تازة بريس
عبد الاله بسكًمار
مما يدعو إلى الاستغراب الذي يصل حد الذهول أن تقدم بعض المنابر نفسها على أنها متخصصة في التاريخ الذي كان، دون التقيد بأبسط قواعد الكتابة التاريخية كالتدقيق في الإحالات وخلط الأيديولوجي بالمعرفي رغم أن الأول عفى عنه الزمن، فيصبح ما تقدمه عبارة عن خليط عجيب يقع بين”الحجايات ” و”الحدث التاريخي” تجاوزا، وشتان بين الأول والثاني، فربما كان الهدف في النهاية هو تسلق بعض المواقع أوتبييض وجوه معينة أمام الجهات المعنية وفي النهاية تحقيق ربح ما على حساب البحث والقراء جميعا، وطبعا هذا الانطباع المؤسس لا يشمل المجلات المحكمة التي تحترم إنتاجها وقراءها ومنها مجلة “أمل.. الثقافة والتاريج والمجتمع” كنموذج رفيع، والتي لا يجادل أحد في رصانتها ومصداقيته،ا وبالمقابل فكم من مرة وقعت انزلاقات معرفية ومنهجية تنأى ببعض تلك المنابر الملخبطة عن كل رصانة أو جدية، وقد سجلنا في حينه العديد من تلك المزالق التي تنم أحيانا عن احتقار ضمني للقارئ والمتتبع، وكأن القوم نزلوا إلى جزيرة الواق واق أهلها لا يعرفون من أمر تاريخهم وتراثهم إلا ما تعرف دابة الشاطر حسن من فوائد العلطبيس.
مثل هذا التناول أصبح ضروريا في الوقت الحالي، لنفصح بالواضح فنقول: كفى من المغالطات والانزلاقات التي تفتري على التاريخ الوطني ككل، وبعض المناطق المغربية على وجه الخصوص، وأحدد هنا تازة وأحوازها حيث عمد أحدهم وهو في نفس الوقت عضو تحرير مجلة” زمان ” التاريخ الذي كان (كذا) التي سرت بمغالطاتها الركبان إلى تناول موضوع البستيون السعدي أو حصن تازة السعدي(العدد 33 المؤرخ في يوليوز 2016) ويبدو واضحا أن المقال إياه وهو لعبد المالك ناصري ويشتغل أستاذا بالكلية متعددة التخصصات بتازة، قد طُبع فيما طبع وأخرج دون مراجعة أو تقييم علمي نزيه مما أدى إلى أخطاء فادحة هزت صورة هذه المجلة هزا وقد كانت هشة أصلا، لأن انطلاقتها في الأساس كانت شعبوية “هداوية ” إذا صح التعبير بعيدة كليا عن النظر التاريخي المنهجي المبني على الاستقصاء والتحليل الهادئين، فضلا عن المنهج العلمي وموضعة الإحالات اللازمة والتدقيق في المفاصل التاريخية بشكل موضوعي(كتابة بعض المراجع أو المصادر في ذيل المقال لا تزيد عن كونها توهيما وتهويما معا !!!) .
لست ادري هل حضرت عند صاحب المقال المفاهيم المهيكلة للتاريخ وهي: الزمان،المكان ثم الإنسان، تحت طائلة تورطه في الفروض والاحتمالات والترجيحات مع ضعف الإحالات وتهلهل الاستنتاجات، فالملاحظ أنه يميل لأول وهلة (عبارة “مما يوحي” بناء على نصوص وإشارات سابقة) إلى أن هذا البرج (البناية المكعبة الشكل و المحصنة) بني في منتصف القرن السادس عشر التي توافق فترة حكم محمد الشيخ السعدي من 1539 إلى1557 ومعه نحتت تسميته “البستيون” وهي الفترة التي طبعت كلها بالاضطراب والصراع وانتهت باغتياله على يد جنود أتراك تنكروا في جيشه سنة 1557 بالأطلس الكبير قرب تارودانت، فأدى بذلك ثمن حميته الوطنية لرفضه الاعتراف بالخلافة العثمانية وضرب السكة أو الخطبة باسمهم، وتم البناء باستلهام للهندسة الإسبانية أو البرتغالية على صعيد التحصينات الدفاعية في بدايات العصر الحديث ويقصد صاحب المقال الفترة التي سبقت استيلاء السعديين على فاس (قبل 1549 و1554) وحافز التصدي للمد العثماني من الشرق أي الجزائر الحالية والتي دخل باشواتها في سلسلة من المؤامرات ضد المغرب وصلت حد اجتياح الجيوش العثمانية شرق البلاد وحتى حاضرة فاس (دور ابي حسون الوطاسي)، مقابل إقتناع محمد الشيخ السعدي بأنه يمثل الخلافة الإسلامية الشرعية بالمغرب ورفضه للخلافة العثمانية بإسطامبول ومن ثمة هجومه على تلمسان، لكن سرعان ما يعود صاحب المقال إلى ما هو معلوم ومعروف في الكتابات التاريخية حول حصن تازة السعدي والمخزن السعدي، في تناقض واضح مع ما سبق أن خمنه إذ يقول بالحرف (وهو الصحيح موضوعيا وتاريخيا) ” ومن المحتمل أن محمد الشيخ لم يكن له الوقت لبناء برج من هذا النوع بعد استيلائه على فاس وتازة ” (ص 73 من مجلة ” زمان ” نفس المقال)، وهي عبارة منقولة حرفيا عن رأي مؤسس لكل من كومباردو وهنري باسي CAMPARDOU et Henri Basset في سلسلة الأرشيف البربري بالصفحة ARCHIVES Berbère p127 ، وهنا يلف كل هذه المسالك بعنوان يزيد الأمر غموضا على غموض ” أصول غامضة “أي ليس معروفا بالضبط من بنى برج أو حصن تازة، هكذا وبكل بساطة، فيقول بالحرف ” إضافة إلى أن المؤرخين المغاربة إذا استثنينا منهم الفشتالي لم يذكروا شيئا عن هذا البرج مما يجعل الأخبار عن مسالة الأصول مجرد تخمينات” (ص 72 من نفس المقال).علما بأن الرأي السابق بارتباط مع فرضية البناء في النصف الأول من القرن 16 منزوع من سياقه الأصلي، فلم يفصل صاحب المقال في المرحلة الأساس، وهي التي شرحها بشكل كاف كاتبا النص الأصلي الفرنسيان رغم التوجه الاستعماري لهذا النص الطويل المتعلق بحصن تازة وبعض الأخطاء هنا وهناك، إنها المرحلة المتعلقة بالنصف الثاني من القرن 16 أي فترة حكم عبد الله الغالب ثم المتوكل فعبد الملك وأخيرا أحمد الملقب بالمنصور. في تحول مفاجئ ولافت يخبرنا بأن احمد المنصور بعد الفوز في معركة واد المخازن، أصبح ندا للأتراك وأعاد النظر في استراتيجيته العسكرية وكانت تازة من المدن التي شملها مشروع إقامة الحصون الدفاعية الضخمة ( كذا ) فما هي المصادرأو المراجع ( حتى ) التي اعتمد عليها ؟، ثم أليست تلك معلومات دالة وأخبار ثمينة عن الحصن ومؤسسه وأدواره خلافا لتخمينات الكاتب وشكوكه السابقة ؟ ليعرج في الأخير وبشكل جد مختزل على مصير البستيون خلال فترات م الرشيد وم إسماعيل وانتهاء بالروكي الجيلالي بن ادريس الزرهوني ( 1902المعروف في الأستغرافية الرسمية بنعت “بوحمارة “وفي روايات أخرى”بوحمالة “) مستخلصا تحولا كليا في دوره الدفاعي دون أن يوضح طبيعة الوظائف الأخرى في تلك الفترات وأشكال مكرها التاريخي، مقحما خرافة ” كنز بوحمارة ” المحتمل في هذا الحصن بناء على رواية شفوية أو تقليدية كما يقول” غير أن ما تحتفظ به ذاكرته – أي البرج إياه- هو أن التاريخ العسكري لتازة على امتداد ثلاثة قرون يتمركز حول هذا البرج والذي وسم المدينة بسمة الحصن المنيع ” الكلام لصاحب المقال، وهو نفس كلام الباحثين الفرنسيين المذكورين سابقا الواردة مادتهما في الأرشيف البربري ص 135.
هكذا ترك صاحبنا متصفح مقاله أو قارئه في حيرة من أمره وشك عارم غير مبرر علميا أو منهجيا حول المؤسس الحقيقي لهذه المعلمة بتازة وزمن تأسيسها، مع أن المصادر والمراجع كلها وبإجماع أصحابها تسجل المأثرة لأحمد السعدي الملقب بالمنصور في حدود سنة 1582أو قبلها بقليل، ولا أدري سببا لذهول عبد المالك ناصري عن توثيق هذه الحقائق التاريخية، وضخم في المقابل حاجز الشك العقيم غير المؤسس، هذا الذهول الذي أدى إلى تفكك منهجي واضح في مفارز المقال إضافة إلى عناصر اختلال أخرى، سنأتي على ذكرها أولا بأول .طبعا لابد للباحث أن يتسلح بالشك المنهجي ليصل إلى الحقيقة ولو في نسبيتها، لكني أعتقد أن الشك يتحول إلى تشكيك في مثل المقام الذي نحن فيه والله أعلم، لأن الحقائق مبسوطة أمامنا ( في حالة حصن تازة ) وعلينا ربما أن نعالجها بمنظور تاريخي مختلف كأن نفتح النقاش في زوايا أخرى قد تكون مفيدة لنا وللقراء والمهتمين، حوار بناء مثلا حول كل مرافق تلك القصبة من تحصينات وأبواب وأهمها باب القصبة وباب القبور وممر يعقوب المنصور وما يوجد تحت أنقاض القصبة والمراحل التاريخية لهذه الأخيرة وامتدادها المجالي ، وكذلك عبر مهام وأدواركل من البرج و القصبة ( ما تبقى منها ) وطرق البناء والمعمار والمقارنة بين حصن تازة مثلا وباقي الأبراج والحصون في فاس والعرائش ( هذا الأخير كان موجها أساسا ضد البرتغال الذين احتلوا عددا من المدن الساحلية وهو الأكثر شبها حسب كومباردو بحصن تازة ) ومن أبرزها البرج الشمالي والجنوبي لفاس، والإحالة إلى النصوص التاريخية ما آمكن دائما …أكثر من هذا يفيد صاحب المقال بوضوح لم يوضح شيئا ” فليس هناك للأسف معطيات وافية قد تمكن من معرفة المؤسس الأول لهذا البرج ” دون أن يحدد هل المقصود البرج في ذاته أي البناية الضخمة المكعبة أم التحصينات الدفاعية المحيطة بها، وهي التي تشكل في مجموعها ( أي البرج والتحصينات ) حصن تازة، أم ما تبقى مما كان يسمى ب” قصبة تازا ” ويطلق عليها المرحوم الفقيه المنوني قصبة تازة القديمة، ومنه بابها الرابط بينها وبين المدينة غربا والذي يعود على الأرجح إلى العصر المريني وما زال موجودا لحد الآن لكن في حالة متردية وباب القبور المجاور له، لا شيء من ذلك على الإطلاق والسؤال، كيف خلط ” باحث ” بين كل تلك العناصر التي تحتاج إلى فرز دقيق قبل التحليل وإصدار الأحكام ؟ السبب مرة أخرى بسيط نوعا ما وهو وجود الحصن أو البستيون داخل ما كان يسمى بقصبة تازة وهي سابقة عليه تاريخيا، وفرق كبير بين هذه وذاك، ثم إن مدينة تازة عموما تختزل العديد من المراحل والأزمنة من خلال آثارها المادية أو ما تبقى منها، أخذا بعين الاعتبار حالات التخريب والهدم ثم إعادة البناء حسب الظروف والأزمات والحروب والكوارث المختلفة المتعاقبة على البلاد، فالأوفق والحالة هذه دراسة كل معلمة على حدة، والوقوف عليها وربطها بالسياق التاريخي وما كتب عنها (إن وجد طبعا)، وما أثير حولها بما في ذلك البعد الطوبونيمي(الأماكنية أو أسماء الأماكن) وطريقة تعامل الساكنة والباحثين معها لحد الآن إلخ، حتى يتأتى لأي باحث الوصول إلى تركيب ممنهج وشامل يفيد القراء والباحثين ويطرح قضايا حيوية، ويعبد السبيل للمزيد من الأسئلة و البحث المستمر، أما الاكتفاء ببعض النصوص التاريخية المعزولة (والسابقة عن المرحلة المعنية) المعروفة على كل حال حول تازة وبناء استنتاجات وأحكام على أساسها قابلة للأخذ والرد، فإن الاختلال يصيب البناء المنهجي للخطاب التاريخي ككل.
عن المصادر والمراجع ورد الحديث التاريخي عن حصن تازة في مصادر الفترة، ثم إشارات هنا وهناك في ما بعدها ونذكر خاصة كتاب “مناهل الصفا “للفشتالي وأيضا” تاريخ الضعيف الرباطي”الذي أتى بعده، هذا علاوة على عدد من المراجع المغربية والأجنبية ( فرنسية بالأساس وسنذكرها في هذا المقال ) يقول المؤرخ عبد العزيز الفشتالي من الصفحة 283 “وليس الحصن الذي اختص أيده الله تعالى ( يعني أحمد المنصور الذهبي )على بلاد تازى ببعيد من هذه الآثار الضخمة والحصون الفخمة تشييدا وتوطيدا ومنعة وتحصينا ” والغريب أن كاتب المقال ضرب صفحا عن هذا النص الهام رغم طابعه السلطاني الرسمي وهو يعد النواة الصلبة للوثيقة أو للرواية التاريخية حول حصن تازة، واكتفى بالإشارة إلى مصدره بعد نهاية المقال أي ” مناهل الصفا في مآثير موالينا الشرفا “، والأغرب من هذا أن تلك الأوصاف تنطبق حقيقة وواقعا على حصن تازة ولم يكن الفشتالي في كل الأحوال كاذبا آو مبالغا !!!!! ، فهو ضخم البناء فعلا موطد ومنيع على كل من أراد هدمه أو النيل منه ومحصن من جميع جهاته، في حين أورد في المقال نصوصا ثلاثة لايوجد بينها وبين حصن تازة إلا الخير والإحسان، لأنها تتحدث عن نهر صغير يمر بالمدينة ومعاناة ساكنتها حين يقطعه الجبليون عنها ثم عن ” قصبة جميلة “أو ” قلعة جميلة بتازا”، ( علما بأن كاربخال نقل عن الوزان بإجماع كل الباحثين ) ولا وجود، أقول: لا وجود إطلاقا لكلمة آو لشيء إسمه “البرج” أو”حصن تازا ” أو”البستيون” واكتفى بما ورد في وثيقة الأرشيف البربري ARCHIVES Berbères”” الفرنسي رغم وجود بعض الأخطاء به، ونقل أو انتزع فقرات من سياقها الموضوعي.
