تازة بريس
وصل الوضع الاجتماعي إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور والاختناق، في ظل اشتداد حمى الأسعار، التي رفعت من منسوب الاحتجاج والاحتقان، وزادت من جرعات اليأس والإحباط وانسداد الأفق، بعدما امتدت موجة الغلاء نحو مواد استهلاكية شكلت وتشكل عماد المائدة المغربية وعصب حياة شرائح واسعة من المواطنين من ذوي الدخل المتوسط والضعيف، من قبيل الدقيق والزيت والبطاطس والطماطم والبصل والبيض والحليب والسمك واللحوم البيضاء، وضع اجتماعي لن نجد من إمكانية لتوصيفه، أكثر من صرخات الاحتجاج، التي نقلتها العديد من المواقع والقنوات، لمواطنين بسطاء وغلابى، لم يجدوا من خيار أو بديل سوى الصراخ، وتقديم الشكوى والتظلم أمام عدسات الكاميرا، طمعا في الإنقـاذ من شبح جوع بات وشيكا؛
على المستوى الرسمي، غاب التواصل الفعال، وغابت معه الحلول الممكنة والخلاقة، التي من شأنها كبح جماح الغلاء المستشري، وإعادة أرقام الأسعار إلى سالف عهدها، رأفة بالمواطنين البسطاء والغلابى، ماعدا الإصرار على تمرير “خطاب الوعد” الذي بشر المغاربة بالعودة الميمونة، إلى سنوات، يحق لنا توصيفها بالزمن الجميل، كانت فيها أثمنة الخضر والفواكه واللحوم البيضاء والحمراء والأسماك والحبوب والبيض والقطاني، في متناول“المسكين” و”الفقير” و”المقهور” و”المغلوب على أمره” و ”المتسول” و”عابر السبيل”…
بين “الماضي المأسوف عليه” و”الواقع المر المغضوب عليه”، برز “خطاب الحقيقة” أو “خطاب شرح ملح” الذي وضع المغاربة أمام حقيقة اجتماعية واقتصادية، عرت عن عـــورة “خطاب الوعد”، ونقصد في هذا الإطار، ما صدر عن “المندوب السامي للتخطيط” و”والي بنك المغرب” من تصريحات وضعت “بيضة الحكومة فالطاس”، عبر الإفصاح عن أرقام ومعطيات وحقائق، وضعت الأداء الحكومي تحت مجهر الحقيقة المرة، لكن وسواء تعلق الأمر بالخطاب الأول أو بالخطاب الثاني، لم تتغير أرقــام الحقيقة الاجتماعية، ليظل “الاحتجاج” و”الاحتقان” و”التذمر” و”الشكوى” و”الصراخ” و”فقدان الثقة” و”اليأس “و”انسداد الأفق”، علامات تشويـر بارزة، في مضمار اجتماعي، بات شاقا وعسيرا أكثر من أي وقت مضى؛
ودون التيهان بين أرقام ومعطيات “المندوبية السامية للتخطيط” و”بنك المغرب”، فما هو ثابت للعيان، أن “جنوية” الأزمة الاجتماعية “وصلات لعظم”، و”الفقر” إن لم نقل “الجوع”، بات يتربص بحياة شرائح واسعة وعريضة من المواطنين، و”سوء التغذية” أضحى حقيقة مرة، من الصعب غض الطرف عليها، والعلاقات الاجتماعية والأسرية على وجه الخصوص، وصلت إلى درجات متقدمة من القلق والتوتر والضغط، وشرائح واسعة من التلاميذ خاصة المنحدرين من أحزمة الفقر والبؤس الاجتماعي، أضحوا مهددين أكثر من أي وقت مضى، بشبح الهدر المدرسي، الذي يحضر، حيث يعشش البــؤس ويتربص الجوع، وبين هذا وذاك، قصص اجتماعية، تنسج خيوطها في صمت، في أوســاط الكثير من الأسـر الفقيرة والمعوزة، التي ازدادت أوضاعها المعيشية “بهاء” في زمن الوجع والأنيـن والآهات؛
ما نعيشه من اختناق اجتماعي غير مسبوق منذ مغيب شمس كوفيد، أحدث ما يشبه الزوبعة في فنجان عدد من المفاهيم والمسلمات، من قبيل “المغرب .. بلد فلاحي” و”مخطط المغرب الأخضر” وبعده “الجيل الأخضر”، و”الاكتفاء الذاتي” و”السيادة الغذائية”، و”السلم الاجتماعي” و”العام زين” و”التنمية القروية” و”السياسات العمومية” و”الحكومة الاجتماعية” و”برلمان الأمة” و”الأحزاب السياسية”، و”مؤسسات وهيئات الحكامة” و”التنمية” و”الثروة”، و”الاحتكار” و”الجشع” و”الطمع” و”الرقابة على المال العام” و”العبث” و”المسؤولية” و”المحاسبة” وغيرها، بعدما برز مفهوم “الجوع” في الخطاب الاجتماعي الشعبي، وهذا المفهوم وحده، يكفي لدق ناقوس الخطر، لما له من تداعيات متعددة الزوايا على اللحمة الوطنية والسلم الاجتماعي، وعلى تماسك الجبهة الداخلية؛ التي بدونها يصعب التصدي لمؤامرات وخصوم أعداء الوطـن؛ الأزمة الاجتماعية القائمة، بقدر ما هي مثيرة للخوف والقلق، ومهددة للسلم الاجتماعي ومتربصة بتماسك الجبهة الداخلية، بقدر ما تفرض أكثر من أي وقت مضى، القطع مع ممارسات العبث والجشع والطمع والأنانية المفرطة والريع والفساد ونهب المال العام، وربط المسؤولية بالمحاسبة وتفعيل آليات عــدم الإفلات من العقاب، والتصدي الحازم لتجار المآسي والأزمات، كما تفرض تدبيرا أمثلا للأزمة، بعيدا عن خطاب “العام زين” أو لغة “الاتهام” أو أسلوب “المراوغة”، وبمعزل عن خطة “تغطية شمس الحقيقة بغربال الوعود الجافة”؛
تدبير الأزمة، يقتضي وجود مسؤولين/مواطنين حقيقيين يصغون إلى نبض الشعب، ويحسـون بما يحس به المواطن المغلوب على أمره، أمام “قفة” باتت صعبة المنــال والإدراك، يقتضي مساءلة كل الخطط والبرامج التنموية، والسياسات الحكومية المتعاقبة، التي أخرجت المواطنين إلى الشوارع، بعدما بلغ “سيل” المعيشة “الزبى”، وحول شرائح واسعة من المواطنين إلى مناضلين تحت الضغط، من أجل “القفة” و”الغذاء”، بدل النضال من أجل جودة التعليم ومتانة الصحة والشغل القار والسكن الكريم والحقوق والحريات؛ وقبل هذا وذاك، يقتضي إعادة النظر في الاختيارات والتوجهات المعتمدة في القطاع الفلاحي، عبر استعجال خلق نقاش وطني متعدد الزوايا، لتفسير جائحة الغلاء التي حلت ضيفا ثقيـلا على الكثير من الأسر المغربية من ذوي الدخل المتوسط والضعيف، والإسهام الجماعي في وضع سياسة فلاحية “مواطنة” قادرة على تحقيق “السيادة الغذائية”، عبر دعم الطبقة الفلاحية المتوسطة والصغيرة بالأسمدة والمبيدات الحشرية وعلف الماشية، والبذور التي تتكيف مع بنيوية الجفاف، وتوجيه الفلاحين نحو الزراعات التي تشكل عماد المائدة المغربية، من قمح وشعير وخضر وفواكه وقطاني، ووضع سياسة واضحة للتصدير تراعي طلب السوق الداخلي، والإقلاع عن بعض الزراعات المستنزفة للثروات المائية، ووضع مخطط جديد للصيد البحري، يمكن المغاربة من الاستفادة من الثروات السمكية، مع إعادة النظر في طبيعة اتفاقية الشراكة التي تربط المغرب بالاتحاد الأوربي في مجال الفلاحة والصيد البحري، حيث لم يعـد مقبولا، أن تساهم الفلاحة المغربية في تمويـن الأسواق الأوربية وحتى الإفريقية، في وقت يتم فيه الحكم على المغاربة بالجوع وسوء التغذية، أو يتم الاستنجاد بالخارج، لتأمين حاجيات السوق الداخلي، من الحبوب والقطاني والعجول…، وكأن الأرض المغربية وصلت إلى سن اليأس، ولم تعد قادرة على الإنجاب/الإنتاج…
وفي ظل هذا “الاختناق الاجتماعي” المرعب، وبلغة الحقيقة التي ينكرها الفاعل السياسي، نتساءل: إذا كان لهب الأسعار اجتاح جيوب الموظفين من ذوي الدخل المتوسط والمحدود، وزاد أوضاعهم الاجتماعية والأسرية تدهورا، فكيف لرب أسرة مياوم أو بائع أو حرفي أو ربما عاطل عن العمل أن يدبر قوته اليومي؟ كيف لمتقاعد لا يتجاوز دخله الشهري ألف درهم أن يضع يده على البطاطس والبصل والفلفل؟ وكيف لحارس أمن خاص، لا يتجاوز دخله الشهــري ألفي درهم، أن يوفر سومة الكــراء وثمن الماء والكهرباء والبطاطس والطماطم والبصل؟ وكيف لربة بيت أو أرملة أو مطلقة أو عاملة نظافة، أن تمكن أبناءها من “القفة” أو تفرحهم بكسوة العيد؟ ولن نجد أجوبة شافية للغليل، إلا بالقول ” يا مسكين يا مسكين .. المعيشة دارت جنحين”، وهو ذات الشعار الذي تردد في أوساط عدد من المواطنين الذين خرجوا إلى الشــوارع احتجاجا على تدهور أوضاعهم المعيشية؛
وعليه، واستحضارا لواقع الحال، وتقديرا لما للوضع الاجتماعي القائم من آثار وتداعيات على السلم الاجتماعي، فالحكومة مطالبة أولا، باستحضار حساسية السياق الاجتماعي، وهي تحاول الحسم في ملف إصلاح أنظمة التقاعد، وتقدير انعكاسات ذلك، على القدرة الشرائية للموظفين التي بلغت من التدهور عثيا، ومطالبة ثانيا، باستعجال تحريك ناعورة الحوار الاجتماعي على بعد أقل من ثلاثة أسابيــع من عيد العمال العالمي، والمضي قدما في اتجاه إقـرار زيادة عامة في الأجـور دعما للقدرة الشرائية التي باتت تقف عند حافة الانهيار، ليس فقط للتخفيف من ضغط طنجرة الاحتقان، ولكن أيضا، لاسترجاع الثقة في الأداء الحكومي، مع ضرورة الإشارة أن الرفع من الأجور وحده لا يكفي لإطفاء نيــران الغضب، فلا مناص من تقديم حلول استعجالية، قادرة على إعادة أرقام الأسعار إلى سالف عهدها، رحمة بالبسطاء ورأفة بالغلابى والمساكين، في انتظار صياغة وتنزيل برامج ومخططات ومشاريع تنموية، قـادرة على بلوغ مرمى “السيادة” في الفلاحة والصناعة والدواء والتكنولوجيا، في سياق جيواستراتيجي دولي، القوي فيه، من يملك السيادة ويتملك سلطة القرار؛
ونختم بالتساؤل: ماذا لو تم القطع مع ريع الوزراء والبرلمانيين، وما يرتبط به من ممارسات مستنزفة للمال العام؟ ماذا لو تخلى هــؤلاء عما يتلقونه من تعويضات سمينة، من باب الإسهــام المواطن في حل الأزمة الاجتماعية القائمة، مادامت المهام التي يقومون بها تدخل في خانة “التطــوع”، خاصة وأن جلهم إن لم نقل كلهم أصحاب شركات ومشاريع وموظفين وأطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم؟ ماذا لو تم شـن معركة حامية الوطيس، ضد “الفارين من جندية الضريبة”؟ ماذا لو تم القطع بشكل لارجعة فيه، مع العابثيـن بالمال العام؟ ماذا لو تم اعتماد “قانون الإثراء غير المشروع” وتفعيل أمثل لقانون التصريح الإجباري بالممتلكات؟ ماذا لو تم إشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في وجه العابثين والمفسدين ؟ ماذا لو تحملت مؤسسات وهيئات الحكامة، مسؤولياتها كاملة في الضبط والرقابة على المال العام وفضح الفساد بكل تمظهراتـه؟ ماذا لو تم خلق “صندوق للطوارئ الاجتماعية” يساهم فيه كبار الأثرياء والأغنياء بما في ذلك الوزراء والبرلمانيين؟
أسئلة من ضمن أخرى، نحاول من خلالها تقديم بعض الحلول والمقترحات، التي من شأنها الدفع ليس فقط، في اتجاه حل الأزمة الاجتماعية القائمة، بل والإسهام في تحريك عجلة التنمية التي بشر بها النموذج التنموي الجديد، والتأسيس لمجتمع التضامن والمساواة والعدالة الاجتماعية، وقبل هذا وذاك، الحرص على “تماسك اللحمة الوطنية” و”صون السلم الاجتماعي”، ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، يبقى الوطن فوق الجميع، وإذا أشهرنا سيف الاتهام أو وزعنا صكوك اللوم والعتاب، فمن أجل وطن، نتمناه بهيا وأنيقا ومزدهرا. وفي جميع الحالات، فلا بناء ولا نماء ولا هناء، ما لم تحضر الوطنية الحقة في سلوكات وممارسات المسؤولين، وتحضر معها محبة وطن، حبه يرتقي إلى درجات الإيمان… على أمل أن تحط المعيشة الرحال على الأرض، وتعود معها عقارب الأسعار إلى سالف عهدها، رأفة بمواطنين بسطاء وغلابى، باتوا اليوم، بين مطرقة الفقر وسندان الجوع…
عزيز لعويسي .. السفير 24