تازة بريس
جميل ما احتضنته المكتبة الوطنية للمملكة المغربية مؤخرا، من خلال لقاء احتفائي خاص توجه بعنايته للانتاج المغربي المكتوب، ولعل مما طبع هذا الموعد حضور معبر عن وزارة الثقافة وعن دائرة ناشرين وأسماء وأقلام أدبية مغربية، فضلا عن كلمة لوزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد بالمناسبة، من جملة ما أورد فيها حديثه عن عزم الوزارة إحداث خزانات ومكتبات عمومية بمختلف جهات واقاليم البلاد.
واذا كانت هذه المكتبات والخزانات العمومية تشكل فضاءات أساسية، تسمح بامكانية بلوغ كنوز المعرفة والفكر الانساني وتمنح ايضا امكانية الاطلاع على ابداعات وتصورات انسانية ومقاربات..، فهي مدعوة للتجاوب مع انشغالات واهتمامات الجميع على تباين مستوياتهم، مع السماح لهم بمواكبة ومسايرة عصرهم، حتى لا يتوقفوا عن تكوين وتأهيل وتثقيف انفسهم من جهة، حتى يظلوا على معرفة بما يطبع واقعهم من تقدم وتطور يشهده مجال الفكر والعلم والفن وجميع اشكال التعبير الثقافي من جهة ثانية. وحتى تكون هذه المكتبات والخزانات العامة منسجمة مع ما هناك من تطلعات مجتمعية ثقافية، فهي بحاجة لحسن تدبير ورونق فضلا عن إغناء وتجديد باستمرار، لجعلها وجعل محتوياتها حية متفاعلة مع ما يحكم المعرفة والثقافة من تطور، لمساعدة وتمكين القارئ على تكوين ذات ورأي ومهارات ومؤهلات نقدية وابداعية وغيرها. ناهيك عما يسجل من تباين طبيعة خدمات بين خزانات تقليدية تقوم على كتب مطبوعة، وبين ما هو حديث منها بما في ذلك الرقمية لما تضعه رهن اشارة القارئ من وسائط متعددة غير خافية عن مهتمين. وتبقى الخزانات والمكتبات عموما بفضل ما تتوفر عليه من مؤلفات ووثائق وغيرها، فضاءات رحبة مستقبلة في رحابها للجميع قارئا وباحثا ومهتما.
وغير خاف ما اسهمت به المكتبات والخزانات المغربية منذ الاستقلال، سواء العامة منها التي كانت تابعة لوزارة الثقافة أو للبلديات محليا، أو الخاصة التي ارتبطت عناوينها بعدد من أعلام الفكر المغاربة هنا وهناك ببعض مدن البلاد، من أدوار طلائعية في التنشئة على القراءة واثراء الحياة المعرفية الثقافية والجمالية، فضلا عما هو متعة وانفتاح واكتشاف وتأمل وتوسيع لسبل تعبير وخطاب..، ويسجل أنه رغم ما توجد عليه الحياة الجديدة من متغيرات عدة بما في ذلك عالم التواصل والتكنولوجيا وثقافة الرقميات، فإن المكتبة المغربية رغم ما شهدته من نزيف معبر خلال السنوات الأخيرة، لا تزال وجهة قائمة ممتدة بخدمات لقارئ وقراءة وباحث وأبحاث. وقد تميزت عدد من المدن المغربية بخزانات باتت جزءا من هويتها وكيانها، منها من لا يزال نشيطا بحكم ما احيطت به من عناية وحضن وتثمين وحماية، ونظرا ايضا لما تحتويه من وعاء مؤلفات ووثائق ومطبوعات وأرشيف، ومنها من تراجع نشاطها ولم تعد بما كانت عليه من جذب وتفاعل وحماية واعتبار وحضن وإقبال، لدرجة أن منها من توقفت خدماتها وبات ما كانت تحتويه من نفائس كتب ومؤلفات ونصوص ومجلات بالعربية والفرنسية، فضلا عن تقارير وأرشيف ونسخ دراسات واطروحات وغيرها في حكم وعِداد المجهول. بل باتت موضوع سؤال لرأي عام حول اين وكيف انتهى مصيرها، ومصير ذخيرة ما كانت تقوم عليه من آلاف المؤلفات والدراسات التي استفاد منها آلاف الباحثين والدارسين والقراء على امتداد عقود، عندما كانت هذه المكتبات جزءا من كيان وذاكرة ومشهد هذه المدن.