لقد ورد نعت البستيون عند “الضعيف”، مما يدل على أن الإسم الأوربي أطلق في نفس فترة البناء أو بعدها بقليل، وأنه كان معروفا في حقبة الضعيف أي نهاية ق 18 وبداية 19، ورد في معرض حديثه عن حركات المولى الرشيد مؤسس الدولة العلوية عبر المنطقة الشمالية الشرقية وتمرد أبناء المولى امحمد عليه بعد مقتل أبيهم، ولما انتصر عليهم الرشيد ” أتى ( والكلام للضعيف ) بابن أخيه سيدي محمد بن امحمد وبإخوانه وسجنهم بتازا في البستيون إلى أن بعث إليهم من قتلهم ” تاريخ الضعيف ص 44.
هما نصان تاريخيان وردا عبر مصدرين يعدان من أبرز مصادر تاريخ المغرب للقرنين السادس والسابع عشرثم الثامن والتاسع عشر (بالنسبة للضعيف الرباطي) ، أحدهما يعرف بوضوح بما سماه ” حصن تازى ” ومؤسسه أحمد المنصور السعدي والآخر يعرج عليه في سياق تاريخي انتقالي ملتبس ويتعلق الأمر بمرحلة تأسيس الدولة العلوية على يد المولى الرشيد وتحول دور البستيون من فضاء دفاعي عسكري إلى سجن للمعارضين في ذلك الوقت، وسنفصل الأمر طبعا في المحور الأخير لهذا المقال، بديهي أن هناك مصادر أخرى لم تشر من قريب أو بعيد لبستيون تازا ك”نزهة الحادي” لمحمد الصغير الإيفراني (المتوفى سنة1744 أي بعد الفشتالي بكثير)، والذي فصل مع ذلك في بستيوني فاس (سماهما أيضا المعقلين ) أو برجيها الشمالي والجنوبي وهما الصرحان المفترض تشابههما مع برج تازة وكتاب ” نشر المثاني ” للقادري (وهو من المصادر المتأخرة إضافة إلى تاريخ الضعيف الرباطي) أما كتاب “تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية ” لمؤرخ مجهول معاصر لتلك الفترة فصاحبه متحامل عموما على أسرة السعديين وخاصة أحمد المنصور، ومن باب المنطق و تحصيل الحاصل ألا يذكر الكثير عن منجزاتهم ومآثرهم كصناعة السكر وذهب السودان والحصون الدفاعية واسترجاع بعض الثغور المحتلة (مع اعترافه بانتصارهم في معركة واد المخازن)، فأحرى أن يذكر حصن تازى كمنجز سعدي معترف به في كل الأحوال، وغير هذه المصادر للعصر السعدي هناك كتب المناقب والأعلام كدوحة الناشر ومناقب الحظيكي ونيل الابتهاج لأحمد بابا التمبوكتي، وهي عبارة في الغالب عن سير لصلحاء المغرب وليس فيها الشيء الكثير عن العمران ومآثر السلاطين والملوك السعديين.
أعتقد إذن أن ورود “حصن تازة ” بالتفصيل أو الإجمال في مصدرين تاريخيين هامين للفترة وما سجل من بعض الإشارات في المصادر المتأخرة ونقوش وكتابات الأسرى مقنع منهجيا ومعرفيا للباحثين والمهتمين إلى إشعار آخر، مادام هناك توافق تام بين الوثائق المكتوبة ( المصادر) والمادية ( أي الآثار ) والأمر موكول في كل الأحوال إلى جهود هؤلاء في التنقيب والبحث المستمر والحفر المتواصل، علاوة على ما ورد في المراجع وما يثبته واقع حال المآثر التاريخية بتازة كنمط البناء ومواده وطريقته والنقوش والكتابات مثلا ولم لا عقد المقارنة بين البنايات المتشابهة التي أسست في نفس الفترة إلخ . يمكن الاستئناس أيضا بالمراجع المختلفة لفرنسيين ومغاربة بقصد إغناء البحث وفتح مزيد من آفاقه المعرفية والمنهجية، ومن المهم الاسترشاد بكتابات عبد الكريم كريم حول الدولة السعدية وابراهيم حركات ومحمد حجي ( موسوعة أعلام المغرب – الحركة الفكرية في عهد الدولة السعدية ) وعبد العزيز بن عبد الله ومحمد بن تاويت التطواني وعبد المجيد قدوري وعبد الرحمان المودن على سبيل المثال لا الحصر أما الفرنسيون فهناك Henri Basset و BenoitوM . Marçaitو Voinot وH.Terrasse وغيرهم ممن كتب عن حصن تازة ويمكن التعامل الموضوعي وبأفق نقدي طبعا مع ما خلفوه لنا حول مآثرنا ورأسمالنا الرمزي . لقد سبق أن تعرضنا باقتضاب غير مخل لحصن تازة السعدي في كتابنا “تازة بين القرنين 15 و20/الوظائف والأدوار ” الصادر سنة 2014 عن منشورات ومضة بطنجة، وهو يعد باكورة الكتابة التاريخية المنوغرافية حول تازة وأحوازها، بعد ركود وجمود ممتدين عقيمين، حيث لم تعرف الخزانة التاريخية بصدد المنطقة أي تراكم يذكر باستثناء ما كتب حول بعض أعلامها وآثارها، وهاقد جاءت الفرصة من جديد للحديث بشيء من التفصيل حول معلمة حصن تازة السعدي، علما بأن هناك عدة زوايا يمكن تناول الموضوع عبرها .
وعود على بدء، ينحو بنا النظر في المقال المعني نحو التساؤل التالي : إلى أي حد تطابقت مصادر الكاتب مع الفترة التاريخية التي تعود إليها معلمة البستيون ؟ ولا نتحدث هنا عن تطابقها مع حصن تازة كما وجد ويوجد في واقعه التاريخي والفعلي ( الحالي )، لعل في الإشارات السابقة بعض الإجابة، فالاستشهاد بنصوص الحسن بن محمد الوزان ومارمول كاربخال لا يعني الشيء الكثير تاريخيا ومنهجيا، بل ربما أفضت تلك النصوص المنزوعة من سياقها إلى العكس تماما أي إلى البلبلة التي شرحت بعض تفاصيلها سابقا، لعل قلة أو ندرة ما كتب حول حصن تازة في مصادر الفترة لا تعد حجة للرجوع إلى مصادر سابقة عليها، لأن هذه الأخيرة محكومة هي أيضا بشروط الزمان والمكان والإنسان ومنها على سبيل المثال لا الحصر : غموض الفترة الوطاسية وظروف وشروط الكتابة التاريخية عند الوزان وكارباخال فضلا عن وجود قصبة ” قديمة ” جنوب شرق تازة العتيقة لا علاقة لها بالبرج و تعرض المغرب للغزو الإيبيري ثم التحدي العثماني وعدم بناء البستيون بعد ثم أوضاع البلاد خلال عهد الوطاسيين والصراع مع السعديين الصاعدين من الجنوب ولا بد أن نذكر خلط كاربخال بين القصر المريني بموازاة الملاح مع المسجد الأعظم أي الحي الشمالي من جهة وقصبة تازة البعيدة نسبيا عنه في الحي الجنوبي من جهة أخرى، فضلا عن كل هذا فالنص الخاص بمراقبة عيون الماء للوزان لا علاقة له ببرج تازة أو حصنها، ولعل التفسير الوحيد لذلك هو عدم معرفة الباحث للمكان إياه، فضلا عن غياب واضح لكل من كتب عنه غير الفرنسيين، لأنه كان عليه أن يستحضر ما كتبه المؤرخون والباحثون المغاربة حول المعلمة لكنه لم يفعل بل إن النص المعتمد لديه يتناول أزمة المياه التي كانت تعانيها ساكنة تازة عند قطع المادة الحيوية من طرف القبيلة المحيطة بالمدينة، فالماء كان ينحدر من منابع الأطلس المتوسط الشمالي ونقصد عين راس الماء بالأساس وكانت هناك إلى حدود فترة المولى إسماعيل شبكة قنوات متكاملة (بمعيار ذلك الزمن) وخزان بزنقة سيدي علي الدرار لتوزيع تلك المياه على الدور والمرافق والمساجد والحمامات وغيرها، أما المنطقة المذكورة والتي تحضن حصن تازة ومعها المناطق المجاورة، فلم تكن تمد تازة قديما بأي مياه اللهم إذا استثنينا سقي الحقول والضياع التي كانت توجد على ضفاف واد الدفالي والمسماة الآن تازة السفلى وحتى افتراض استفادة الناس منها أيام الأزمات يبقى ضعيفا لجهة الحصار الذي عادة ما يكون شاملا وخانقا، نعم هناك وظيفة المراقبة التي أضيفت إلى المدافعة والحماية تجاه أي عنصر معاد يأتي من الشرق وإلى حدود حوض بولجراف ولكن ليس بالضرورة أن تكون مراقبة المياه بل الاستنتاج القوي هو أن تكون الوظيفة أمنية عسكرية معا أي ردع ورد كل عنصر معاد يأتي من الشرق والجنوب الشرقي .
نعم يمكن أن يكون المصدران أي “وصف إفريقيا ” و إفريقيا” للوزان وكاربخال مفيدين جدا في ميدان الـتأريخ مثلا لمدينة تازة وأحوالها في أواخر العصر المريني ثم العصر الوطاسي، أو في مجال التعريف ب” قصبة تازة ” المحيطة ببرجها ونقصد البستيون الذي بني بعدها بزمن طويل والتي ذكرتها هي نفسها ( القصبة ) أي تلك المصادر أو ذينك المصدران، أما إسقاط نصوصهما على الفترة اللاحقة وهي التي شهدت بناء البرج (أواخر القرن 16) فهو شيء لا يستقيم ودقة الأفق التاريخي ومنهج التناول البحثي، الغريب أن المعلومات القيمة والمعروفة في أغلبها حول البستيون كالوظيفة العسكرية وخطة التصدي للأتراك من الشرق واستراتيجية السلطان أحمد المنصور، لم يُحِل فيها السيد ناصري على المصادر أو المراجع، اللهم ما كان من الإحالات العامة في آخر المقال ويبدو أن صاحب المقال الفضيحة استعاض أو سها ( سقط سهوا ) ربما عن مختلف ما كتب قديما وحديثا حول برج تازة بارتباط مع تاريخ المدينة والبلاد واكتفى بوثيقة ” Année1918-les archives Berbères V 3 ” ونطرح التساؤل هنا مرة أخرى: هل الاقتصار على ثلاثة مصادر ومراجع (من مجموع أربعة ) في الإحالات، إثنان منها انزاحا عن المقاصد ( بتعبير العلامة ابن خلدون) كاف من جهته لتعليل وتأكيد استنتاجات صاحب المقال وافتراضاته حول برج تازة ؟ أترك الإجابة المقنعة لمن يعنيه الأمر أولا وأخيرا ولعموم الباحثين والمهتمين .
من الأوفق والضروري معا وتأسيسا على الإحالات المصدرية والمادية (الماثلة أمامنا ) التفريق بين” حصن تازة ” و” برج تازة ” أي البستيون، و” قصبة تازة ” ( التي تحدث عنها الوزان ونقل عنه كارباخال ) فالأو أي الحصن أشمل وأوسع من الثاني مجالا وأعمقه زمنا، ويفترض أن يعود إلى العصر المريني الأول إن لم نقل : إن إشارات تاريخية تُرجع أصله وبناءه الأول إلى العصر الموحدي ( ق 12 م ) مع عبد المومن بن علي الذي وصل إلى موقع تازة عبر الجبل وحصنه بدءا من سنة 529 هجرية، فأصبح يسمى رباط تازا ( البيدق و عبد الواحد المراكشي و ابن أبي زرع والزياني و الناصري ) وعززه سلاطين وأمراء بني مرين، بعد ذلك، إذ أصبحت تازة منطلقا لعملياتهم العسكرية مدة غير يسيرة من الزمن بهدف إخضاع فاس، ثم قاعدة للانطلاق نحو تلمسان ومن ثمة، محاولة السيطرة على المغربين الأوسط والأدنى (خاصة مع السلطانين أبي يعقوب يوسف وأبي الحسن المرينيين) وتعمق الدور الاستراتيجي لمدينة تازة عبر الصراع مع بني عبد الواد سلالة يغمراسن بن زيان بتلمسان، حيث حمى موقع تازة ظهور بني مرين في هذا الصراع الطويل المنهك للطرفين معا، وفي فترتي الموحدين وبني مرين كان مركز تازة الأصل حول الجامع الكبير أي الحي الشمالي ونفترض أن التحصينات امتدت إلى موقع القصبة والحي الجنوبي الذي انتقل إليه مركز تازة مع الوطاسيين ثم المولى الرشيد العلوي .
استمر نفس الدور عبر المراحل التاريخية وما طبعها من منعطفات وثورات وأزمات وحروب أهلية وخارجية وحركات مختلفة في ومن خلال ممر تازة، ولن نستفيض أكثر لأن هذا يمكن أن يكون مجالا لمقالات أخرى، ويشمل حصن تازة كلا من البرج ( الذي يفترض أن يتناوله صاحب المقال) أي البستيون زائد التحصينات والأسوار والأبواب وما تبقى من الأبراج الحربية الأقل شأنا، وهي تختزل مراحل وحقبا زمنية متعددة تماما كالطبقات الجيولوجية للأرض، وقد قصد الفشتالي البرج فعلا، لما تحدث عن الحصن بدليل الصلابة والحصانة والقوة التي تخص البناء المكعب . مسألة ” قصبة تازة ” لم ترد في حدود علمنا إلا عند الوزان والفقيه المنوني وهناك البوابة الغربية وهي البوابة الأثرية التي تسمى ” باب القصبة ” لحد الآن، وفي التحديد المفاهيمي فإن القصبة أصلا منشاة عسكرية مغاربية تمثل نواة المدن العتيقة وتحاط بأسوار منيعة عادة، وقد تكون تلك القصبات مستقلة أو خارج المدن ونماذجها القصبات الإسماعيلية، ومع مرور الزمن أصبحت تعني البعدين معا: المدني والعسكري ثم الإداري، فقد تحتوي إقامة الأمير أو قائد العسكرأو الوالي أي العامل، ومن تحصيل الحاصل أن تشمل القصبة مسجدا أو زاوية أو مدرسة دينية، ولا سيما عندما تراجع دورها العسكري مع الأيام ( قصبة طنجة … قصبة الجزائر …) وفي مواقعها الأمامية تنتصب الأبراج الدفاعية لتحمل القصبات خصائصها مع مميزات الحصون الحربية، وتأخذ القصبة آو البرج أيضا وفي بعض المدن والأماكن طابع القلاع الحربية ( البرجان الشمالي والجنوبي بفاس وقصبة بن حدوبالجنوب).
إن البرج عموما هوالموقع العسكري المحصن، فكيف نحدد أو نعرف برج تازة وهو نفسه بستيون تازة ؟ نقول بوضوح : هو البناية المكعبة الشكل المحصنة بالمدفعية ( بالنسبة لبستيون تازة هناك 13 غرفة للرماية ) والبالغة مساحتها الإجمالية ( دون الحصن والقصبة ) 689 م 2 وطول أضلاعها 26 مترا وعلوها بين 13 و20 مترا وبها ممر يصل طوله 5 أمتار، وسمك حيطان البرج يبلغ 3 أمتار في المتوسط، أما سطحه فيصل مستوى علوه عن القاعدة إلى 8 أمتار ويشتمل البرج على عدة مستودعات للزاد وخزانات الماء والعتاد الحربي، وتصل مواقع التصويب والضرب إلى 7 وبشكل يسمح بتصويب المدفع أو سلاح النار في ثلاثة اتجاهات حول حصن تازة، وبداخله سارية كبرى يطلق عليها لحد الآن ” سارية السبع “وطولها 8 أمتار و40 س وعرضها 6أمتار و90 س وكان من مهامها حفظ المؤونة والعتاد للحامية المتمركزة في الحصن وينتهي في الأعلى ببرجين صغيرين أقصى اليمين والشمال.
بني برج تازة بالتراب المدكوك ثم الطابية والحجر المشذب واللبن أو الجيرفي الأصل وهي من أبرز مواد البناء في المنشآت السعدية كأسوار تارودانت وقصر البديع وبرجي فاس، وأكثر البناء من الطابية وليس من المستبعد وجود تاثيرات أندلسية إضافة إلى تلك الإيبيرية في طريقة البناء ومواده وهندسته، وهو واحد من 14 برجا موزعة بين العرائش وتازة وفاس ومراكش، تقطنها الحاميات العسكرية وقد بناها كما قلنا الأسرى المسيحيون الشيء الذي كان معمولا به في ذلك الزمن، وعند جميع الشعوب على مستوى الصراعات والحروب خاصة .
يمكن تقديم وظيفة المنشأة في الأصل بأنها حماية الأجزاء الشرقية والجنوبية الشرقية من تازة واستراتيجيا، حماية الطريق الشهير الرابط بين فاس وتلمسان في موقع تازة الذي شبهه البعض ب” الترس الواقي ” من الهجمات، وهو الذي يصل المغرب بالجزائر والشرق بالغرب، وقد سعت جميع الدول والحركات السياسية والدينية والقبلية للسيطرة عليه منذ فجر التاريخ الإسلامي على الأقل، وأمام التقدم الحاصل في مجال الأسلحة التقليدية والزحف التدريجي للآلة وظهور وتطور صناعة المدافع (عند السعديين والأوربيين والعثمانيين على حد سواء) في بدايات العصر الحديث، وبسبب تراجع الدور التقليدي للأسوار والأبراج القديمة في التصدي للجيوش الزاحفة، لا سيما تلك الأبراج الضخمة المزودة بسلاح المدفعية، فقد تعززت الأسوار المحتضنة للمدن والقصبات بأبنية مجهزة لمقاومة وردع سلاح المدفعية وبنفس السلاح، وهكذا خصصت طوابق برج تازة -بغرف رمايته – لسلاح المدفعية آو الطبيجية، بينما استأثر سلاح المشاة بالساحة العليا للبستيون، ووظيفة المراقبة لها أهميتها أيضا لكن ليس على العيون ومصادر المياه في هذا الحيز الجنوبي الشرقي من تازة كما جاء في المقال، إنما هي مراقبة ذات طابع عسكري أمني بالأساس ومعروف أن منابع المياه بتازة تأتيها من عين راس الماء وواد تازة إلى الجنوب الغربي وهي المنابع المقصودة في نص الحسن الوزان .
جانب المراقبة الأمنية والحماية المسلحة الصارمة بدأ عمل المنشأة كسجن للأسرى أوالمغضوب عليهم أيضا، منذ تشييده على يد الأسرى الأوربيين ومن هؤلاء كذلك من جندوا بين العلوج البرتغاليين والإسبان في جيش المنصور، الشيء الذي سنعرضه في المحطات التاريخية، وكون الحيز الجنوبي الشرقي لتازة العتيقة ضعيف الحماية مسألة فيها نظر، إن لم نقل إنها غير دقيقة، بسبب انحدار الهضبة أولا، مما يشكل مناعة طبيعية على نحو نسبي ضد كل غزومحتمل من الشرق و ثانيا، يحتل البرج ومعه الحصن والقصبة نقطة تقاطع بين مجال تازة الجنوبي المكشوف من ناحية، وحيزه الشرقي المنحدر المحصن من ناحية ثانية، نعم إن الحيز الجنوبي لتازة المواجه لجبال الأطلس المتوسط يشكل نقطة الضعف الأساسية والوحيدة بالنسبة لموقع المدينة العتيقة، ولذلك حُفر الخندق الدفاعي وهو الذي يعود إلى العصر المريني و ما زال موجودا لحد الآن، وإن بدأت تطمرالأتربة والنفايات بعض أجزائه في إهمال واضح من طرف الجهات المعنية، بموازاة السور المريني المزدوج في بعض الأماكن، والحاصل أن وجود البرج ضمن جهة حساسة تاريخيا واستراتيجيا يعضد الوظيفة الأصل المتعلقة بسلاح المدفعية وحراسة المدخل الشرقي للمدينة وطريق امسون نحو جرسيف فوجدة فضلا عن اتجاه سيدي حمو مفتاح، ومنحدر جنان البردعي، فالوظيفة في البداية كانت عسكرية أمنية بالدرجة الأولى، لكنها شهدت تحولات معينة وفقا لمراحل التاريخ ومنعطفاته المختلفة .
