تازة بريس
عبد السلام انويكًة
لن تنتهي معارك الفكر ما بقي الإنسان، خلافا تماما لِِما هناك من معارك مادية تنتهي في الزمان والمكان، وأن أولى معارك الفكر هذه انطلقت أول مرة مع إبليس و دارت أيضا بين الأنبياء والرسل وكل الشعوب التي بُعثوا لأجلها، وكذا في زمن الفراعنة والآشوريين واليونان والرومان والممالك الأمازيغ، فضلا عما طبع علاقة بني إسرائيل بأنبيائهم والعرب الوثنيين بالنبي(ص) وبين المعتزلة والأشاعرة والقدريين ..، وبين ايضا عتاة مفكري الأندلس وفلاسفة الأنوار والنهضة الأوربية ورجال الدين والكهنوت، وبين دهاقنة الامبريالية وغير ذلك مما أثثت تاريخ البشرية ولا يزال. غير أن أشد معارك الفكر شراسة تلك التي دارت ولا تزال بين رجال الدين و”سدَنة المعبد” من جهة والحداثيين من جهة أخرى. معارك بقدر ما خلفت من رصيد مكتبي، بقدر ما خلفت من ضحايا “شهداء فكر، علم، حرية تعبير، إعمال العقل، ديمقراطية..”. وإذا كانت الطبيعة تخشى الفراغ فإن الإنسان مجبول على الخوف من كلمات “لا، الرفض”، المجادلة ثم السجال والحِجاج والاحتجاج”، ولعلها الطباع التي كبلت التطور ولاتزال.
بهذه العبارات والاشارات استهل الأستاذ أبو القاسم الشبري تقديما عميقا رفيع المستوى لمؤلَّفه واصداره الموسوم ب”الدين في السياسة والمجتمع بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين” ضمن طبعة أولى عن منشورات دار الفاصلة بطنجة. مضيفا في أنه بهذا المعنى وذاك يكون إبليس قد شكل علامة فارقة في تاريخ البشرية، باعتباره أول من قال “لا” في التاريخ، وأنه بالعودة لآيات النص القرآني، نجد تصريحا واضحا وجليا يفيد بجدال صريح بين الله تعالى وبين إبليس، ويستفاد من النص القرآني أنه دار حوار بينهما حول السجود من عدمه، وأن إبليس طلب من الله إمهاله فاستجاب تعالى لطلبه وجعله من المُنظَرين إلى يوم يُبعثون. واقعة الحوار هذه ثابتة بالنص القرآني حرفا ومضمونا ولا تقبل التأويل. لكن ما يستعصي إدراكه هو كيف دار الحوار لأن الله يَرى ولا يُرى ولا يُكلم أحدا مباشرة ولا من خلف ستار، ولو أن إبليس كان إبانه مَلَكا أو جنيا بالأحرى وليس بشرا.
فليس من نقص إيمان ولا إلحاد أو ردة – يضيف – أن نقول بأن هذه الواقعة بين الله وإبليس، شكلت أولى معارك الفكر في تاريخ الحضارة الإنسانية التي لم يتم الحسم فيها أبدا، وقد تكون أقصر معركة من منظور علوم تحليل الخطاب وليس من باب تفسير المُحَدِثين. وإذا كانت الواقعة قد انتهت بطرد إبليس، الجن، من محيط الملائكة ووعود الجنة، فإنها لم تُحسَم من الناحية الفكرية والفلسفية، لكون إبليس بقي حرا طليقا، فلا هو رضخ لأمر إلهي ولا الله نفث فيه الإيمان، ولا هو أفناه في الحين وهو على كل شيء قادر وقدير. بل إن الله وهب مُجادِلَه إبليس البقاء والخلود إلى يوم البعث، وهذه مرحلة تأسيسية في العدل الإلهي وما نسميه اليوم بالديمقراطية. غير أن هذه المعركة انتهت بهزيمة فكر السؤال والجدال وانتصار فكر الأوامر، ولأنه لا غالب إلا الله، فما كان يمكن إلا أن ينهزم إبليس اللعين، ويخر صاغرا أمام إرادة من “وسع كرسيه السماوات والأرض”، ولذلك بقي مكروها ملعونا إلى يوم الدين. وهذا دليل ليس فقط على اتباع كل أطياف بني آدم لأوامر الله تعالى، بل دليل قاطع على أن بني آدم يرفضون كل من يقول كلمة “لا”،ويكرهون كل رافض للأوامر، وكل رافع لشعار العقل وكل مبادر لإعلاء السؤال. وينسى بنو آدم أنه لولا السؤال وإعمال العقل لَما أرسل الله أنبياءه ورسله إلى البشر، بل لولا السؤال لَما أنزل الله آدم وحواء من الجنة إلى الأرض. مشيرا الى أنه لو بقي آدم وحواء في الجنة لَما كانت هناك من بشرية و حضارة إنسانية، ولإستراح الانسان من وجع الدنيا وما يؤثثها من بشر يجتمع على شيء واحد : هو رفض كل من يقول “لا” ويلتقي في تشَتته إلى شيع ومِلَل ونِحَل وأحزاب متناحرة متنافرة، وعليه، يقول ألم يكن ميلاد آدم مرفقا بالسؤال وبالمشورة بين الله وملائكته؟. ألم يكن إبليس أول رافض معارض في التاريخ، وأول يساري، ديمقراطي، حداثي، عقلاني، مشكك، مفكر، عالِم، جدلي، ثم اشتراكي، بغض النظر عن إيماننا بالكتب السماوية من عدمه. وبلغة كل الأزمنة والأمكنة يضيف أن إبليس كان أول من أعْمل العقل، ولأنه رافض ويساري وديمقراطي وحداثي كرِهته البشرية بكل دياناتها ولغاتها وألوانها مادام كل البشر أنانيين. وأنه من خلال واقعة رفض إبليس السجود لآدم، ضرب الله تعالى للبشرية مثالا يُحتذى في التشاور واحترام الرأي الآخر، وفي العدالة وحرية التعبير والديمقراطية والحرية الشخصية فضلا عن ضرورة إعمال العقل والعلم. لافتا الى أن ما هناك من مفاهيم موضوع معارك اليوم الفكرية، جزء من أسماء الله الحسنى ومن صفاته تعالى؟ وأن الله هو “الديمقراطي الأول”، وأن ابليس كان أول معارض، يساري، اشتراكي وفيلسوف. ولأن الله الذي تحمل معارضته فمنَحه الخلود إلى يوم الدين بدل قتله وحذفه من الكون ومن التاريخ، عمل بحكمته تعالى على مأسسة المعارضة ودسترتها بمفاهيمنا المتداولة اليوم. مشيرا الى أن الآدميين الذين جعلهم وأخلفهم الله في الأرض أخلفوا عهده الله، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فقط لأن الآخر جادلهم وعبر عن رأيه سلميا وقال “لا”. مذكرا في تقديمه عدم اتعاظ الآدميين بالحكمة الإلهية في واقعة إبليس، وعدم استفادتهم من قوله تعالى “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله” لأن الله عدل ولا يرفض الحوار. وأنه إذا كان تعالى حكيما لهذا الحد وهو الجبار العظيم، فكيف للعقل والدين أن يفهما قتل الإنسان للإنسان لمجرد جدال فكري وتعارض مبادئ وايديولوجيا وغيرها.
وإذا كانت معارك الفكر والاديولوجيا المذهبية قد شملت كل الفرق والشيع والأحزاب عموما، فإنها تحتد ولا تنتهي بين من يميل للتدين (المحافظين..) وبين المدعين للحداثة (اليساريين، الديمقراطيين ..)، وسواء الطرف الأول أو الثاني معا هما مصابَين بالعمى والضبابية، وأنهما معا أعداء للحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأن كلاهما ظلامي الوصف والنعت الذي يرمي به كل طرف الطرف الآخر. منتهيا في تقديمه لكتاب”الدين في السياسة والمجتمع بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين”، الى أنه بات ضروريا في المغرب الخروج من هذا النقاش العقيم بتعبيره، من اجل اعتماد العلمانية نمطا في العيش والحياة والفكر ونهجا سياسيا…، لكون رجال الدين يرفضون العلمانية عن جهل، بالمقابل للحداثيين شرح جاهل للعلمانية. وأنه لا العلمانية تحارب الدين ولا الدين يحارب الحرية والديمقراطية. وكما لا يجب رمي العلمانية بالإلحاد – يضيف- يجب التفريق بين الدين وحامليه وممارسيه فضلا عن احترام الفرد والإيمان بالفرد، وإلا يستحيل بناء مجتمع.
واذا كان هذا بعض مما طبع مقدمة الكتاب بقلم الأستاذ أبو القاسم الشبري، فإن من جملة ما يُلتقط من إشارات خلص اليها فيه، تباين معارك الفكر بين اليوم والأمس وأن ما هناك من صراع هو صراع فكري، إيديولوجي، قيمي، مجتمعي ثم ثقافي. لافتا الى أن الايديولوجيات لم ولن تموت وأن الصراع الحضاري لا ينتهي مادام في الكون حضارة وحضارات…، وأن أطياف هذا الصراع تتسابق للتحكم في المجتمع عبر امتلاك أدوات إنتاج التعليم والثقافة والإعلام والقوانين، بل التعليم والإعلام والتشريع هو ثالوث صناعة المجتمع المتعرض دوما للتغيير، وعليه، تجنح ميولات هذا المجتمع حيث جنحت موازين القوى الأيديولوجية الفكرية والسياسية والاقتصادية. مضيفا أنه إذا كان الهدف هو خدمة المجتمع وحقه في عيش كريم، لا نرى حلا غير ترك بيوت الله لذكر الله وعبادته وحده، وجعل المدرسة منبتا لمجتمع المعرفة، وتحويل الإعلام الى مدرسة مِلكا للشعب، فضلا عن تحصين هذا الأثاث بقوانين وتشريعات تكفل الحقوق وتصون الاختلاف وتسمح بارتقاء الجميع وتحفظ جميع مستويات كرامة المواطن. وبناء عليه- يقول- بكون العلمانية هي الحل في المغرب وفي كل أرجاء الدول الإسلامية، علمانية حقيقية تسمح لكل مؤمن وملحد بالحق في كل شيء، دون تضييق ولا مضايقات، مشيرا الى أن المغرب يعيش علمانية مستترة، مضمرة، هجينة، وأنه بلد وشعب منفتح يعيش علمانية مغلفة.
هكذا ضمن محرك ثلاثي “الدين والسياسة والمجتمع”، حلل أبو القاسم الشبري ضمن مقاربة تاريخية واركيولوجية وانتروبولوجية ما هناك من علاقة وفعل وتفاعل بيني، متناولا هذا الاشكال الفكري من خلال فصلين أساسيين، الأول منهما عرض فيه لارتباط الدين والسياسة بالمجتمع فضلا عن منطلقات سياسية وأنتربولوجية، مستحضرا نشأة التدين لدى المجتمعات ملامسا اجتهادات رجال الدين في مختلف الديانات مع عناية خاصة بمسألة حرية العقيدة والحريات الفردية. فيما ناقش الفصل الثاني للكتاب جملة قضايا سياسية مترابطة ومتباينة، من قبيل المرأة والسياسة وثقافة البادية وعلاقة المثقف بالسياسة وغيرها. ليبقى ختاما مؤلَّف الأستاذ أبو القاسم الشبري، الفاعل الجمعوي والخبير في التراث العالمي وخريج المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالرباط ومدرسة التكوين الدولي في الثقافة بباريس، والذي ايضا بمساحة مؤلفات واسهامات فكرية تخص الشأن الثقافي والسياسات الثقافية والتراث. يبقى مؤلفه موضوع هذه الورقة، بقدر ما تأسس على مادة علمية دسمة ونهج تحليلي عميق توزع على ما هو تاريخي وديني ومجتمعي، فضلا عن علائق وتفاعلات وأحداث وواقع وصور زمن ومكان وانسان، بقدر ما سجله حول ماهية وتجليات وأسئلة وجدل وتاريخ العلاقة بين الدين والسياسة بين أولين وتابعين، كاشفا ما هناك من تواضع وندرة تتبع واهتمام وقراءة وسؤال وتنوير يهم الموضوع. وعليه، فما تقاسم كتاب”الدين في السياسة والمجتمع بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين”، وما توزع عليه من محاور متكاملة وسؤال ومقاربة ونماذج وقضايا فضلا عن مقترحات، وما تأسس عليه ايضا من ببليوغرافيا رصينة ومتنوعة. جعله بطرح وتميز وتحليل لمساحة لم يكتب عنها بما يفيد الا القليل القليل. وهكذا ايضا ما يُسجَّل لفائدة هذا العمل العلمي، من إغناء وإثراء لوجهة بحثية من خلال مقاربة رفيعة المستوى طبعها ما طبعها من شجاعة أدبية. موفراً بذلك مساحة إنصات وإلتفات وجدل بقيمة مضافة عالية لفائدة خزانة المغرب والعالم العربي والاسلامي العلمية التاريخية والسسيولوجية، ولفائدة البحث والباحثين وكذا التثقيف والتنوير والقراءة والقراء المهتمين. كتاب تم الحرص فيه على توسيع وعاء فهم العلاقة بين الدين والمجتمع، ضمن سياق انساني تاريخي وحضاري. وعليه، أهمية الإشارة إلى أن مؤلف”الدين في السياسة والمجتمع بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين”، يعد عملا علميا جديرا بالقراءة والاطلاع، لِما طبعه من تحليل وبناء ومادة معرفية بأبعاد عدة ومتداخلة. ولعل بقدر ما أضاف الكتاب شيئا لجدل العلاقة بين الدين والمجتمع، بقدر ما ابرز من أشياء تخص الموضوع. وأن بناءه ونهجه البحثي المعتمد جعله بتميز في طروحاته ورؤيته فضلا عن كفاءة تناول وشجاعة.
يذكر ختاما أن أول توقيع لمؤلف”الدين في السياسة والمجتمع بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين” للباحث والأثري أبو القاسم الشبري كان برواق الفنان التشكيلي”انويكًة” الغني عن التعريف بقصبة لوداية بالرباط، وقد أثثه وقدمه عبد الحكيم قرمان الباحث في علوم الاعلام، فضلا عن حوار مفتوح مع المؤلِّف ونقاش مفتوح مع الحضور بالمناسبة. ولعل بقدر ما المؤلَّف دعوة لمناقشة الشأن الديني بين الجميع من المهتمين كل من موقعه، بقدر ما هو تقدير لكل الديانات وتشريح للمسألة الدينية في عدد من جوانبها وتماساتها، مع نوع من ثناء الكاتب على الاسلام الحضاري الذي يقول عنه أنه قدم الكثير للبشرية في مجال العلوم عموما زمن العلم والعلماء.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث