تازة بريس

تازة : حول موسم الزهر وعظمة موعد رافع لهوية المدينة وتراثها اللامادي..

-

تازة بريس

عبد السلام انويكًة

على وقع روح دروب وأزقة تازة العتيقة وفضاءاتها الأثرية وزمنها اللامادي، وبهاء أجواء ربيع المدينة وصور طفوحاته واطلالاته ونزهته ومنظره وجبله ومياهه وألوان أغراسه، فضلا عن مشترك رمزي محلي تراثي لامادي بأثر سلطاني. كانت تازة على موعد مع موسم الزهر في دورة سادسة، ارتأت لها الجهة المنظمة “دور المجتمع المدني في حفظ الهوية الحضارية للمدينة” شعارا. عبق مديني أصيل ومراسيم تقطير زهر وأثاث فكر وفن وابداع ومراسيم، جعل الموسم مساحة لقاء واحتفاء وتطلع صوب ما ينبغي من حضن وتثمين رافع للمدينة العتيقة، من اجل ما ينبغي من رد الاعتبار لها وحفظ هويتها كي تسهم بمخزونها وزخمها التراثي المتفرد فيما هو منشود من نماء محلي.

ولعل موسم الزهر بتازة حتى دورته الأخيرة، لم يكن أبدا مجرد حدث ثقافي، بل عميق وعي بأهمية تراث المدينة وبسبل الاشتغال على هذا التاث في جميع تجلياته بما في ذلك جانبه اللامادي، بل ايضا دعوة لحمايته ولمزيد من الالتفات اليه، وعيا بأن تراث المدينة كل لا يتجزء وأن الى جانب معالمها الأثرية هناك عادات وتقاليد وأدب عيش وصور حياة وسلوك انسان، وأن روح المدينة العتيقة أساسا تراثها اللامادي، وأن حمايته تثمين لهويتها وطابعها الأصيل. هكذا هو موسم الزهر نداء حضاري بقدر كبير من الأهمية والرسالة والاشارة للجميع كل من موقعه، من اجل ما ينبغي من حفظ لهوية المدينة التراثية. موسم جوهره كان منذ دورته الأولى حتى الآن ولا يزال، ابراز الهوياتي التراثي المحلي الحضاري مع التحسيس بقيمة الرأسمال اللامادي وما يمكن أن يسهم به على المستوى الترابي المحلي. علما أن من جملة ما طبع هذا الموعد الربيعي السنوي ولا يزال من أنشطة فنية وثقافية وفكرية وتواصلية، إعداد الناشئة الجديدة على التراث ومن ثمة التربية والتنشئة على الهوية المحلية والوطنية المغربية “تمغريبت”، فضلا عن غرس معنى التراث وعبقه وجماليته في نفوس الأجيال من اجل ما ينبغي من تلاقح ومشعل واستمرارية.

وغير خاف أن موسم الزهر بتازة الذي بلغ دورته السادسة، وفي جعبته احلام واسعة على أكثر من مستوى، هو اشتغال على مشترك جمعي بالمدينة فضلا عن ذاكرة من المهم حفظ زخمها وغناها الإنساني الجامع بين ذخائر شفوية عدة وزخم عادات وتقاليد، حتى لا يطويها الاتلاف والإهمال والنسيان ويكون ترميم معالم المدينة الأثرية وتهيئة فضاءاتها التاريخية بدون لا معنى ولا قيمة مضافة، إن هي فقدت روحها وعبقها اللامادي. من هنا ما يحضر موسم الزهر  من وقع تراثي روحي مؤطر، ذلك الذي لا يزال ممتدا حتى الآن. وكما لأهل تازة تقاليد تخص لباسهم واحتفاءاتهم وموائدهم وطبخهم ..، فلهم أيضا تقاليد تعكس اصالتهم وتميزهم وعمق علاقتهم ببيئتهم ومستقرهم ومن ثمة تراثهم الأصيل اللامادي والذي منه تقليد ماء الزهر. واذا كان قد تم تصنيف تازة تراثا وطنيا قبل عده سنوات لِما هي عليه من أثر مادي تاريخي هام، فإن ما تزخر به من إرث لامادي من شأنه أن يكون رافعا لأفقها الانساني مستقبلا. وعليه، فموسم الزهر بها ليس مناسبة لفرجة واحتفاء ونزهة روحية ووجدانية فحسب، بل موعدا لتبادل وإنتاج ما ينبغي من أفكار ورأي ومقترح علمي وفني وترابي.. لمزيد من الإغناء والبعد الوظيفي. هكذا كان ولا يزال موسم الزهر، مساحة لصلة رحم بين ماض وحاضر وخلف وسلف كان بما كان من تقاليد عاش على وقعها وعمل على حضنها وحفظها. ولعل موسم الزهر الذي تحتفي به دار السماع ربيع كل سنة، هو في حد ذاته تراث لامادي وهوية كانت ولا تزال حاضرة في زمن المدينة، وهي بحاجة أكثر من أي وقت مضي لعناية وانصات وحماية، في زمن عولمة وتدفق قيم وسلوك وقرصنة وإهمال واتلاف وترييف ونسيان الخ.

ولعل حفظ تقليد تقطير الزهر كتراث لامادي بتازة، كان ولا يزال ما يرومه موسم الزهر عبر ما يؤثثه من احتفاء وأجواء رافعة، وما ينشده من حس روحي إيجابي مجتمعي، على وقع ما كان عليه السلف من عافية نفسية وطمأنينية وهدوء وتفاءل وقناعة وتعايش وتعاون .. الخ، مستفيدا مما كان لديه من سبل وفرص عيش من قبيل قربه وجاورته للطبيعة (نزاهة، تغدية، اغراس في البيوت، مشاهد ومناظر محيطة، فرح واحتفاء جماعي..)، وأن من هذه الطبيعة في معيش السلف ما كان من تقليد وطقوس خاصة بتقطير الزهر. ومن هنا ما يحسب لموسم الزهر بتازة من صلة رحم مع ماض وفصل ربيع، ومن خلاله صور موسم وزهر وما كان يطبع بيوت أسر تازية اصيلة ويملأ دروب المدينة وأزقتها وأسواقها لبضعة أسابيع، من ثقافة إعداد واستعداد بدءا باقتناء الزهر من أمكنة عرضه، وايضا مما كان يطبع الأسرة التازية من لحظات جمع ومتعة بطيب رائحة زهر زكية، ومن تجويد لعبقها عبر طقوس خاصة قبل تقطيرها، فضلا عن تخزينها وقيم تقاسم بعضها بين هذا وذاك من جار وقريب ومحتاج. دون نسيان كون موسم الزهر بتازة الذي بلغ دورته السادسة، هو صلة رحم مع أمكنة بذاكرة رمزية خاصة ذات صلة، من قبيل ملتقى قبة السوق الشهير بالمدينة وزنقة باب الزيتونة وما كان يتقاسمها من محلات كانت تعرض على جنبات أبوابها قفاف زهر وورد، ضمن مشهد يضفي رونقا خاصا على هذه الأمكنة كل صباح ولعدة أسابيع من ربيع كل السنة. وقد ارتبطت بها بأسماء عدة اشتهرت ببيع الزهر والورد لا تزال تحضر في ذاكرة المدينة. والشيء بالشيء يذكر كما يقال، من امكنة تازة العتيقة التي بذاكرة في ثقافة تقطير الزهر بها، ما كان ولا يزال يعرف فيها ب “القزدارين”. ولعل المكان الذي بمثابة مركب حرفي، بقدر ما كان بمحلات عدة وحرفيين متخصصين في صناعة وإصلاح بعض الأثاث المنزلي من قبيل قطارات ماء الزهر، بقدر ما كان يشهده من حركة دؤوبة واقبال استعدادا لتقليد تقطير الزهر.

ونذكر من جملة ما يحضر موسم الزهر بتازة من أمكنة وصلة رحم ايضا، سوق العطارين والعشابين الذي كان ولا يزال نفسه المكان الخاص بالأعشاب الطبية وكذا العطور وماء الزهر والورد وغيره. ولعله يتوسط المجال الفاصل بين الجامع الأعظم السلطاني وضريح ولي تازة الشهير سيدي عزوز، وبين فضاء المشور الذي طبع تازة كمدينة سلطانية، مرورا بمساجد وأضرحة علماء وفقهاء ومدارس عتيقة وغيرها. وكغيرها من مدن المغرب الأصيلة التي كانت بفضاء خاص بالعطارين والعشابين، لا يزال المكان بتازة بفوح بعبق ماض فضلا عن حركية ثقافة عشبية وعطرية، علما أن ما هو عشب طبي كان ولا يزال جزءا من أثاث البيت التازي الأصيل عموما، لدرجة يكاد لا يخلو هذا البيت من مادة الأزير مثلا والزعتروفليو ولخزامة..الخ. ولعل جميع هذا وذاك يترجم ما هناك من هوية حضارية محلية تازية ضاربة في القدم، لا شك أنها تراكمت إثر ما كانت عليه المدينة من أدوار بقدر كبير من الأهمية العلمية والدينية والسياسية، وبخاصة خلال فتراتها الذهبية التي لعبت فيها دور المدينة العاصمة ولو لفترات محددة، عندما كانت مصدر قرارات سيادة تجاه كل جهات البلاد. ولعل أثر تازة السلطانية لا يزال باديا ليس فقط من خلال ما هناك معالم أثرية من قبيل مشور المدينة وجامع الأعظم السلطاني ودار الامارة / القصر، فضلا عن مدفن ملكي مريني وجنان سلطان ومحج مصارة وغيرها. بل ما هناك من تراث لا مادي جامع بين تقاليد وعادات عريقة منها ما يتعلق بالعطر والعطور وتقطير الزهر وأمكنة وتقاليد إعداده، انسجاما مع مناسبات احتفاء محلية لا شك أن منها مناسبات سلطانية. ويبقى من صور صلة الرحم التي لموسم الزهر بتازة، احتفاءه وتكريمه وتعظيمه لشجرة مباركة “النارنج”، من خلال استحضار رمزيتها وسلطتها النباتية الطبية والعطرية وهيبتها الجمالية، باعتبارها نباتا تراثيا جزءا من ذاكرة وهوية البيت التازي الأصيل. هذا فضلا عن تعريف موسم الزهر بها وبأهميتها وقيمتها البيئية وأفق توزعها بالمدينة، خاصة على مستوى مجالها العتيق حيث مدارات باب الريح وفضاء “ليروشي” وباب طيطي وباب القبور وباب الجمعة وساحة أحراش، دون نسيان جنبات أسوارها الأثرية المحيطة وما يمكن أن تضفيه شجرة النارنج هذه من جمالية منظر حضري، فضلا عن وسط بيئي جاذب ومورد شجري وخزان واعد رافع لتطلعات الموسم واحلامه في دوراته القادمة بحول الله. وفق طبعا ما ينسجم مع روح المدينة العتيقة ومجالها التراثي المادي واللامادي، وجميع ما من شأنه تثمينها ورد الاعتبار لها واستعادة ما كانت عليه من اشعاع ومكانة الى عهد قريب، ومن ثمة حفظ هويتها الحضارية وخصوصيتها الترابية الأصيلة.

هكذا هو موسم الزهر وتازة في زمن وتراث المغرب منذ العصر الوسيط، وقد كان الحسن الوزان صاحب تقرير”وصف افريقيا” الذي خصه لتراب البلاد طولا وعرضا، دقيقا فيما أورده عن تازة، عندما ذكر أنها تحتل الدرجة الثالثة في المملكة من حيث المكانة والحضارة، معرجا في حديثه على أن بها جامع أكبر من جامع فاس وفنادق كثيرة وأسواق منتظمة كأسواق فاس، مضيفا كون ملوك بني مرين كانوا يقضون بها الصيف كله. وحتى المؤرخ والسياسي والأديب والشاعر لسان الدين بن الخطيب، عندما زار تازة خصص لها فقرة بقدر كبير من الرمزية، وقد أشار فيها لهوية المدينة من حيث ما هي عليه من بيئة جامعة بين طيب هواء وعذوبة ماء ومواهب عدة. فكيف اذن أن لا تكون تازة بهذا بتاريخ وتراث وثقافة وتقاليد وعادات ضاربة في القدم والتي منها تقطير الزهر. وهكذا ما أحوج المدينة لموسم الزهر ولغيره من مواعيد ذات طبيعة تراثية رافعة لمجالها العتيق، لِما يمكن أن تسهم به على مستوى حفظ تراثها وهويتها، مادام أنها تشتغل على مجال حيوي يخص التراث في جانبه المادي واللامادي. ونعتقد أن تراث تازة الأصيل الذي منه تقليد تقطير الزهر، بقدر ما يدخل ضمن حجر الزاوية، من حيث حفظ ما هو تراث وهوية وما ينبغي من تربية وتنشئة ووعي تراثي، بقدر ما ورش حفظ تراث تازة اللامادي رهين بمواعيد احتفائية رافعة، مستحضرة بصمات ماض وتجليات تراث من قبيل تقليد تقطير الزهر وموسم الزهر. وهو ما احتفت به المدينة في دورة سادسة أيام 1، 2، و3 ماي الجاري، على وقع أثاث فني تراثي جمع بين حلقة ذكر وشذرات فن المديح لمجموعة دار السماع، نفحات من تراث الطائفة العيساوية، مساحة احتفائية بطقوس ومراسيم تقطير زهر على الطريقة التازية الأصيلة. فضلا عن ندوة علمية بقدر من الاحاطة الفكرية حول تراث تازة اللامادي وسبل حفظه، وقد تقاسم محاورها باحثون جامعيون. وعن سهرة ختامية كبرى باذخة أطر عظمة عرضها الفني جوق الحاج أحمد لبزور التازي لطرب الآلة والجمعية التازية لفني السماع والأمداح النبوية، فضلا عن الايقونة المغربية الحاج محمد باجدوب الذي حبس بصوته وتفرد أدائه وغنى تموجاته وطاقة اشعاره ونبوغه الفني، أنفاس حضور موسم الزهر. مسدلا الستار على دورته السادسة، وعلى عظمة موعد رافع لِما هو منشود من مكانة وإعادة اعتبار لتازة ولتفردات تراثها اللامادي.

     

إلغاء الاشتراك من التحديثات