نعيد التذكير بأنه بعد معركة وادي المخازن وخاصة إثر توتر مفاجئ في علاقة المنصور بالدولة العثمانية، بنيت شبكة الأبراج ومنها برج تازة، ونظرا لمايمكن وصفه ب” مكر التاريخ ” لم يعد العثمانيون يشكلون خطرا فعليا على المنطقة الممتدة بين تاوريرت وحوض ملوية من جهة، وتازة وفاس وباقي المغرب من جهة أخرى وهذا مرتبط بالبعد التاريخي المتعلق بفترة حكم السعديين: ونقصد محمدا الشيخ وعبد الله الغالب وخاصة ما بعد معركة وادي المخازن التي جرت كما هو معروف قرب القصر الكبير في 4غشت 1578 و انتصر فيها المغاربة على البرتغال وغيرت وجه التاريخ ككل . مفارقات التاريخ :لما تعززت شرعية السعديين الجهادية باسترجاعهم لأكادير أو سانتا كروز من يد البرتغال سنة 1541 تطلعوا لتوحيد المغرب الأقصى والقضاء على ما تبقى من الوطاسيين الذين عجزوا عن حماية البلاد والثغورأمام المد الإيبري، فانقسم المغرب إلى مملكتي فاس ويحكمها الوطاسيون ومملكة مراكش ويحكمها السعديون بدعم من القبائل و الزوايا في الجنوب وخاصة الحركة الجزولية ، وقبل ذلك بسط العثمانيون نفوذهم على صعيد المغرب الأوسط واضعين حدا لدولة بني زيان بتلمسان، غير أن طموح محمد الشيخ السعدي غلب على الموقف فاسترجع فاس في مرحلة أولى، سنة 1549 واضطر أبا حسون الوطاسي إلى الفرار أمامه نحو الجزائر ثم زحف محمد الشيخ إلى تلمسان، بيد أن الهزيمة لحقت به على يد باي الجزائر حسن باشا خير الدين بعد ثلاث سنوات، أوفي بعض الروايات، انسحب جيش السعديين طوعا إثر تدخل وتوسط السلطان سليمان القانوني بين الطرفين ( حسب ما ذهب إليه محمد حجي في مقال له بمجلة المناهل ع25 دجنبر 1982) في وقت كانت الإمبراطورية العثمانية تتهيأ للحرب في أوربا ضد شارل كان، والمعروف أن أتراك الجزائر أعادوا الكرة تبعا لتجدد المؤامرات ضد المغرب تحت قيادة الباشا صالح رايس فدخلوا إلى تازة في دجنبر 1553 مما سهل عليهم احتلال فاس من جديد وإعادة أبي حسون إلى الحكم لمدة قصيرة ( منذ يناير 1554) ما لبث خلالها محمد الشيخ أن جمع قبائل سوس مجددا، فانتصر في مشارف فاس على أبي حسون الذي هلك في الصراع واسترجع محمد الشيخ العاصمة الإدريسية في 23شتنبرمن سنة 1554بعد انسحاب الأتراك إثر ثورة شعبية بفاس .
يهمنا من هذه الأحداث ما سماه كاتب المقال ب” الدور الخافت نوعا ما لتازة خلال هذه الفترة “، ونود أن نثير الانتباه إلى أنه وفقا لوثائق الفترة كانت تازة وفاس من أواخر المدن والمناطق التي خضعت لحكم السعديين، بسبب عوامل متعددة أهمها الرأسمال الغني الذي تراكم بالمدينتين حيال كل من المرينيين والوطاسيين والذي تعبرعنه الجملة الشهيرة ” من بعد بني وطاس ما بقى ناس ” فيمكن التأكيد أن الحنين إلى الفترتين لم ينقطع حتى نهاية السعديين، كما إن هؤلاء أي السعديين وخاصة محمد الشيخ لم يحملوا كثير تعاطف إزاء علماء وصلحاء المنطقة ومن نماذج ذلك اغتيال الزقاق والونشريسي، مما أثر على شعبية الأسرة السعدية في هذه الفترة، وفي هذه المنطقة بالذات البعيدة عن الاحتلال الإيبري وقس على ذلك، عدم تحمس قبائل الناحية للقتال إلى جانب محمد الشيخ سواء ضد أبي حسون أو ضد العثمانيين المتحالفين معه، لكن عاملا آخر لا يقل أهمية في سهولة الاجتياح العثماني وضعف دور تازة قبل إنشاء حصنها يكمن في نوعية التحصينات التي تعتبر كلاسيكية متجاوزة في هذا الوقت والتي لم يهتم بها أو يطورها محمد الشيخ، بل اعتمد فقط على جيشه وعلى حفر خنادق غير ضرورية علما بأنه يحتمل أن تكون المعركة قد جرت تحت أسوار تازة شرقا في دجنبر 1553، وتتمثل تلك التحصينات في الأسوار والأبراج التقليدية والآلات الحربية المتقادمة الموروثة أصلا عن العصر المريني، صحيح أن الشيخ جلب معه إلى تازة عشرين مدفعا لكن الشروط النفسية من جهة وشدة القوة النارية للعثمانيين بمدافعهم القوية وبنادقهم من جهة أخرى، كلها هزمت محمد الشيخ فاضطر إلى الانسحاب عن تازة ثم فاس نحو قواعده بسوس، استعدادا للهجوم المضاد بعد ذلك .
في مجال المعمار والبناء ، طبيعي ومنطقي ألا يتوفر لمحمد الشيخ الوقت الكافي لبناء أي شيء خلال هذه الفترة بسبب تواصل محطات الصراع والمد والجزردون انقطاع، نعم حفر جيشه الخنادق حول تازة في مواجهة جيش الباشا صالح رايس سنة 1553كما سبق القول، لكن ليست هناك أية إشارة لبناء ضخم ولا لتحصين دفاعي على شاكلة البستيون، والدور الاستراتيجي لعبه فعلا ممر تازة لكن لصالح العثمانيين في اتجاه فاس والمعروف أن الجغرافيا والتاريخ لا يحابيان أحدا فهما يخضعان لموازين القوى ولمن يستغلهما جيدا لصالحه، ومن المرجح حضور هذا العامل المهم في ذهن أحمد المنصور لما عزم على بناء شبكة الأبراج العسكرية المذكورة، يضاف إلى كل هذا فتور قبائل تازة وساكنة المدينة تجاه محمد الشيخ بسبب الدوافع التي ذكرنا . سجلنا العوامل العسكرية التي دفعت المنصور إلى بناء برج تازة وتحصينه، وقد كان للسلطان السعدي من الدهاء الاستراتيجي ما دفعه إلى اختيار تازة دون غيرها وهذا الحيز الجنوبي الشرقي دون غيره، إذ إن السيطرة على تازا وممرها تعني إما السيطرة على فاس ومن ثمة، على المغرب آو سهولة الزحف نحو تلمسان ومن ثمة اجتياح غرب الجزائر آو الإيالة العثمانية، فلم يكن غائبا عن ذهنه دون شك ما حاوله العثمانيون خلال فترة حكم أبيه محمد الشيخ المهدي من مؤامرات واجتياحات وهجومات وصلت حتى الأحواز الشمالية لفاس ( انطلاقا من نزولهم بحجرة بادس في الشمال) لما أوقف زحفهم أخيرا أخوه عبد الله الغالب بن محمد الشيخ في معركة واد اللبن الشهيرة (مارس ابريل 1558)، ثم إن مولاي أحمد كان خليفة على أخيه بفاس لمدة سنتين ( من 1576 إلى 1578). ويستحيل ألا يكون مطلعا على موقع تازة وعلى الطبيعة الجغرافية الصعبة وبُعدها الاستراتيجي شرق فاس، بارتباط مع الأحداث الجسام التي عاشها صحبة أخيه عبد الملك، ورغم مساعدة الأتراك العثمانيين له مع أخيه في استرداد العرش من ابن أخيهما المتوكل، فقد استمرت سياسة الاحتراز والحيطة نحو باشوات الجزائر، حتى ظهرت خيانة المتوكل فكان ما حصل من توالي الأحداث وصولا إلى معركة واد المخازن الشهيرة التي غيرت كل المعطيات والأوضاع، وسجل آخر عهد لجيوش العثمانيين شرق المغرب وعبر تازة هو سنة 1576 لما داهنهم عبد الملك في فاس ببعض الأموال والوعود مقابل العودة من حيث أتوا، بعد أن تحقق هدفه مع أخيه، لابد هنا أن نسجل بعض الإشارات التاريخية الهامة التي تعزز حقيقة بناء الأبراج الضخمة خلال مرحلة ما بعد معركة واد المخازن :
حصل غضبُ مبعوث السلطان العثماني مراد الثاني من المنصور حينما أنس فتورا في اقتباله وتقبل تهنئته بمناسبة الانتصار في معركة وادي المخازن، فعاد السفير إلى القسطنطينية وأضاف ما أضاف إلى روايته للسلطان، فكان رد فعل مراد الثاني أن جهز عمارة بحرية ضخمة لغزو المغرب انتقاما لشرف السفير والسلطان تحت ظل علوج علي قائد الأساطيل العثمانية وفي نفس الوقت بايلبرباي الجزائر، وقد تدارك المنصورهذا التحول الخطير بسرعة وذكاء حينما سارع بإرسال مبعوث له يشكر السلطان ويعتذر، ومن الطبيعي أن يكبر سلوك الحذر عند أحمد المنصور بعد هذه الواقعة رغم التحول التاريخي الكبير الذي خلفته معركة وادي المخازن ( هناك العديد من الروايات التي تشير إلى مشاركة فرقة عثمانية في معركة وادي المخازن ؟؟ كذا
استعداد المنصور لإرسال جيشه قصد غزو السودان منذ 1583 في إطار استراتيجيته الجديدة لبناء نوع من التوازن المستقل إزاء القوى الشمالية والشرقية ( أوربا والأتراك العثمانيون ) التي تحيط بالبلاد ولكي يؤمن ظهره وجبهته الداخلية ويعزز انتصار وادي المخازن، أمر ببناء تلك الحصون والأبراج الضخمة ومنها برج تازة .اقتضت رغبة المنصور في تطوير وتحديث المؤسسات العسكرية الاهتمام بصناعة المدافع ثم بناء حصونها وأبراجها، كما أن رسومات الأسرى نفسها تعود إلى نهاية القرن 16، ويعتقد أيضا أن هؤلاء الأسرى أو بعضهم كانوا من البحارة العارفين بالمحيطات والبحار.
أخيرا لابد في سياق الأحداث التاريخية التي شهدتها تازة واحوازها بعد القرن السادس عشر الإشارة ولو بعجالة إلى تحولات تلك الأدوار التي ارتبطت ببرج تازة وحصنها ، فقد جمع البرج منذ البداية خصائص الموقع الحربي إلى مميزات سجن كبير للأسرى المسيحيين، تم اعتماده كحبس للمعارضين في عهد المولى الرشيد وكذا في بعض الفترات اللاحقة ونذكر هنا المولى عبد الرحمان بن هشام وسجنه للوالي ادريس بن حمان الوديي الجيراري المخالف لتوجيهاته، قبل أن يعفو عنه و صراع قبيلة غياثة مع عمال تازة بسبب مساجينها نهاية القرن التاسع عشر. أما الدور العسكري فقد استمر خلال مختلف محطات الأزمات والحروب والصراعات، والمفارقة أن الهدف الأصلي الذي حدده له المنصور لم يتحقق، بسبب ما تعرضنا له فيما يخص صراع السعديين ومراحل الشد والجذب مع العثمانيين، وانتهى أخيرا بتراجعهم بسبب وفاة داهيتهم العلج علي وصراعاتهم الداخلية التي أنقذت المغرب على وجه العموم، لينحصر النزاع المتقطع إلى حدود ما بعد حوض ملوية وانتهاء بتلمسان وواد تافنا وفي كل الأحوال لم يكن هذا التجاذب من نوع الصراع المصيري الحاسم، لأن مقولة ” دار الإسلام” كانت تطغى إلى حد كبير على الطرفين باستثناء المؤامرات والتدخلات ومناورات هذه الجهة أو تلك ( والتي كانت تؤدي إلى معارك وحروب في الحيز الذي ذكرناه ) وتبعا لكل هذا لم يلعب حصن تازة الدور الذي كان منتظرا منه، لكنه أصبح فعلا موقع ذخيرة وتجمعا للعساكر والأتباع ومعقلا للأسلحة في بعض محطات الأزمات أو الثورات والتحولات الداخلية والخارجية، ففي عهد أحمد المنصور نفسه ثار الناصر السعدي بتأييد من فليب الثاني ملك إسبانيا واتخذ من الحصن موقعا عسكريا له سرعان ما امتنع على جيش المنصور، ودامت ثورته سنة كاملة من 9 ماي 1595 إلى 21 ماي 1596،قبل أن يلقى مصيره المحتوم بعد فشل تحالفه مع العثمانيين في شرق البلاد .حين قامت ثورة أحمد بن محرز ضد عمه السلطان المولى إسماعيل سنة 1673 صعد الثائر مع جيشه وأتباعه إلى الشمال بعد مضايقته في السوس وتافيلالت فوجد في أهل فاس وقبائل وأهل تازة سندا قويا له، غير أن الحصن وقصبة تازة بقيا على تأييدهما للمولى إسماعيل، إلى أن حل ابن محرز ثانية فأقنع الحامية الإسماعيلية بتأييده، ولما تناهت الأخبار المقلقة إلى السلطان م اسماعيل تراجع عن حركته بالريف وأصر على استرجاع القصبة وحصن تازة بأي ثمن، فحاصر المدينة والحصن والبرج لمدة شهر، وقد أكد نفس الوقائع الضعيف في تاريخه، لكن هذا الأخير أي البستيون استعصى عليه رغم استعانته بالمدفعية الثقيلة و100 خبير أوربي في المتفجرات، وهنا نلاحظ بوضوح أهم دور عسكري للبرج على الإطلاق، ثم انتهى الحصار بفشل ذريع للسلطان وجيشه حيث لم ينل من حصن تازة شيئا يذكر، بما في ذلك المتفجرات وحفر الأساسات والقذائف الثقيلة للمدفعية، فكان أن انشغل السلطان م اسماعيل بثورة الخضر غيلان في بلاد الهبط، وتناسى تازة وحصنها مؤقتا، طبعا تقرر مصيرابن محرز بدوره ومقتله بدوره سنة1686 بعد أن مني بسلسة هزائم متلاحقة، وتعود تازة إلى طاعة السلطان على مضض في حديث تاريخي يطول سرده. لما دخل الروكي الجيلالي بن ادريس بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني ( الملقب ببوحمارة ) إلى مدينة تازة في خريف 1902 وهرب عاملها من قبل السلطان م عبد العزيز الحاج عبد السلام المدعو ولد الشكَرة سرعان ما انتبه الجيلالي لهذا البرج الشامخ، فخصصه لمؤونة الجيش والذخائر وما زالت هناك آثار بباب البرج ومداخله لرصاص الجيش المخزني، ومن هنا تواترت الرواية الشفوية حول وجود كنز خلفه الروكي في الحصن قبل مغادرة تازة نهائيا في سياق المواجهة الأخيرة بينه وبين جيش المخزن الحفيظي، مع أن أكثر من علامات استفهام تحوم حول الأمر،لأنه لم يحدث أي شيء لحد الآن بتازة يؤكده أو يشير إليه .
حين دخلت القوات الفرنسية رسميا إلى مدينة تازة في 17 ماي 1914 بعد تحقق اللقاء التاريخي Jonction في ” باب عمامة ” بمكناسة التحتية، شمال شرق تازة، وذلك عبرطريق المدخل الشرقي للمدينة كانت أول وأهم معلمة احتلها الفرنسيون هي حصن تازة وبرجه وساعد على انجذاب القوات الغازية إلى الحصن أنها كانت في حاجة إلى مواقع ثابتة لإعداد العتاد الحربي وتثبيت مراكز التحكم والسيطرة والدعم والتطبيب والاتصال ومعالجة الجرحى بشكل مؤقت ، فوجدت القيادة الفرنسية في حصن البستيون، خير موقع عسكري مثالي رغم الحالة المزرية التي كان عليها، ويبدو أن إقامة الجنود بالحصن كانت من الخدمات التي قدمها لجيش الاحتلال الفرنسي، علاوة على مهام مراقبة المنطقة تحسبا لهجوم القبائل المقاومة ( غياثة بالأساس ) ومن ضمن ما عثر عليه الجنود الفرنسيون في الحصن مدفعا من النوع الكبير المقطور بواسطة عجلتين علاوة على عدد من المدافع الصغيرة الحجم يفترض أن تكون بعدد المنصات والكوات الموجودة بالحصن، وقد نقل كل هذا العتاد إلى وجدة وفق رواية كومباردو الذي أبدى مع ذلك رغبته في بقاء المدافع بموقعها الأصلي وغالبا، فقد تم نقلها من وجدة إلى الجزائردون أي أمل في إعادتها إلى تازة أو المغرب حتى.
وقبل أن نختم بالخلاصات، فإن واقع حال حصن تازة الذي ما زال يطلق عليه إسم البستيون يغني عن السؤال، فرغم كل مشاريع التهيئة، لم يحظ الحصن بأي عناية حقيقية مع تفويت رسمه العقاري ( عدد 10892/ ف) إلى اللجنة المغربية للتاريخ العسكري ووضعه رهن تصرفها مع تولي هذه اللجنة صيانة الحصن المذكور واستغلاله لأغراض ثقافية وسياحية،( متحف لمنتوجات المنطقة أو ساحة العروض المجاورة للبرج إلخ ) الشيء الذي لم يتحقق لحدود الساعة، كما رصدت له اعتمادات تقدر بمئات الملايين من الدراهم لم تُلمس آثارها بعد، وإذا كان من مكر التاريخ أن انعكست أدواره ووظائفه وانزاحت مع منعرجات البلد مدا وجزرا فإنه حاليا مغلق ببساطة ينتظر الذي يأتي ولا يأتي .
يستطيع أي باحث أو مهتم بحقل التاريخ أن يستنتج وفقا لكل ما سبق وجود تشابك قوي بين الوثيقة التاريخية والمرحلة الزمنية والآثار المادية في انسجام عام، حينما ندرس معلمة ذات طابع عسكري، بنيت لأغراض استراتيجية وسياسية وأمنية خلال فترة تاريخية تتجلى في نهاية القرن السادس عشر ألا وهي فترة حكم احمد المنصور السعدي وتلك هي معلمة برج تازة ثم حصنها، الذي تميز بموقعه الهام جنوب شرق المدينة العتيقة وبازدواج دوره العسكري ثم الأمني السياسي، وإذا كان هذا الإنجاز قد تم في موضع قصبة قديمة فإن طبيعته ودوره يختلفان كليا عن مهام القصبة خلال فجر التاريخ المغربي الحديث، مثلما تحولت أدواره ووظائفه حسب تقلبات المشهد السياسي المغربي في الفترات المعنية، إذ استمر كمخزن ذخيرة وموقع للمدفعية والمشاة ومجال دعم لوجيستيكي وتجميع للعسكر ومركز مراقبة للأحواز الجنوبية الشرقية لتازة ومعها الطريق الرابط بين شرق البلاد وغربها، لكن مع تحول في التوظيف السياسي والعسكري لصالح هذا المتمرد أو ذاك أو لفائدة المخزن باعتبار سعي كل من الطرفين للسيطرة عليه وعلى موقع تازة (العتيقة) وممرها الرابط بين الشرق والغرب، لأن في ذلك امتلاك سهل لزمام المبادرة شرقا باتجاه فاس وباقي المغرب وغربا باتجاه الحدود الشرقية والإيالة العثمانية الجزائرية، وقد استمر هذا الدور حتى فترة الحماية الفرنسية إذ حققت قوات الاحتلال عبر السيطرة على تازة ذلك الربط “التاريخي”بين شمال إفريقيا الفرنسية من تونس وحتى المحيطة الأطلسي، غير أن الوظيفة الثقافية والسياحية المندمجة بعد استقلال البلاد لم تتحقق لهذه المعلمة التاريخية، في ارتباط مع باقي معالم تازة التي تعاني من التهميش والإهمال رغم دورها المفترض كرافعة قوية للتنمية المحلية، وزاد من تعقيد وضعها الصهريج غير القانوني الذي بني بجانبه والذي أثار وما أثار من رد فعل مجتمع تازة المدني.