجتماعية. لتتم مناقشة أول رسالة جامعية في التاريخ بالرباط عام 1963 وأول رسالة جامعية في التاريخ بفاس عام 1980. هذا في وقت عانى فيه الباحثون من صعوبة توفيقهم بين البحث والعمل، ومن حصولهم على الوثائق كذا ولوجهم لدور الأرشيف. ومما ورد من اشارات في المداخلة ما جاء حول سبل وكيفية حفظ البحوث العلمية الجامعية بدءا من بحوث الاجازة، خاصة منها تلك التي تم إعدادها وانجازها خلال السنوات الأولى للجامعة المغربية، أي خلال فترة سبعينات وثمانينات القرن الماضي عندما كانت الاجازة تعادل مستوى الدراسات العليا حاليا، من حيث مضمونها المعرفي ومنهجها وقيمتها المضافة.
ولم يغب الحديث في ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا قبل سبع سنوات عن فلسفة التاريخ وأهمية الوثيقة في الكتابة التاريخية، ما تمت مقاربته من خلال مداخلتين قيمتين لكل من الدكتور محمد حجاوي والدكتور لحسن اوري عن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. وبقدر ما كان ملتقى المؤرخين الشباب في دورته الأولى بفاس، موعدا لمطارحات فكرية ومقاربات وقراءات جمعت بين علم ومنهج ومعرفة ورأي ونقد واجتهاد وانفتاح وانصات، وبين سلف وخلف في تماسهما البحثي العلمي فضلا عما تكوين وتأطير لرسم موقع تاريخ ومؤرخ ونهضة وبناء للشعوب. بقدر ما كان موعدا وفكرة وبادرة لإعطاء المؤرخ ما يستحق من اهتمام كفاعل بين ماض وحاضر واستشراف، وكذا اثارة انتباه الجميع لأهمية فعل وفاعلية فئة المؤرخين كنخبة مثقفة عضوية لها ذكاءها ورأيها ومقترحها وفهمها ونقدها. الذي هو بقيمة مضافة هامة لفائدة كل ورش وتشارك وتحول وإقدام ورهان، من أجل كل سياسة واقتصاد ومجتمع وتواصل وحكامة واستدامة بلاد وعباد. وهو ما ينبغي الوعي به في أية استحقاقات ومهام من شأنها جعل المؤرخ في قلب كل بناء وتنمية وخيار باعتباره مراقبا ملاحظا باحثا ودارسا. وإذا كان المؤرخ من علامات ومعالم المجتمع التي من غير المفيد القفز عليها وعلى موقعها ودورها ورأيها وإسهامها، لما هي عليه من مزايا وقدرة… لفائدة بعث الأمم واستنهاضها وصيانة تماسكها وبناء صرحها الفكري. فهو بذكائه وتقييمه كضمير مجتمع يظل حاضرا في جميع الاهتمامات والتخصصات والحقول العلمية حقة كانت أم انسانية.
ومن جميل ما تم التوقف عليه في ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب هذا قبل سبع سنوات، كون المؤرخين الباحثين المغاربة كانوا بمهام طلائعية ولازالوا سواء في مجال البحث والتأطير والتكوين، أو من خلال اسهامهم في الكشف والتنقيب واماطة اللثام عن جوانب مغمورة وأحداث وشخصيات وجزئيات. بحيث ما كان عليه هؤلاء من جهد وانتاج وتأليف وتحقيق.. كان بدور هام لفهم قضايا واكتمال حلقات عدة منها كانت مفقودة. وعليه، فإن من كتب من هؤلاء الباحثين حول تاريخ المغرب فقد كتب حول ما هو هوية ومواطنة ووطنية وذاكرة جماعية. ومن هنا ما أثث ملتقى فاس الأول للمؤرخين الشباب من عرفان والتفاتة وشهادة بين خلف وسلف، ومن احتفاء انحبست أنفاسه أحيانا من شدة تأثره بكلمات قوية ومساحة شعر رفيعة الأداء أثثت الموعد. كيف لا وقد كان شعر الاستاذ عبد الكريم الوزاني وشعر الاستاذ الحسين بوقسيمي ممن سمح واضفى أداءهما الشعري نكهة خاصة لحفل تكريم وتقدير واعتراف بالمناسبة. هذا قبل رفع ستار موعد وملتقى في نسخته الأولى قبل سبع سنوات وقد كان فسيفسائيا فكراً ومعرفة وتواصلاً وعرفاناً، من خلال كلمة ختامية تناول فيها الدكتور ابراهيم أقديم بأسلوب معبر رصين متميز، أهمية تسلح جيل المغرب الجديد بما ينبغي من ذكاء ورؤية ومعرفة علمية، داعيا المؤرخين الشباب لحمل المشعل وفق ما ينبغي من جهد واجتهاد ومناعة فكرية ومنهجية وأدوات بحث وأسس شافية لتحقيق الجيد والأجود من أعمال ودراسات وأبحاث. مشيرا الى أن المؤرخ هو بدور هام وجوهري لفائدة هوية البلاد ووحدتها وتماسكها واستمراريتها، وأن الباحثين الجدد بالجامعة المغربية كل من موقعه واهتمامه واختصاصه، مدعوون في زمن عولمة وقبل أي وقت مضى لرفع وإغناء الثقافة والحضارة المغربية التي كانت دوماُ بوقع خاص عبر التاريخ.