“باب الريح” استرجاعات مُهربة من ذاكرة الألم والحنين ..

تازة بريس
الأستاذ الباحث المداني عدادي
منذ غابر الأزمنة، ومنذ البدايات الأولى لظهور البشرية، لازمت الرواية أو الحكاية صيرورة الإنسان وكينونته، لأنه وجد فيها ملاذا آمنا لتخزين أفراحه وأطراحه، ومرتعا خصبا لآلامه وآماله. ومن يومها ظل الإنسان لصيق الصلة بها وبطقوسها المتعددة؛ سواء أكانت رسومات أم حكايات، أم قصة أم رواية. و”باب الريح”1 بتمثلاتها المختلفة، تدخل – هي الأخرى- في هذا الباب، ولذلك آثرت أن أُعَنْوِنها بهذا العنوان:” باب الريح؛ استرجاعات مهربة من ذاكرة الألم والحنين”؛ فهي استرجاع لأنها ذكرى. ومهربة لأنها عصيّةٌ على السرد، مُتَفلِّتةٌ من الحكي. ومن ذاكرة الألم والحنين؛ لأن مصادرَها لا تعدو أن تكون بنتَ ألم أو ألم. والرواية برغم حملها لهذا التجنيس أو الصفة، إلا أنها تبقى من خلال مضامينها الداخلية، عبارة عن سيرة غيرية، أو سيرة جماعية بأصباغ روائية. 2وحتى “باب الريح” كعنوان ظل حضورُه رمزيا فقط، لأن أحداثا كثيرة، وأمكنة أخرى متعددة طغت على المشهد العام للرواية واستحكمت فيه؛ من بينها شخصية “الصديق” المرحة، الشبيهة- إلى حد كبير- بشخصية (مستر بين Mr.Bean) الشهيرة، ولكن بفارق واحد؛ هو أن هذا الأخير شخصية صامتة، وشخصية الصديق شخصية صاخبة. ومنها أيضا الأحداث الغرائبية التي تتناسب وتتناغم مع أجواء مدينة النحاس. وفي خضم هذه التنوعات والتجاذبات سأركز على خمسة محاور أساسية مشفوعة ببعض الملاحظات ومن ثمة خاتمة.
من البداية ينتابُ السردَ بعضُ القلق والارتجاج، وذلك لكثرة الأحداث والرُّواة فيه. مما جعله أشبه ما يكون بالرُّعَاشِ السَّرْدِي. وهذا – في نظري – يتناسب مع رمزية باب الريح الحركية غير المستقرة، والمشهُودَةِ “بالريّاح العاتية التي تَخْبِطُ الأبواب […] وتصرخ بسَطْوَتِها العَارِمَة، تتلاعَبُ بجلابيب البشر وطرابيشِهم وملاءاتِهم وسلاهِمِهم وحتى أجسادِهم، بل رُبَّما وجد راحتَه مع تلك الرياح لأنها توحي له بمزيد من الأخيلة المنْزاحَة والجميلة معا..”3. وكذلك جاء حال السردِ والأحداثِ في هذه الرواية؛ إذ يُقِرُّ الكاتب – ومنذ البداية – بأن “مخبول باب الجمعة” – كما أسماه – ليس الحكواتي الوحيد في السرد؛ بل هو ” حكواتي واحد في حكواتيين مُتعدِّدين أو مُفْرَدٌ بصيغة الجمع” 4، ويكرِّرُها ثانيةً ،بعد صفحة واحدة فقط من هذا المقال، فيقول:” استأنَفَ صاحبُكم السرد الأثير، ولْتَنْتَبِهُوا، فليس وحدَه السَيِّدَ في بيته، مُناوراتٌ ماكرةٌ حقا عبر هذه الصفحات، هناك حكواتِيُون آخرون ببساطة، لأن اللعبة مشتركة.” 5
لذلك نراه تارة يمسك بعِنان السرد وهو يحكي عن الشخصيات، وهذا هو الغالب الأعم، وتارة يتنازلُ عن الحكي لصالح شخصية أخرى لتتولى هي تقديمَ نفسِها بنفسها، أو تقديمَ غيرِها وتحكي أحدَاثها؛ مثلما فعل مع كنزة وهي تقدم نفسها قائلة :” .. كنت أنا الرابعةَ في عقد الفقيه الوزاني مع الوالدة خدوج النهارية، ويا حسرتي على الدراسة، مشارفُ الشهادة الابتدائية والحصيلةُ بضعةُ أحرف، وكلماتٌ فرنسيةٌ معدودَة ..”6. أو في بصمة أخرى عابرة لكنزة، وهي تدافع عن فاطمة قائلة:” هي أمُّ زوجي، لا يَنْبَغِي له أن يتَخَلَّى عنها، وأنا لَمْ أَقِفْ ضِدَّهُ في كلِّ مَسَاعِيه..” 7، ولذلك كَثُرَتْ في المتن عباراتٌ من قبيل:” حاشية من بصمة كنزة بنت الفقيه الوزاني” و” أخرى من توقيع عبد الهادي بن الصديق” و” ثالثة من لغط الكاملة بنت مرزاق المنوني” و”رابعة لعبد الخالق وعبد الهادي معنا” و”حكى عباسُ من جانبه” إلخ..8 وتارة أخرى نراه يُخاطِب بعْضَ هذه الشخصيات مباشرةً وَجْهاً لوجه، وكأنها حاضرةٌ أمَامَه، مثلما فعل، وهو يقدم شخصيةَ الصديق قائلا: “أمَّا وَهَجُك أنت يا صاحبَ اللون الأبيض والقُلنسُوةِ الناصعة، والطُّرْبُوشِ الأنصع [..] أمَّا وَهَجُكَ فيقتضي أن تستبدِلَه، لكن بآخرَ يقْتربُ مِنْ قَنْدْرِسِيه أيضا..” 9 وتارة أخرى يقدِّمها عبارةً عن يوميات مَبْتُورة التواريخ، مُتَفَرِّقَة الأحداث، لا رابط بينها سوى الفضاءِ العامِّ الذي يجمَعُها. 10
وحينما يحس بانفلات الحكي من بين يديه، يتَدَخّلُ مباشرة، ويُعْلِنُ ذلك صراحة ودون تردد قائلا:” هنا اقتحَمَ المجَالَ سيّدُ الحكي كما هو مُفْتَرض؛ أي مخبولُ بابِ الجمعة، فقد أحسّ بالزِّمَام يَفْلِتُ منه، ولا بُدّ من التَدخُّل لِفَرْضِ تَوازُنٍ ما، بعد أن تعدَّدَ المتَدخِّلون، وتَضارَبت توجُّهاتُهم إلى حدٍّ بعيد..”11. فيستعيدَ دَفَّةَ الحكي من جديد، ويتولى قُمْرَةَ القيادة بنفسه. أما طبيعةُ السرد، فقد اختار الكاتبُ السرد المتَقَطِّعَ والتَّنَاوُبِي، من خلال رؤية مُصاحبة تتناسبُ مع مدى معرفَتِه بالشخصيات، والتي عادةً لا تتجاوزُ هي أيضا معرفَتَها به. كما جاء السرد مرحا ومُتنَوِّعا باعتماد الكاتب على عدة تقنيات فنية؛ مثل تقنية الاسترجاع أو Flash-back، توظيف تقنية الحلم، توظيف تقنية الرسالة، توظيف أسلوب اليوميات، توظيف التناص، توظيف المثل. وهذا التنوع هو الذي يَضُخُّ دماءً جديدة في النص، فيجدِّدَ حيويَتَه، ويَطْرُدَ الملَلَ عنْ قارِئِه.
من الملاحظات الأولى اللاَّفِتَةِ للانتباه، وأنت تتصفح هذه الرواية؛ هو كثرةُ الأمكنة، وتعدُّدُ الشخصيات الواردة فيها، بحيث قلَّما تجد صفحةً تخلو من ذكر شخصية، أو من تحْدِيدِ مَكَانٍ ما. ويكفي أن نضرب مثلا إحصائيا واحدا لتتبَيَّنَ الرؤيَةُ، ويَتَأَكَّدَ الحُكْمُ؛ وهو أننا عثرنا في الصفحات العشر الأولى فقط؛ أنه ذكَر خمسين شخصيةً مختلفة، وأزيد من أربعين مكانا مُتنوعا، بل وفي صفحة واحدة أخرى تمّ ذكْر أزيد من عشرين شخصيةً مختلفة 12. وفي الصفحة 45 مثلا، وفي مقطع من ثمانية (08) أسطر ونصف استحضر فيه (12) اثْنَىْ عَشْرَةَ شخصية، وكلُّهم تجار، وأصحاب مهن وحرف بقُبَّةِ السوق وما جاورها.
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مساحةِ المحكي من جهة، وعلى صخَبِ الأحداث التي تَعُجُّ بها مُخَيِّلَةُ الكاتب من جهة ثانية. وهذه الأمكنة والفضاءات تضيق وتتسع، وتكبر وتصغر حسب الأحداث والمآلات التي تكتنفها، فقد تكون فضاءً صغيرا كحانوت الصديق، حيث يهندس دوائِرَه الذهبية المُقَرْمَشَة، وقد تكون مدينةً أو فضاءً بحجم الوطن. ومثلُها تماما تَرِدُ الشخصيات في باب الريح؛ فقد تكون شخصيةً نافذة ذاتَ سلطان وجاه، مثل وزير أو باشا أو قائد، أو من علية الناس؛ مثل زعيم حزب أو نقابة، أو أستاذ.. وقد تكون مُجَرَّدَ رقم قَصِيٍّ دَنِيّ، في دركٍ سُفلي؛ مثل مخبول أو مهبول أو (حلايقي) بباب الجمعة..لكن الصراعَ والتدافعَ بين هذه الشخصيات هو الذي يُلْقِي بظلاله على الأمكنة ويُحَدِّدُها، وهو أيضا الذي يوجِّه الأحداثَ ويسُوقُها ويُوجِّهُها.
أما الزمان فجاء باهتا ومُهَلْهَلاً، بحيث يكادُ ينتفي تماما، ويتراجعُ أمام سُلْطَةِ المكان، ونَزَقِ الشخصيات، لذلك لا وجود له إلا في حُدودِه الدُّنْيا، من قبيل: “بعد أربعة أشهر ونيف” 13 “كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد الزوال..” 14” تتواصل ليالي أبيه دون انقطاع، بعد صلاة العشاء مباشرة..”15. وفي أحسن الأحوال بذكر أحداث دالة على تواريخِها، مثل: فجر الحرية والانعتاق، والمسيرة الخضراء، وأحداث الإضرابات في الثمانينات.. وغيرها. وحتى عندما وظَّفَ تقنية اليوميات في بعض السرد، تحت مُسَمَّى “مدارات من يوميات مخبول باب الجمعة”، اضْطَرَّ إلى ذكر الأيام والشهور ، لكن مع طَمْسِ السنوات، 16مما يُنْبِئُ بأن هذا النهجَ اختياريٌ في السرد، وأن له ما يبرّره جماليا على الأقل. ولم يُذْكَرِ الزَّمنُ صراحةً في الرواية إلا في مواضعَ قليلةٍ جدا، وهي عبارة عن وثائق شخصية؛ عثر عليها في صندوق الصديق العجيب، ذي ثلاثة أقفال؛ الأولى حملت تاريخ رسالة بعث بها الابن عباس من وجدة إلى أبيه الصديق. 17، والثانية عبارة عن عَقْدِ زواجٍ للأب الصديق مع كنزة، 18، والثالثة عبارة عن وثيقة لضريبة على الدَّخْلِ 19، والرابعة شهادة التَّرْخِيص لبناء سكنيَيْن باسم الصديق بن كمران المازوني. 20
هذا النمط من الأحداث سجَّل- هو الآخر- حضورا وافيا ضمن تَمَفْصُلات الحكي في الرواية، ويُزكِّي حضورَه هذا، ويُضْفِي مَشْرُوعِيَتَه، تكرارُ وتداولُ مقولة:”مدينة النحاس” هذه الصفة التي نعت بها الكاتبُ مدينةَ تازة منذ بداية الحكي إلى آخره، وعلى امتداد أزْيدَ من 180 صفحة، لم يذكر اسم مدينة تازة صريحا مطلقا، بل ظلَّ يرمز إليها فقط باسم مدينة النحاس، وهو تَوْصِيفٌ فيه ما فيه من الرمزية والدلالة. وطبيعي جدا أن تَتلبَّسَ الروايَةَ بعضُ المشاهد الأسطورية والغرائبية في الأحداث والأماكن والشخصيات. من قبيل وصفه لحال تازةَ مدينةِ النُّحاس، وكأنها مدينةٌ غرائبية؛ مدينةُ العاهات، والصراخ والجنون، إذ يقول:” الصراخ والجنون مترسب في أكثر من سلالات مدينة النحاس، من باب الزيتونة وباب الجمعة، وحتى باب الريح.. وقيل أن جيوشا من الأرواح والتنانين البشعة توقفت هنا في هذا الممر الغريب، ثم صعدت إلى مدينة النحاس العليا، وسكنت أزقتَها وأسوارَها وأبراجها ومعابدها وأضرحتها ودورها الكبيرة.” 21
ومنها وَصْفُه لحال شوّافة السوق البراني، وهي تحمل أشياءَها الصغيرةَ وتختفي؛ “كارطة اهترأت أوراقها من كثرة الطيّ والعيوط… قطعة ثوب مهلهلة من فرط مسح الكارطة بها، بضعة أعواد تساعدها على استقراء واستنطاق الماضي والحاضر والمستقبل إلى قفة قديمة صغيرة..” 22 ومنها شخصية طارزان العجيبة، الذي “أدار خاتمه الأصفر المتضخم على بنصره الأيسر وكان في قمة نشوته، وبمجرد دوران الخاتم، انهار تلّ كبير كامل من الرمال وأجهز على متطوعي المسيرة دفعة واحدة..” 23. بالإضافة إلى غموض الصراع بين بوسلام الممرض، وطارزان صاحب ” اللحية الشقراء والعصا الحديدية والخاتم السحري”24. وطقوس السحر والشعوذة التي مُورِسَت على “المختار” الذي كان رافضا للزواج، مما اضطر والدته إلى “وضع بعض شوكات العقارب وجلود الثعابين، والأذناب المشوية للفئران، وثلاثة عظام أوراك، جُلِبت من قبور النصارى، وضعتها في أحذيته وبخرت أخرى بين ثيابه، ولم تنس أن تكتب له لدى الفقيه سي عثمان وتبخر التميمة في ملابسه عند الفجر..” 25. وملامح وأطوار “منانة الجغرودية المعروفة بخربوشة” التي طارت شهرتها بمدينة النحاس، لجمالها المتفرد، والتي كانت تقطن بمجوسة في كوخ قرب الوادي، تحرسه الجنيات والساحرات وثلاثة تلال..” 26 دون أن ننسى مشهد الحضرة، وما يلُفُّها من بخور، مع نغمات ورنات المنشد “مولاي العربي العابد” التي تثير الأجساد..” عبر حمق جماعي متأجج، يَلُفُّ الفرحَ والألمَ والجنونَ والرعبَ والخشوعَ جميعا، ترتفع الزغاريدُ، وتهيمُ النساء قبل الرجال، تتلاحمُ الأرواحُ المعَذَّبَة بالأجساد المتْعَبَة، تتشابَك الأيدي فاسحةً أُفُقَ الصعود والنُّزول، في فُيوضاتٍ إلهية فادحة”. 27
منذ البداية يَسْتَبِدُّ الرَّمْزُ بتفاصيل الحكي، ويُصبحُ مُسْتَحْكماً في تَلاَبِيبِه وتَلاَوِينِه، ونُلاحظ بأنّ حُضُورَه مَقْصودٌ وغيرُ عَرَضِيٍّ.. وبأنّ الكاتبَ اتخذه شِرْعةً ومِنْهاجاً، بحيث ظلَّتْ نَفْسُ الرُّموزِ تتكَرَّرُ وبنفس حمولتها الدَّلاليَة من البداية إلى النهاية؛ وعلى رأسها مدينةُ تازة التي ظل يرمُز إليها بمدينة النحاس طيلة الحكي – كما أشرنا سابقا. ومنها:
وهذا الاختيار نابع- في اعتقادي- من قَناعاتٍ شَخْصيةٍ لدى الكاتب، وأيضا لأغراض فنية ساخرة. وبرغم موضوعيَتِه المفْرِطة، التي بلغت درَجَة العنعنة (ص:106)، إلا أن غُموضا شَفِيفاً ظلَّ يلُفُّ بعضَ الأحداث والشخصيات. بالنسبة للتناص، ونقصد به هنا التناص القرآني خاصة، فقد كان له حضورٌ مُلْفِتٌ، ومُتواتِرٌ على طول المتن الروائي، وقد جاء من الغزارة بمكان، بحيث يكفي أن نشير إلى بعضه على سبيل المثال لا الحصر. – قوله:” ولكنه يخْفِضُ الجناح لكنزة ” 28 يحيل على قوله تعالى: ” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا “.29 – “ورَجَمَتِ الأرصادُ الجوية بالغيب” 30 …. “.. سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ“31.
-“ضَحِكَ مَنْ معه، ومن اسْتَرَقَ السَّمع وعايَنَ المشهد من المارّة” 32.. ” إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ “.33 – “له الحقُّ في كلّ العناصر، ما ظهر منها وما بطن، حتى اختيار أَلَذِّ الوجبات..” 34” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا”.35 – “يشعر أن ميلود يكرهه…لعله يكرهه في ذاته، ولله الأمر من قبل ومن بعد”. 36 “غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الاَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُومِنُونَ”. 37 – .. أضف إليهم يتامى الصِّنْفِ الثاني من الشّاف عَمْرُو رحمه الله” ثلة من الأولين وقليل من الآخرين” 38 “والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين” 39. -“الأولاد عبَّرُوا عن كُرهِهم للَّكوط والسَّمطة والقضيب، وكل ما يأتي منها والله المستعان”. 40.. ” “بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ” .41 وغيرُها من الأمثلة الكثيرة التي تجاوزت الأربعين مثالا في إحصاء أوَّلي، يصعُب استحضارُها كلِّها لضيق المقال، وقد تناثرت هنا وهناك على طول مَسار الحكي الروائي، إلى آخر صفحة فيه. بل وفي آخر جملة من الرواية يقول مجيبا أخاه عباس، الذي سأله: هل أنهينا المشوار يا هذا؟ فيجيبه:” – قل سنبدأ بمشيئته وإذنه، سنعيدها سيرتها الأخرى”. 42 وهذا يحيلنا على قوله تعالى:” قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلْأُولَىٰ” 43.
وهذا التَسَرُّب القرآني- في نظري- مردُّه إلى الخَلفية الثقافية للكاتب، وخاصة من جِهةِ الأم التي قال في حقّها مُستحضرا ماضيها:” تحكين عن أبيك الفقيه المُتَبَتِّلِ الذي كان يَنْفُشُ شَعْرَكُنَّ بدون رأفة أو شفقة ويَرْفِسُ بيديه ورجليه في حُمْقِ الجِنِّ والإنس، من أجل حفظ الكتاب الكريم، يَعْتَبِرُ كُلَّ ذلك الرَّفْسِ والنَّفْشِ واجبا مُقَدَّسا..” 44. وإذا كان الكاتب قد رضع الروحانيات من والدته، فإنه بالمقابل وَرِثَ أُسلوبَ السخرية من أبيه، والطفلُ ثَمَرَةُ أمِّه وأبيه كما يقال. لذا ظلت شخصية الصديق طاغية على مسار الحكي والرواية، من خلال مجموعة من التعابير والمشاهد الساخرة، التي عَبِقَتْ بها فصولُ باب الريح؛ وهي جدُّ كثيرة ومتنوعة، يصعب حصرُها، لذا سأترُكُها لفضول القارئ لاكتشافها، والتفاعُلِ معها بطريقته الخاصة. وعلى رأسها مشهدُ أُضْحِية العيد، والسّفرُ إلى مدينة فاس.. وغيرُها، أما الآن فسأُعَرِّجُ بكم على مجموعة من الملاحظات التي أراها تنفع ولا تضر بإذن الله.
من الملاحظات الأساسية التي قد يستَجمِعُها القارئُ خلال رحلته القرائية لهذا المتن السردي؛ ما يلي: – تتصدر الروايةَ مقولاتٌ تتَّفِقُ جميعُها على إدانة الإنسان؛ ابتداء من قوله تعالى:” والعصر إن الإنسان لفي خسر”، ومقولة إيمل سيوران:” البشر ظاهرة فاشلة”، وقول أبي العلاء المعري: والذي حارَتِ البريّةُ فيه …. حيوانٌ مُستَحْدَثٌ من جماد، وهذه المقولاتُ المفاتيحُ كانت لُبَّ وعُصارَةَ أحداث الرواية؛ لأن الفشل والخسران والحيوانية كانت من أهم صفات وخصائص شخصيات هذه الرواية. – وجود مُفارقات مجتمعية رهيبة وغريبة؛ مثل: التقاء الشِلَّةِ المستمتعة بأنواع الكؤوس والمعجون والشقوفا في خلواتهم الخاصة، ثم يلتقون ثانية بالمسجد ساجدين ذاكرين ومسبحين. 45– حضور علال مخمورا في بيت العزاء، وأثناء دفن والده 46. – والأستاذ الذي يتجشّأ خمرا ثم يستغفر الله.47 – والساعة الحائطية التي تدق على جثمان الجدة فاطمة، وقد فارقت الحياة ولم تعد موجودة. 48– وتسلق “زغلال البصير” العمود الكهربائي للدخول إلى دار الخيرية، وهو الأعمى”.. 49 إلى غير ذلك من المفارقات العجيبة والغريبة. – المزج في السرد بين ما هو روائي، وما هو تاريخي، 50 وما هو سياسي 51، وما هو ثقافي 52. – المزج في السرد بين اللغة العربية الفصحى واللسان الدارج، وربما في حديث واحد متصل 53 – اتخاذ شخصية عبد الهادي نافذةً نُطِلُّ من خلالها على العالم الخارجي، خاصة في شقِّه السياسي. – تكرار كلمة “مفرز” في الرواية وتعددت استعمالاتِها، وهي من فعل (فرز) إلا أن استعمالَها جاء مختلفا، وفي سياقات متنوعةٍ من نسج الكاتب. 54– استعمال كلماتٍ نابية ومُستفِزَّة في الحوار، وكان بالإمكان تفاديها، وتحريرُ ألسنة الشخصيات من تَبِعَاتِها، امتثالا لمقولة: ” اذكروا موتاكم بخير”. – الجمع في – بعض الأحيان – بين هذه الكلمات النابية وبين اسم الجلالة أو القرآن الكريم. 55– ورود بعض الأخطاء المطبعية؛ وأكثرُها شيوعا: اللصق بين حرفين أو كلمتين في الجملة الواحدة، مما قد يُرْبِكُ القَارئَ، ويُعَطِّلُ فَهْمَهُ.
وختاما أقول: تعتبر رواية أو سيرة “باب الريح” وثيقةً مُتعدِّدَةَ المناحي والتَّمَاهِيات، وثَّقَتْ للعدِيدَ من الأحداث الخاصة والعامة، كما انتصرت لمدينة تازة العتيقة؛ مدينة النحاس، فأرَّخت لتُراثها المادي واللاّمادي؛ من أبواب، وأزقة وأسوار، وأضرحة، وأهازيجَ، وحضرة، وأكْلٍ، ولِباس، وتقاليدَ، وطُقوسٍ تهمُّ الأعيادَ والمآتِمَ، والزِّيجاتِ والأعراسَ.. وكُلُّ هذا لم يمْنَعْهَا من الانفتاح، والتفاعل مع المُحيطِ الدّاخلي والخارجي؛ فنَقَلَتِ العَديدَ من الأحداث السياسية والتاريخية الموثّقة، فكانت أحداثُ المطالبة بالاستقلال، وأحداثُ الاضرابات، والاحتجاجات الشعبية ضِدَّ الفقر وغلاء المعيشة، وما واكبها من أحداثٍ جِسامٍ.. بالإضافة إلى موضوع الصحراء المغربية التي ظلت حاضرة، ولم تَغِبْ عن المشهد السردي. أما عربيا وإسلاميا؛ فكانت فلسطينُ حاضرةً، ولبنانُ، والعراقُ، وإيران.. كُلُّ هذا عبر فلاشات خفيفةٍ، وغيرِ مُثْقِلَةٍ على السرد، وعلى المتَلقِّي سواء.. لكن تبقى أسرةُ: آلِ بن كمران المازوني هي المنَاطُ والمَدَارُ.. خاصة شخصية الصديق؛ هَدِيَّةُ السرد البَاذِخَةُ، التي ستبقى وتظلُّ راسِخَةً في ذهن القارئ لا تفارقه أبدا، لما صَاحَبَها من نِكاتٍ وقَفَشَاتٍ ومُستملحات بريئةٍ، تَعْجِنُ اليَأْسَ بماء التَّفَاؤُلِ، وتُعَطِّرُ الأَلَمَ بأَريِجِ الأَمَلِ.. وكذلك هي الحياة، وكذلك يُجْمَلُ بها أن تُعاشُ.. فشكرا لآل الصديق خاصة، على هذه الرحلة العجائبية المجانية عبر خطوط باب الريح وباب الجمعة وما جاورهما.
د ـ المداني عدادي (تازة في أواخر شهر رمضان 1444هـ).
—————————————————————————————————————————————————————————-
1 – عن مطابع الرباط نت، طبعة: 2022م.
2 ــ وإن كان صاحبها يصر على أنها ليست كلك، من خلالها مداخلته في حفل التوقيع، لكن تبقى هذه وجهة نظره تحترم، ورأينا أيضا له ما
يبرّره.
3 – الرواية، ص: 13.
4 – الرواية، ص: 9.
5 – الرواية، ص: 10.
6 – الرواية، ص: 67.
7 – الرواية، ص: 85.
8 – ينظر الصفحات: 78-83.
9 – الرواية، ص: 22/23.
10 – ينظر الصفحات: (98-106 و 163-168).
11 – الصفحة: 96.
12 – الصفحة: 33.
13 – الصفحة: 12.
14 – الصفحة: 15.
15 – الصفحة: 29.
16 – ينظر الصفحات: (98 – 106 و 163- 168).
17 – الصفحة: 120.
18 – الصفحة: 129.
19 – الصفحة: 130.
20 – الصفحة: 134.
21 – الصفحة: 12.
22 – الصفحة: (11/12).
23 – الصفحة: 12.
24 – الصفحة: 15.
25 – الصفحة: 68/69.
26 – الصفحة: 71/72.
27 – الصفحة: 75.
28 – الصفحة: 10.
29 – سورة الإسراء، آية: 24.
30 – الصفحة: 11.
31 – سورة الكهف، آية: 22.
32 – الصفحة: 16.
33 – سورة الحجر، آية: 18.
34 – الصفحة: 18.
35 – سورة الأعراف، آية: 31.
36 – الصفحة: 37.
37 – سورة الروم، الآيات: (1-2- 3).
38 – الصفحة: 44.
39 – سورة الواقعة، الآيات: (12-13-14-15-16).
40 – الصفحة: 72.
41 – سورة يوسف، آية: 18.
42 – الصفحة: 182.
43 – سورة طه، آية: 20.
44 – الصفحة: 66.
45 – الصفحة: 29.
46 – الصفحة: 127.
47 – الصفحة: 62.
48 – الصفحة: 133.
49 – الصفحة: 143.
50 – الصفحات:(12-13 و 62).
51 – ينظر الصفحات: (17 و 24 و28 و 46 و 142).
52 – الصفحات: (120-121).
53 – الصفحات: (69-96-98-99).
54 – ينظر الصفحات: (11-12-13-14-15-16-28-36-52-53-54-70-71-72-78-93-102… وغيرها من الصفحات).
55 – ينظر الصفحتين: (82-87 مثلا).