وعلاقة بما ورد من حديث في لقاء احتضنته المكتبة الوطني بالرباط مؤخرا كما سبقت الاشارة لذلك، خاصة ما جاء في كلمة وزير الثقافة والتي أشار فيها الى عزم الوزارة إحداث خزانات عمومية ومكتبات في أفق عدة وتطلعات. في علاقة بهذا وذاك وبقدر ما نثمن رهان الوزارة الترابي الثقافي، ارتأينا اطلالة وتساؤلا وتفاعلا مع شأن المكتبات والخزانات التابعة، من خلال نموذج واحدة من مدن المغرب ويتعلق الأمر بمدينة تازة. باعتبار مكتبتها وخزانتها العمومية التي ظلت تابعة لوزارة الثقافة، تشكل إرثا محليا رمزيا وذاكرة ومرفقا كان باسهامات هامة لعقود من الزمن. وقد ارتبطت هذه الخزانة في أول أمرها عند إحداثها بتعاون مع بلدية المدينة، التي وفرت آنذاك مقرا لها بساحة الاستقلال بقلب المدينة الجديدة تازة السفلى منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، وقد ظلت تحتل هذه الخزانة الطابق العلوي لمؤسسة المعهد الموسيقي منذ هذه الفترة الى غاية أواسط تسعينات القرن الماضي، عندما تم نقلها الى مقر المندوبية الاقليمية لوزارة الثقافة بتازة العليا، لتستمر في تقديم خدماتها المعهودة سواء تعلق الأمر بالقراءة والمطالعة أو تقديم ما يفيد الأبحاث والدراسات. نظرا لما كانت تحتويه من ذخيرة كتب ووثائق منها عدد هام من الدراسات الأكاديمية والأطروحات النادرة عن فترة السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات. بل شكلت هذه المكتبة لِما احيطت به من عناية بعد نقلها من مقرها السابق الذكر، وجهة أساسية للباحثين والدارسين وللطلبة الجامعيين، بحيث كانت بنصيب معبر في تأثيث عدد من بحوث الاجازة وحتى بعض نصوص دراسات عليا آنذاك. مع أهمية الاشارة الى أن ما كانت تحتويه هذه الخزانة من مؤلفات وكتب ومصادر ومراجع وغيرها، كان متنوعا يشمل جميع فروع المعرفة والفكر وواسعا ايضا ببضعة آلاف من النسخ وباللغتين العربية والفرنسية. ولعل المندوبية الاقليمية لوزارة الثقافة بتازة (دار السملالي سابقا) التي كانت تحضن هذا المرفق منذ نقله اليها، ظلت حريصة على العناية بهذه الخزانة واشعاعها وتفاعلها، بل ظلت كنوز هذه الخزانة من المؤلفات والوثائق جاذبة للقراءة والبحث والدراسة ومؤثثة لعدد من الأنشطة الموازية، تلك اتي جعلت مندوبية الثقافة منصة بقدر كبير من آليات اشعاع ودينامية ابداع وتعبير فني وتفاعل لمجتمع مدني الى عهد قريب.
إنما بعد هدم بناية المعهد الموسيقي ذات التعمير الكولونيالي وقد كانت هذه في الأصل تابعة لبلدية تازة، ومن أجل حسن استثمار مساحة هذه البناية وموقعها الهام الذي يتوسط قلب المدينة، ولجعل طبقات البناية الجديدة مستوعبة من جهة لمعهد موسيقي يعود تاريخ إحداثه لمطلع سبعينات القرن الماضي، ومستوعبة من جهة ثانية لمرافق التدبير الاداري الأخرى الخاصة بمديرية الثقافة (إدارة، مرآب، رواقات، قاعات عرض، مكاتب..)، تم نقل كل أثاث مديرية الثقافة بتازة الى مقرها الجديد(المعهد الموسيقي سابقا)، بما في ذلك خزانة الكتب موضوع هذه الاطلالة.
وهنا سؤال رأي عام واسع بالمدينة حول مصير هذه الخزانة التي لم تعد بما كانت عليه من أثر، وحول مصير ذخيرتها النفيسة وأين انتهى حال ما كانت تحتويه من مؤلفات وكتب ومطبوعات وأبحاث ودراسات منها من هو نادر، يهم مجال الأدب والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتصوف والفقه والفنون والاقتصاد وغيرها، وأين انتهى مصير ما كانت تحفظه من مساحة ضخمة من مجلات محكمة ثقافية مغربية وعربية ودولية تهم مختلف المجالات والاهتمامات باللغتين العربية والفرنسية. علما أن خزانة وزارة الثقافة هذه، لم تكن بما ينبغي من دينامية وخدمة مثلما كان عليه حالها قبل على الأقل ثمانية سنوات، بل يكاد يكون صوت هذا المرفق الذي يعد جزء من الفعل الخدماتي التدبيري الثقافي محليا، انتهى وتوقف واصيب بركود وجمود تام خلال السنوات الأخيرة.
يبقى سؤال الرأي العام المحلي مفتوحا حول مصير هذه المعلمة، وعيا بأهمية استمرارية خدماتها انسجاما مع ما جاء في كلمة وزير الثقافة في لقاء احتفائي احتضنته المكتبة الوطنية حول الكتاب والكتابة والانتاج المغربي المكتوب يوم 16 فبراير الجاري. ولعل مما أورده في كلمة له بالمناسبة، عزم الوزارة إحداث خزانات عمومية ومكتبات بمختلف جهات واقاليم البلاد من اجل دمقرطة الثقافة. وعليه تفاعلا مع تطلعات الوزارة الوصية هذه، وحفاظا وتنزيلا لتوجيهاتها من أجل قيم القراءة والكتاب والكتابة والثقافة والمثقفين والبحث والباحثين، من المفيد إعادة الحياة لخزانة تازة العامة التابعة لوزارة الثقافة وارجاع الاعتبار اليها ولما كانت عليه من اسهامات واشعاع، من خلال تخصيص مرفق خاص ضمن البناية الجديدة التي لا شك أنها تتسع لأكثر من رهان محلي ثقافي، فضلا عما هناك من اهتمامات مقامات فنون وفنانين ومبدعين ولقاءات وتفاعلات وعروض وغيرها. بل من المفيد مراجعة وعاء هذه الخزانة من حيث ما كانت عليه من ذخيرة نفيسة والتأكد منها، لأنها ملكا جماعيا تم تأثيثه وتوفيره بالمال العام ومرفقا عموميا يقتضي سؤالا وتتبعا ومساءلة.
مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث